حينما ظهرت الطبعة الأولى لكتاب “المرأة الإنجليزية في مصر” في لندن عام 1884م بقلم “صوفيا بول”، أخت المستشرق البريطاني الأشهر “إدوارد وليام لَين” (Edward William Lane)؛ حازت قبولا حسنا من القارئ الإنجليزي، كما دلَّ على ذلك ما جاء في مقال بقلم الرحالة “كَنجليك” الذي قال: “إن هذا الكتاب الممتاز، وهو نتيجة المشاهدات الشخصية للكاتبة، يعطينا في بضع صفحات معلومات عن السر الغامض للحريم الشرقي تفوق في غزارتها أي مصدر آخر”. وبعد عام من ذلك التاريخ، ظهرت طبعة أميركية لهذا الجزء الأول عام 1845م، أما الجزء الثاني للكتاب الذي حوى وصفا للاحتفالات بزفاف “زينب هانم”، ابنة محمد علي باشا، فقد طُبِع في لندن عام 1846، ولم تصدر أي طبعات أخرى للكتاب منذ ذلك الحين. وقد تُرجم الكتاب إلى العربية بواسطة المترجمة عزة كرارة تحت عنوان “حريم محمد علي” ونستعرض أهم ما ورد فيه في السطور القادمة.
لقد كانت الرحَّالة من الأجنبيات يحاولن قدر الإمكان أن يحظين بزيارة “الحريم”، ويتعرَّفن على هذا العالم الغامض الذي لم يستطع المستشرقون من الرجال أن ينفذوا إلى أسراره، وبذلك تفوَّقن عليهم، وهُم الذين لم يعرفوا النساء المصريات، اللهم سوى الغوازي والعوالم ومن على شاكلة “كوجَك هانم” صديقة الكاتب والروائي الفرنسي “جوستاف فلوبير”، الذي تلذَّذ بمعاناة الشرق والشرقيين، وصبَّ جام اهتمامه على مظاهر الظلم والشذوذ والقبح والفوضى فيه.
أما السيدات المحترمات المحجبات المصونات في حريمهن، فنجحت الأجنبيات في زيارتهن بشتى الطرق، وغالبا ما كان الخَدَم هم الوسطاء. ولا شك أن الفضول أتى من الجانبين، إذ إن سيدات الحريم تشوَّقن أيضا لرؤية النساء السافرات صاحبات الحرية المطلقة في الترحال حيثما أردن. وغالبا ما أخفقت هذه الزيارات، إذ غلب عليها التكلُّف ولم تتعدَّ في العادة الحديث ببعض عبارات المجاملة والملاحظات السطحية عن طريق الإشارة أو الترجمة. ولذا، جاءت غالبية روايات الزائرات الأجنبيات أقرب إلى السطحية وتعبيرا عن أفكارهن السابقة عن الشرق، فلم يرين في الحريم إلا ما هو قبيح وتافه، على حد وصف الدكتورة “عزة كرارة” مترجمة “رحلة صوفيا إلى القاهرة 1842-1846م”.
العائلة الإنجليزية الشغوفة بالشرق
لم تكن رحلة “صوفيا بول” إلى القاهرة مع ولدَيْها بعد انفصالها عن زوجها سوى تعبير عن شغفها الذي غرسه فيها أخوها المستشرق المعروف “إدوارد وليام لَين”. فقد كتب إدوارد عن العالم الإسلامي ومصر كُتبا شديدة الأهمية، بعيدة كل البُعد عن السطحية والتفاهة التي كتب بها مستشرقون آخرون، ومنها كتاب “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم”، وكتاب “وصف مصر” الذي لم يُنشَر، كما ترجم أكبر قاموس معجمي عربي إلى الإنجليزية اعتمادا على “تاج العروس” للعلامة المرتضى الزبيدي، وكان له أعظم الأثر في أخته صوفيا وحفيدها “ستانلي بول”، صاحب الكتاب الأهم “تاريخ مصر في العصور الوسطى”.
حين أتمَّ إدوارد كتابه “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم”، أدرك أن ثغرة كبيرة لا تزال بحاجة إلى ملئها في كتابه، وهي ثغرة أصيلة ومهمة متعلقة بعالم الحريم في مصر تحت حُكم محمد علي باشا في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر. وقد استغل تطلُّع أخته الأثيرة صوفيا إلى التعرُّف على الشرق ومصر بالتحديد، فأوكل إليها مهمة الكتابة عن هذا العالم، وتسهيل الوصول إليه من خلال سيدات إنجليزيات كنَّ قد عشن في مصر منذ فترة بسبب عمل أزواجهن في التجارة والتعليم والتبشير. وقد أُعجبت صوفيا بالفكرة، وأحبَّت المغامرة في وقت جسَّد الشرق فيه معنى المغامرة بالتعرُّف على أسراره وتقاليده وعاداته وآثاره.
