بقلم م عزالدين عناية
القدس.. مدينة السلام وبؤرة الصراعات
يحوز هذا الكتيّب أهمية معتبَرة لِما يتضمّنه من عرضٍ كافٍ لوجهة النظر الكاثوليكية، بشأن الموقف من فلسطين بوجه عام ومن القدس بوجه خاص. فقد أُنجِز هذا المؤلَّف على أساس نصّ حواريّ أُجري مع رئيس الأساقفة الإيطاليّ برونو فورتي، المكلّف من قِبل البابا فرنسيس ماريو برغوليو بملفّ علاقات حاضرة الفاتيكان باليهودية واليهود. لماذا يهمّ القارئ العربي الاطلاع على رأي الكردينال برونو فورتي بشأن مدينة القدس؟ تلوح أهمية ذلك لأنّ الرجل يترأس الهيئة الفاتيكانية المكلّفة بالشأن اليهودي، وهو عضو في اللجنة المختلطة الدولية بين الكنيسة الكاثوليكية والحاخامية الكبرى في إسرائيل المعنيّة بمتابعة الشأن الديني ذي الصلة بالطرفين اليهودي والمسيحي.
حيث يجلي الكتاب العديد من النقاط اللاهوتية والسياسية الدقيقة بين الجانبين اليهودي والمسيحي. فغالبا ما يتعذّر على غير المختص الإلمام بتشعّبات سياسة الكنيسة والموقف المسيحي من القدس ومن فلسطين ومن إسرائيل، فتبدو الأمور ضبابية أو يطبعها التضارب والتداخل. يُجلي هذا الكتيّب مظاهر الغموض في الموقف الكنسي، فهو يشبه “الاعتراف” بشأن قضية حسّاسة تتمثّل في مدينة القدس.
ينطلق فورتي تبعًا للأسئلة المطروحة عليه من جانب المحاور الصحفي جوسيبي كافوللي، المقرَّب من الأوساط الدينية في حاضرة الفاتيكان، من تحديد ملامح المدينة المقدّسة على مستوى ديني وعلى مستوى تاريخي. فهي وفق قراءته مدينة السلام، ولكن أيضا مدينة الخصام والنزاعات. حيث يورد فورتي توصيفا للمدينة مستوحى من تراث الأحبار يقول: حين خَلق الله العالم، خصّ مدينة القدس بتسعة أعشار مقادير الجمال وترك العُشر الباقي للعالم؛ وبالمثل خصّ القدس بتسعة أعشار مقادير الحكمة وترك العُشر الباقي للعالم؛ وعلى غرار ذلك خصّ المدينة المقدسة بتسعة أعشار مقادير الآلام وترك العُشر الباقي للعالم.
وما يُلفت النظر في الكتاب الإلحاح المفرط على استدعاء القيمة الروحية للمدينة المقدسة، في اليهودية والمسيحية، دون لفت الانتباه إلى واقع الاحتلال الذي ترزح تحته، كونها مدينة رهينة مصادَرة من أهاليها وأصحابها الشرعيين، وهو ما يشي بإضفاء مشروعية على الواقع السائد في التاريخ الحالي. إذ يخرُج الكتاب عن واقعية التعاطي مع المدينة، ليغرق في دلالات مفارقة ذات أبعاد صوفية مستوحاة من سفر المزامير أو من سفر الرؤيا ليوحنا اللاهوتي خصوصا، على غرار استحضاره: “ثمّ رأيَا سماءً جديدة وأرضًا جديدة لا بحر فيها، لأنّ السماء والأرض القديمتين قد زالتا. وأنا رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء عند الله، مجهزة كأنها عروس مزينة لعريسها” (الرؤيا21: 1-2).
إن الاستحواذ على القدس، كما تعبّر عنه السياسة الإسرائيلية له ما يناقضه، فالقدس للذين يراعون قداستها، وليس كما تذهب الرواية الحصرية والعنصرية في اعتبارها ملكا للشعب المختار. فالنبي المؤسس “للدولة اليهودية” كما تزعم الرواية الصهيونية، داود (عليه السلام)، ما كان من ذلك “النسل المختار”، فهو مؤابي ابن مؤابية، وهو عادة ما لا يتوقف دارسو التراث اليهودي من اليهود كثيرا عند تحدّره السلالي.
