ذكرى مولد الرسول وكيف نحييها باختصار وإجمال

ذكرى مولد الرسول وكيف نحييها باختصار وإجمال

إعدد: السيد نصر

لا أعلم يوماً من عمر الدهر كله ازدهت الإنسانية بفرحةٍ غامرة، وسعادة لا توصف، واكتست جلباب الفرحة والأنس والبهجة كاليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن ثم من اليوم الذي بُعث فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولو لم يكن هناك ما يعبر عن فرحة الإنسانية كلها بهذا الشكل الذي أقول بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قول الله عز وجل: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” لكفى، فكيف وقد أضاف الله عز وجل إلى ذلك قوله: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ”.
 
فلا عجب أيها الإخوة إن ازدهت الإنسانية اليوم وجددت فرحتها هذه بذكرى مولد حبيبها المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعبرت عن هذه الفرحة بكل ما تملك التعبير به عنها، وقد علمنا جميعاً أن فرحة الإنسان إنفعالٌ قسري ولم يكن يوماً ما فعلاً اختيارياً، الحب .. الابتهاج .. الفرحة .. التأثر بالذكريات .. كل ذلك انفعال يفرض نفسه على الكيان والشعور وليس فعلاً اختيارياً يريده الإنسان أو لا يريده. ولكن أيها الإخوة ينبغي أن نعلم أن الإنسانية عندما تجدد فرحتها هذه في مظهر عباد الله المؤمنين بالله عز وجل ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن تفسر فرحتهم على أنها وسيلة إلى غاية، وطريق إلى هدف، وهذه حقيقة لا يرتاب بها أبداً، فالإنسان الذي عاد إليه محبوبه بعد غياب لا بد أن يعلن عن فرحته بقدومه، ولا بد أن يعبر عن عظيم حبه له، لكن ذلك كله إنما هو دليلٌ على تعامله مع هذا المحبوب، دليلٌ على خطته التي يسلكها مع هذا الذي جاءه على شوق وبعد طول غياب.
 
نعم، فرحة العالم الإسلامي اليوم بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل، أي إنها تدخل تحت القاعدة الشرعية القائلة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب. عندما يبتدع الناس وسيلة ما يضطرون إلى ابتداعها لأداء واجب كلفهم الله عز وجل به، تكون هذه الوسيلة المبتدعة واجباً مثل الواجب، هكذا تقول القاعدة الشرعية. ولكن عندما نجعل من الوسائل غايات، ونجعل من الفرحة برسول الله صلى الله عليه وسلم هدفاً بحد ذاته، وعندما يكون تعبير العالم الإسلامي بفرحته بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي يراوح في مكانه فهذه ليست فرحة حقيقة، الفرحة الحقيقية مشروعة دائماً لكن هذه لا تعد فرحةً حقيقية بل هو تمثيلٌ مصطنع.
 
نحن نرحب بالمنبه الذي يضعه الراقد عند رأسه ليعينه على الاستيقاظ لقيام الليل أو لأداء الفجر في ميقاته ونقول نعم البدعة هذه سبيلاً لا مناص منه لقيام الليل أو للنهوض باكراً إلى صلاة الفجر. ولكن عندما يتعامل هذا الراقد مع المنبه بطريقة أخرى، عندما يستيقظ ليسكت المنبه ويعود إلى رقاده فقد باءت فائدة هذا المنبه بالخيبة وأصبح أمراً لا فائدة منه. هكذا تفسر الفرحة بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. منبه من شأنه أن يعيدنا من جديد إلى بيعةٍ صادقةٍ مع رسول الله، من شأنه أن يوقظنا من جديد إلى بيعة صادقة مع الله سبحانه وتعالى، هذه هي وظيفة فرحة الإنسانية اليوم، فإما أن تحقق هذه الفرحة هدفها، نعمة الفرحة ونعمة المنبه، وإما أن تكون هذه الفرحة كما تلوح لنا عن يمين وشمال، وهي ظاهرة متكررة تذكرنا كما قلت بذلك الذي يراوح في مكانه، فإن الأمر يغدو تماماً كما قلت لكم كشأن الذي يسمع صوت المنبه يوقظه للقيام إلى الصلاة فيستيقظ ريثما يسكت المنبه ثم يعود إلى رقاده الثقيل.
 
أيها الإخوة في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينبغي أن نتلمس أماكن جراحاتنا، وينبغي أن نستبين أسباب هذه الجراحات، وفي ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن لا نتيه عن الدواء الأوحد الذي يضمد هذه الجراحات ويقطع هذا النزيف، فإن تنبهنا وإن عرفنا هذا الذي لم نعرفه من قبل فنعم الابتهاج لذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلتعلموا أن هذه الذكرى ستكون شهيداً علينا كلما تكررت عاماً إثر عام إثر عام.
 