حين أتمَّ إدوارد كتابه “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم”، أدرك أن ثغرة كبيرة لا تزال بحاجة إلى ملئها في كتابه، وهي ثغرة متعلقة بعالم الحريم في مصر تحت حُكم محمد علي باشا (مواقع التواصل)
وصلت صوفيا إلى مصر ونزلت الإسكندرية في صيف عام 1842م، ومنذ ذلك التاريخ راحت تُدوِّن مشاهداتها عن كل ما أحاط بها، لا سيما وقد لفت انتباهها البؤس والفقر والمرض وسوء التغذية الذي عانى منه الأطفال وأمهاتهم في الطبقات الفقيرة آنذاك. كما شرعت في الكتابة عن آثار مصر والجيزة والصعيد، ثم خصَّصت العديد من فصول رحلتها عن عالم الحريم في الطبقتين؛ العليا التي تبعت محمد علي باشا وأبنائه، والوسطى التي امتلكت عاداتها وتقاليدها أيضا في تسيير شؤون الحرملك. وقد تركت لنا صوفيا حكاياتها بأسلوب وصفي ماتع، حرصت فيه على أن تكتب ما رأته وشاهدته بنفسها، مع انطباعات أوروبية سابقة ومتحيزة لم تستطع أن تتخلى عنها بالطبع نتيجة التربية والثقافة.
كتبت صوفيا في مقدمة كتابها أن أخاها إدوارد وضع تحت تصرُّفها مذكرات له غير منشورة لتقتبس منها ما احتاجت إليه، وقد فعلت ذلك بالفعل، إذ نجد فقرات كبيرة من رسائلها تحوي معلومات مستقاة حرفيا من كتابات أخيها، وغالبها من مخطوط “وصف مصر”. وما يهمنا في مذكرات صوفيا عن مصر وأسرار الحرملك فيها أنها حين زارتهن كانت ترتدي الزي الأوروبي بدلا من التركي الذي كانت ترتديه عادة في المنزل وخارجه، لأنها كما قالت حظيت باحترام أكبر حين ارتدت الأوروبي، [1] وهي ظاهرة تُوضِّح الاحترام والمكانة العالية التي حظي بها الأجانب في دولة محمد علي باشا.
“صوفيا” تقدِّم صورة دقيقة للمرأة المشرقية
كتاب “المرأة الإنجليزية في مصر” لـ “صوفيا بول” (مواقع التواصل)
اندهشت صوفيا من شيوع قيمة وعاطفة التراحم التي قامت عليها الأسرة في الشرق، وقامت عليها دعائم التكافل الاجتماعي والأهلي في البلاد، واختلف عن التكافل الجاف الذي تحمَّلته الدولة في الغرب بدلا من المجتمع، حيث قالت صوفيا إن “من المؤكد أنه لو صدرت في القاهرة جريدة يومية لما رأينا بها فقرات تحت عناوين الموت بسبب الجوع أو حالة بؤس مؤلمة مثلما نرى في الصحف الإنجليزية، ولكن ما السبب في هذا؟ مع أنه لا توجد هنا مساكن لإيواء الفقراء مثلما توجد في إنجلترا. هناك الرباط الأسري القوي الذي يسود في الشرق كله، وأن الفقير يتحمَّل بحق همَّ أخيه. لاحظت هذا الرباط الأسري نفسه بين أفراد الطبقتين العليا والوسطى التي زرتُها، حيث تظل الأم في العائلة هي الرأس، ويدوم سلطانها اللين الرقيق طيلة حياتها، وكلما تقدَّم بها السن يزيد حبُّ واحترام ذويها لها، ويُذكر أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) أجاب بحرارة حينما سُئل عن أحق الأقرباء بالعطف والاحترام، فقال لسائله مؤكِّدا: أمك ثم أمك ثم أمك”. [2]
نفت صوفيا الصورة النمطية عن نساء الحرملك آنذاك بأنهن ضعيفات مستكينات لسطوة الرجال وغطرستهن، فالحرية والسلطة لنساء هذه الطبقة متوفرة، إذ أكَّدت صوفيا قائلة: “أنا شخصيا أوافقهم الرأي بأن نساء الطبقة الراقية في الشرق كله لهنُّ الهيمنة في مجالات متعددة. فقد تجدين من الصعب أن تصدقي أن رب البيت قد يُمنع لعدة أيام من الدخول إلى حريمه إذا وُضع بأمر من زوجته أو زوجاته زوج من البابوج (حذاء خفيف للحريم يُلبس داخل البيت) على عتبة الباب من الخارج، دلالة أن هناك زائرات بالداخل”. [3] ونسفت صوفيا كذلك الصورة النمطية عن نساء الحرملك بأنهن بلا شغل ولا مشغلة، فقد احتفت بصناعة التطريز عندهن قائلة إنه “آية في الجمال، ويفوق مع اختلافه أي تطريز يُمارس في إنجلترا، ويبدو فيه ذوق من نوع خاص.. جماله الفريد يكمن في الألوان المستخدمة التي كثيرا ما تعتمد على الاختيار العشوائي، والتطريز الذي يُصنع في الحريم يفوق غيره بمراحل، فكثيرا ما تتخلَّله أحجار كريمة خاصة الماس واللؤلؤ والزمرد والياقوت”.