يستعيد الكردينال برونو فورتي قولة لفريديريك مانز، أحد المتخصّصين في الكتاب المقدس اليهودي، “لن يتسنى بلوغ المصالحة إلا متى صَفَح الواحد منّا عن الشتائم، وهجر الزعم القائل بأنّه وحده من يُجلّ القدس، فهذه هي الضريبة اللازمة مقابل السلام. إذ لا يتعلّق الأمر بصياغة إيديولوجيات جديدة، بل بفسح الطريق أمام الله الذي يدقّ على الأبواب. فقد دعا ربُّ الميثاق إسرائيلَ وبشكل متكرر إلى مراعاة الغريب الذي يعيش في أحضانها. وما دام ليس هناك سلام بين الأديان فبالمحصلة ليس هناك سلام في القدس”. الواضح أنّ ثمة مغالطات لا حصر لها في الخطاب الديني “الأخوي” ذي المنزع العاطفي بين الأديان الثلاثة، يتغاضى أحيانا عن المظالم والانتهاكات التي يتأذى منها الفلسطيني باجتثاثه القسري من أرضه وتهويد تاريخه. فلا شك أنّ مسعى تهويد القدس وقلب حقائق التاريخ يجد كلاهما دعمًا من سلطة عسكرية غاشمة، يفوت برونو فورتي إيراد ذلك في الكتاب. ومن هذا الباب لن يثمر الخطاب التصالحي ما افتقر إلى مراعاة حقوق الناس، لأن الشرائع السماوية هي بالأساس مراعاة لحقوق الناس قبل أن تكون محبة هائمة.
نرصد في الكتاب روحا دينية حالمة تطارد السلم، لا تستوفي الشروط الواقعية. والحال أنّ السلم مقرون بالعدل والعدل سبيله العمل: “… اُطلبِ السّلامَ واعملْ له” (المزمور34: 14). فهناك حذرٌ سياسيٌّ مبطن في قول برونو فورتي، بشأن أعداء السلام، سيما وأنّ الرجل موكل إليه ملف العلاقات اليهودية المسيحية في حاضرة الفاتيكان. ذلك أنّ السلم تتعذّر إشاعته ما لم يصاحبه العدل: “فيسكن في البرّية الحقّ والعدل في البستان يقيم. ويكون صُنعُ العدل سلامًا وعملُ العدل سكونًا وطمأنينة إلى الأبد. ويسكن شعبي في مسكن السّلام وفي مساكن مطمئنّة وفي محلّات آمنة” هكذا عبّر النبي إشعياء عن تلك الثنائية في السفر المنسوب إليه في الإصحاح (32: 16-18).
وفي القسم المخصّص للحديث عن رمزية القدس ودلالاتها في المنظور الإسلامي، تبدو معلومات برونو فورتي شحيحة وسطحية أحيانا، ولا تستوعب العمق الأنطولوجي الذي أرسته معاني الإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. ليحضر بدل ذلك تنظير لتحويل المدينة إلى عقار ديني متقاسَم بين طرفين يهيمنان على الساحة الدولية: الإسرائيليون بالداخل والمسيحيون بالخارج، مع إغفال واضح للطرف الإسلامي، وما في ذلك من حيف، وهو ما لا يساعد على تسوية الأمور بشكل منصف وعادل.
يكشف رئيس الأساقفة برونو فورتو عن ضحالة معرفية بشأن الإلمام بعلوم القرآن حين يذهب إلى غياب التفسير والتأويل لدى المسلمين، ومجرد ما يتراءى له ما يطلق عليه “تطبيق” القرآن من قِبل المسلمين (ص: 42). إذ يلغي فورتي تلك العملية الإدراكية للمسلم التي تصله بالنص الموحى ليضفي جمودا مبطنا على العقل الإسلامي. وبما يعني غياب الجدل الواعي بالنص والحضور للتطبيق المسقَط لتعاليمه. بناء على ذلك ينفي إمكانية قيام حوار يهودي-مسيحي مع المسلمين مدّعيا أنّ مفهوم الوحي بين الطرفين على نقيض. ربما لسائل أن يسأل متى كان للمسيحية نظرية أو خطة في استيعاب الآخر ضمن نسيجها الاجتماعي مبنية على أساس ديني؟ لم يحصل ذلك سوى بعيد مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، ومع انطلاق الحديث عما يُعرَف بـ”لاهوت الأديان” الذي ما زال يشق طريقه بصعوبة بالغة.