أيها الإخوة لا أفهم للابتهاج بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا معنى واحد، هو التعبير الذي يجيش بين جوانح الإنسان ويضيق صدره به ويأبى إلا أن ينعش نفسه بالتعبير عنه، ألا وهو حب العبد المؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبقاً لما قال وأوصى فيما رواه الشيخان والإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين” هذا هو المعنى الوحيد لابتهاج الأمة الإسلامية بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم. فإما أن نكون صادقين في هذا التعبير وإما أن نكون كاذبين، والشواهد لابد أن تنطق إما بتصديقنا أو بتكذيبنا متى تشهد الوقائع والشواهد بتصديقنا؟ إن وضعنا في فرحتنا هذه معنى السلوك المتفق مع هذه الفرحة.
 
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان حبهم له خطباً مدبجة في حفلات؟ هل كان حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات ألقيت في أقنية فضائية سيارة؟ ليس الأمر كذلك، كان حبهم عبارة عن دافع إلى سلوك، عن تيارٍ كاو حارٍ يدفع هؤلاء المحبين إلى السلوك الذي قد عرفتموه ،وكانت فاتحة هذا السلوك بعد الإيمان الصادق بالله والإيمان برسول الله والحب الذي هيمن على أفئدتهم لكل من الله ورسوله كانت البوابة الانقياد لقول الله عز وجل: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ”، كانت البوابة الأولى الانقياد لقول الله سبحانه وتعالى: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”، وقول الله عز وجل: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا”. لم يجدوا عنةً أيها الإخوة في الانقياد لهذا الأمر الرباني بل انساقوا إلى ذلك بشكل آلي، أقول آلي وافهموا حقيقة ما أقول؛ عندما تكون ثلةٌ من الناس قد فاضت أفئدتها بحب إنسان لابد أن تنقاد شاءت أم أبت لتعاليمه، ولا بد أن تمتد فيما بينها شبكة الألفة والاتحاد والتضامن سيراً وراء هذا المحبوب الذي أصبح هو محور سلوكهم وتقلباتهم. فكيف إذا كانت هذه الثلة أمة ً اتجهت بشراشرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحب، هل يبقى بين أفرادها حاجز بغضاء؟ هل يبقى بين أفرادها أو فئاتها حاجز تنافر؟ هل يبقى شيءٌ من ذلك حب رسول الله المتفرع عن حب الله لابد أن يذيب ذلك كله ومن ثم فلابد أن تتحد هذه الأمة وهكذا فسرت تلك الأمة محبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مثال التشاكس مثال التنافر والتنابذ فلما سرت محبة الله ومن ثم محبة رسول الله إلى أفئدة أفراد تلك الأمة ذابت واضمحلت تلك التضاريس المفرقة، وتحولت تلك الأمة خلال سنوات بل أشهر إلى أمة واحدة ضربت المثل الأعلى في الاتحاد والتضامن والتآلف والحب في الله سبحانه وتعالى.
 
البوابة التي سلكت تلك الأمة إلى مرضاة الله ومن ثم أكرمها الله عز وجل بما وعد كانت هذا التضامن كانت هذا التآلف، وقد أوضح المصطفى صلى الله عليه وسلم لها واحداً واحداً واحداً أن القانون لا يجمع شمل المتفرقين، وأن المساجد مهما كثرت وجملت وازدهت لايمكن أن تجمع شمل المتشردين والمتشتتين والمتفرقين، إنما الذي يجمعهم الأخوة في الله، وأنتم تعلمون أنه صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة بنى المجتمع الإسلامي الأول على ثلاث دعائم: الأخوة في الله، المسجد، الوثيقة أي الدستور فبأي هذه الدعائم بدأ؟ لم يبدأ بالدستور رغم أهميته، لم يبدأ إلا بمنبع الأخوة ألا وهو بناء المسجد لا للعبادة لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: “علت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأينما أدركتني الصلاة صليت”. لكنه بدأ بالمسجد ليكون بوتقةً لجمع الشمل ليكون بوتقةً لصهر الأفئدة وجمعها على فؤاد واحد.
 