يَعتبر رجل اللاهوت فورتي النظرَ اليهودي إلى القدس نظرًا دينيا لاهوتيّا بوصف المدينة المقدسة موضعا للإرادة الإلهية التي أقرّت ذلك، في حين يعتبر النظر العربي للقدس ذا ملامح تاريخية ويفتقر إلى البعد الديني، بوصف مركز الثقل الديني لدى العرب والمسلمين يقع في جزيرة العرب. ثمة تسطيح للدلالة الإسلامية الرمزيّة لمدينة القدس لدى فورتي، يفتقر إلى الوعي بالمنظور الإسلامي للأنبياء ورسالات التوحيد الموحَّدة، فلا يجبّ الإسلام حق اليهودية والمسيحية في إجلال القدس، بوصفها رأسمالا رمزيا عميقا في الأديان الإبراهيمية؛ ولكن ما ينفيه هو الطغيان الممارَس في حقّ المعنيين الآخرين بهذا الرأسمال الرمزي للقدس. تلك الاحتكارية الطاغية هي ما أراد الإسلام كسرها لخلق انفتاح إيماني مبني على أسس جامعة شاملة.
يقتضي فهم التقارب المسيحي اليهودي في التاريخ المعاصر إلمامًا بالتحولات الجارية في ساحة السياسة الدولية. فمنذ ما يزيد عن خمس عشرة سنة انطلقت مفاوضات، على قدم وساق، بين كنيسة روما والحاخامية الكبرى في إسرائيل، أي منذ الاعتراف المتبادل بين الجهتين (حاضرة الفاتيكان ودولة إسرائيل) سنة 1993، وذلك في أعقاب أوسلو. فالصورة الرائجة أو المروَّجة عن تلك المفاوضات، بين الجانبين الإسرائيلي والفاتيكاني، أنها تتعلق بالإعفاءات الضريبية من عدمها، وبموضوع التأشيرات لرجال الدين، وبالأوضاع القانونية لبعض المناطق المقدسة المسيحية والتي من مجملها عليّة صهيون، موضع العشاء الأخير للسيد المسيح مع حواريه، وهو المكان الذي يُرجَّح أنه يضمّ مقام النبي داود والمصلّى الصغير الذي يُعرف بكنيسة الحواريين. وقد بقي المكان طيلة عهود سابقة تحت رعاية عائلة الدجاني المقدسية إلى حين تم ضمّه إلى وزارة الأديان الإسرائيلية، وهو في الوقت الحالي في قبضة المتدينين اليهود.
لكن الواقع أنّ تلك المفاوضات تبدو سائرة باتجاه ما هو أهمّ ألا وهو القبول بالأمر الواقع، والإقرار بسيادة إسرائيل التامة على القدس، مقابل الاعتراف بتسيير تنظيم الفرنسيسكان، فصيل الرهبنة التابع لكنيسة روما، لموضع العشاء الأخير وإقامتهم القدّاس في المصلّى الصغير. أي الاستغلال التام مقابل التنازل التام عن الملكية. تجري عملية المفاوضات بقيادة المالطي أنطوان كاميلاري الذي خلف سلفه إتوري باليستريو، بعد أن أُبعد الأخير إلى كولومبيا جراء تورطه في التستر على عمليات فساد أخلاقي.
ما يطفح من فحوى الكتاب أنّ مدينة القدس تعاني من الاستحواذ، ونقصد به السعي الحثيث لتقاسم الإرث الروحي للمدينة المقدسة بين طرفين: المسيحية الغربية، وأساسا منها مسيحية روما، ويهودية إسرائيل. يبدو التغييب لمختلف الكنائس الشرقية الأخرى متعمَّدا، ناهيك عن الإقصاء المقصود للطرف الإسلامي الذي يمثّل النقيض. فهناك تسييس مبطَّن للقدس مسكوت عنه في عملية التفاوض بشأن المدينة المقدسة، يجري فيه تغييب الطرف الإسلامي بشكل لافت.