إذاً الدعامة الأولى التي ابتدأ بها المصطفى صلى الله عليه وسلم بناء المجتمع الإسلامي هو الحب في الله، ولم يكن المسجد إلا خادماً لهذه الدعامة الأولى التي ابتدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجاوب المسلمون مع المصطفى عليه الصلاة والسلام. رأس مال تلك الأمة لم تكن أسلحة فتاكة، ولم تكن قوى اقتصادية متغلبة، ولم تكن قوانين تتغلب على موسوعة جستنيان ولا غيره، وإنما كان رأسمال هذه الأمة اتحادها والاتحاد من أين جاء؟ لم يغرس الاتحاد في فراغ، غرس الاتحاد في أرضية اسمها العبودية لله، غرس اتحادها في أرضيةٍ بين جوانح كل منهم اسمها حب الله، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
أجل هذا هو رأسمال تلك الأمة وبرأس مالها هذا ازدهر النصر وتحققت المرابح وحق لها ما قاله الله سبحانه وتعالى مبشراً: “وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ” ألا تسألون كيف ورثهم الله ذلك كله أي حيلةٍ عسكرية اختصوا بها عن الرومان وغيرهم أي قدرة عسكرية تتمثل في سلاح أو في حيلة عسكرية أو نحوها توفرت لديهم من حيث لم تتوفر لدى الآخرين؟ اطلاقاً لم يكن لديهم أيٍ من هذا، إنما هو الاتحاد والاتحاد كان غصناً أينع من شجرة الإيمان بالله، أينع من شجرة محبة الله، أينع من شجرة محبة رسول الله، عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة أعود فأقول في اليوم الذي نعده يوم عرس للإنسانية يوم مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نعود لجراحاتنا التي تنزف فنتبين سببها، ونتبين الدواء الماثل أمامنا والذي يقول في لسان الحال تعالوا استعملوني أضمد جراحكم وأنهي هذا النزيف القتّال في وجودكم وحياتكم. الدواء هو هذا أيها الإخوة مهما تحدثنا عن فظائع الأعداء، ينبغي أن لا نضيع وقتاً بذلك، فظائع الأعداء صدىً لفظائعنا نحن، ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة، كيف ؟ فظائعنا تتمثل في التفرق الذي تحول إلى تشرذم والذي تحول إلى خصامٍ فشقاق، لا تغرنكم الأيدي التي تتصافح، لا تغرنكم الوجوه التي تتلاقى بالابتسامات الدبلوماسية المتطورة، لا يغرنكم شيء من هذا اخترقوا هذه الصور إلى الباطن تجدون شيئاً مخزياً هذا التفرق هو الأصل وهذا الذي تجدون مما يتقطع له الأكباد صدى لواقعنا هذا أيها الإخوة وواقعنا هذا نتيجة لماذا؟ نتيجة لإعراضنا عن الله الذي أعرض عنا عندما أعرضنا عنه، واقعنا هذا نتيجة لتحول أفئدتنا بعد أن كانت أوعية لحب الواحد ألا وهو الله تحولت إلى حب كل ما هو فانٍ كل ما هو تافه، في سبيل هذا الحب تشاكسنا، في سبيل هذا الحب تفرقنا في سبيل هذا الحب تحولت علاقة ما بين الإخوة إلى شقاق فخصام ونسينا قول الله عز وجل: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ “

أيها الإخوة ظاهرة عندما أتذكرها تكاد تأخذ مني بالغلاصم، تكاد تجعل الإنسان يذوب خجلاً بل ذلاً وهواناً أمام الله سبحانه وتعالى، الحيوانات في غاباتها وفي أماكنها مكنها الله عز وجل من نظام يسعدها ألا وهو الغريزة، أما نحن البشر فقد سمى بنا الله عز وجل عن مستوى هذا القيد الآلي بل عوضنا عن ذلك الشرعة التي خاطبنا بها، وأمر عقولنا لا نفوسنا بأن ننقاد إلى هذه الشرعة ونطبقها باختيار وبحرية، هكذا سمى الله عز وجل بنا، فانظروا إلى واقع الغرائز أو الغريزة في حياة البهائم ماذا صنعت، وانظروا إلى إعراضنا عن شرعة الله إلى أي أودية الهلاك أودت بنا. هل رأيتم في عالم النمال نمالاً تتهارج ويأكل بعضها بعضاً؟ هل رأيتم في عالم النحل مجموعة في خلية نحلٍ تتقاتل ويقتل بعضها بعضاً؟ هل رأيتم في عالم الغابات هذه السباع الضارية التي يُضرب بها المثل في الوحشية سباعاً تتهارج ليفتك بعضها في بعض؟ لم تروا هذا ولن تروا شيئاً من هذا أبداً، لأن الغريزة التي جعلها الله في محل النظام في حياتها جعلتها تتآلف حتى تستطيع أن تعيش وحتى تستطيع أن ترد العدوان وغوائل الأخطار عنها، لا في عالم الطيور ولا في عالم النمال ولا في عالم أي من الحيوانات تجدون مجموعةً من هذه الحيوانات ينقض بعضها على بعض من أجل أن تتعادى وتتخاصم وتتفانى، أما الإنسان هذا الذي كرمه الله بالعقل وهذا الذي لم يشأ الله أن يقيده بقيود الغرائز، رفع مستواه إلى شرف مخاطبته له وقال له: اسلك هذا السبيل باختيارك بحريتك أعطك السعادة الكاملة في دنياك وآخرتك، فأعرض هذا الإنسان عن تعاليم الله عز وجل، لا هو بقيد من الغرائز أسعد نفسه، ولا هو التزم بشرعة الله سبحانه وتعالى وأحكامه كما أحب الله سبحانه وتعالى له، فبقي هذا المخلوق الذي هو الإنسان وحده في العراء، ليس له ضابطٌ يضبطه إلى سلوك إنما هو الهرج والمرج، إنما هو القتل، إنما هو الخصام الدائم. وفي أحسن الأحوال عندما نلتفت إلى ما قد أمر الله عز وجل بها وسنقول سنعود إلى إسلامنا، ننظر فنجد أن أكثر المسلمين – ولا أقول كلهم – يمتطون الإسلام لمصالحهم، يمتطون الإسلام لرغائبهم، يمتطون الإسلام لأهداف دنيوية لهم. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح حالنا وأسأله عز وجل أن يطهر قلوبنا من كل وصفٍ يباعدنا عن مشاهدته ومحبته.

اترك تعليقاً