في جانب آخر من الكتاب يلمّح برونو فورتي إلى الانقسام الليتورجي الحاصل بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الكاثوليكية داخل مدينة القدس، مع ذلك يرصد التحول المتطور من حيث القبول بالآخر، وهو نتاج حوار متواصل في العقود الأخيرة بين مختلف الكنائس بفضل الدعوات المسكونية. لا شك أنّ الكنيسة قد شهدت تحولا استراتيجيا مهمّا منذ مجمع الفاتيكان الثاني، تمخّض عن رؤية جديدة في التعامل مع العالمين المسيحي وغير المسيحي؛ لكن ذلك التبدل لم يغير من مطامع الاستحواذ على الرأسمال الروحي الرمزي للمسيحية من قِبل كنيسة روما. فقد خلّفت الهيمنة الدينية للكنيسة الكاثوليكية على البقاع المقدسة تغريبًا للمسيحية الشرقية وأوْرَبةً لها. ففي ظلّ التوتر الدائم بين السلطات الدينية اليهودية المتحكمة بالشأن الديني في المدينة العتيقة مع مختلف الأطراف الإسلامية والمسيحية العربية، تطوّر تنسيق وتشاور وتفاوض بين كنيسة روما والسلطات الدينية اليهودية.
لا شك أنّ هناك تناقضات كبرى تعيشها المسيحية في المشرق، من جانب تنتشر حالة من التخويف من الأوساط الإسلامية، ما دفع العديد من الكنائس الصغرى إلى الارتماء في أحضان حاضرة الفاتيكان، بحثا عن حماية زائفة. فجرى خلق الموارنة الكاثوليك والسّريان الكاثوليك، والأقباط الكاثوليك، والكلدان الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك؛ ومن جانب آخر ثمة حالة من التضييق من قِبل السلطات الإسرائيلية في الداخل الفلسطيني، دفعت بالعديد من الكنائس إلى البحث عن حماية من الكنائس الغربية النافذة والمقتدرة ماديا. وهو ما انعكس مباشرة على أعداد المسيحيين العرب، حيث تضاءلت النسبة في فلسطين إلى 2 بالمئة في وقت كانت تقارب في ما مضى 35 بالمئة. فلا يمكن مقارنة الأوضاع المادية للكنائس الغربية المتلهّفة على موطأ قدم في الأرض المقدسة مع الكنائس الوطنية الفقيرة والمعدمة، التي غالبا ما وقعت داخل هذا التناقض رهن الإغراء. وإن كان ثمة كنائس شرقية قد عوّلت على تلك الحماية الغربية المزعومة، فلم تجن منها سوى الذوبان في مؤسسات دينية عملاقة.
ينبغي ألّا نغفل عن التطوّر الحاصل في الحوار اليهودي المسيحي منذ عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين (1958-1963) وما صحبه من انفتاح مع “نوسترا آيتات”، فحين قدم الحاخام الفرنسي جيل إسحاق (Isaac Jules) على البابا يوحنا الثالث والعشرين علّق الأخير قائلا: “ما كنت أفكر أنّ حاخاما يمكن أن يكون طيّبا لهذا الحد”. فرد عليه الحاخام بالمكر ذاته: “ما كنت أفكر أنّ البابا أيضا يمكن أن يكون طيبا لهذا الحد” (ص: 37). لقد حصلت تطورات هائلة في العلاقات اليهودية المسيحية منذ صدور نوسترا آيتات، حيث بدأت الكنيسة تسعى بشغف لإعادة اكتشاف جذورها اليهودية وكأنها تستدرك ما فاتها.
يتطرق برونو فورتي في منتهى الكتاب إلى الإغواء الحاصل في أوساط اليهود بفعل الصهيونية والحثّ على التوجه صوب “إسرائيل” في مطلع القرآن الفائت. وهو ما جعل العديد من اليهود، من المثقفين والأساتذة والشعراء يهجرون أوطانهم الأصلية ليختاروا “العاليا” باتجاه فلسطين. دبّ في هذا الانجذاب فتور بعد مرور السنوات، وبات أبناء القادمين يبحثون عن مقام جديد خارج “الأرض الموعودة” في أمريكا وفرنسا وأنجلترا، فقد تسرّب فتور داخلي للتحفّز شبه الصوفي، أبان عن اكتشاف ملموس لذلك الوهم المتلخص في شعار “العام القادم في أورشليم”. لعل قانون يهودية الدولة (2018) هو في عمقه ردّ فعل على ذلك النزيف الصامت الذي تتعرض له إسرائيل من الداخل، كما يرصد اللاهوتي برونو فورتي، فهناك محاولات لإيقاف الذوبان الإرادي الذي تعيشه إسرائيل والحيلولة دون تطوّره.