إذا كانت صوفيا قد دحضت الصورة الاستشراقية الشائعة والمغلوطة عن المرأة المترفة المنعَّمة التي تخدمها عشرات الجواري من حيث حبها للعمل، والإشراف على الطعام والشراب والتنظيف والتطريز بنفسها، حتى إنها شاهدت بأم عينها ابنة محمد علي باشا تشرف على غسل الرخام وتلميعه وهي حافية مع جواريها؛ فقد دحضت أيضا صورة الجهل التام الذي وُصِمت به المرأة المشرقية آنذاك، إذ عرفت بعض الأسر التي “حصل بناتها على ثقافة راقية جدا، ويوجد في مكتبتهم أعمال أهم شعراء إيطاليا وأفضل الأدب التركي، ولقد قرأت الفتيات هذه الكُتب وفهمن ما بها”. [4]
داخل أسوار قصر الدوبارة
في سبتمبر/أيلول 1843م، تمكَّنت صوفيا من زيارة حريم محمد علي بمساعدة صديقتها الأثيرة “مسز ليدر”، وهي زوجة المبشر الإنجليزي الأشهر في مصر آنذاك “القِس ليدر”، وكانت الأسر العليا في الطبقة الحاكمة سواء أسرة محمد علي، أو حاشيته من كبار الموظفين مثل أسرة حبيب أفندي حاكم القاهرة التركي في أربعينيات القرن التاسع عشر، تحترم الأجانب في القاهرة، وتستقبل النساء والسائحات الأوروبيات الفرنسيات والإنجليزيات في بيوت وقصور الحريم، وهو أمر شائع سعت إليه نساء الطبقة العليا كما سعت إليه النساء الأوروبيات.
ولهذا السبب، فإن نساء محمد علي باشا وزوجاته ثم جواريه في العديد من قصوره، وخاصة قصر الدوبارة الذي خُصِّص لهن وقتذاك في غرب القاهرة على النيل في حي جاردن سيتي اليوم، كان يستقبل على الدوام هؤلاء الزائرات الأوروبيات. وقد سمح لهن محمد علي باشا بهذه الزيارات لأنه اهتم بتحسين صورته وسمعته في الدوائر الغربية، لا سيما بعد الحروب التي وقعت بينه وبين الدولة العثمانية، وبعد اتفاقية لندن سنة 1840م التي ضمنت لمحمد علي باشا وأبنائه حكم مصر حكما وراثيا. فلم يكن غريبا إذن أن تتقارب نساء محمد علي وجواريه مع السائحات والمستشرقات ممن أردن استكشاف عالم الحرملك في المجتمع الشرقي.
دخلت صوفيا وصديقتها “مسز ليدر” إلى قصر الدوبارة المُخصَّص لبعض حريم محمد علي، وقد وصفته لنا وصفا مُمِلا، كما تناولت مدى الرفاهة والغنى والدعة التي تنعَّمت بها الحريم، حيث التقت بزوجتين شابتين لمحمد علي، كما التقت بأرملة طوسون باشا ابن محمد علي، وهي أم الخديوي عباس فيما بعد. ودُهشت صوفيا من عظمة الفُرش والستائر والرخام والأواني الذهبية والفضية والجواري والطواشي “الخصيان”، ورأت زوجتَيْ الباشا اللتين كانتا على ذمته وفي سن الشباب حينئذ، فإحداهن “وسيمة مهيبة الطلعة، في حين أن الأخرى آية في الجمال، وتفيض رقة وعذوبة”، على حد وصفها. [5]
مشهد طعام الغداء بعد الظهيرة مما يستحق أن نسوقه على لسان صوفيا، فقد “رُصَّت فوق الصينية كثير من الأواني الفضية الصغيرة التي مُلئت بأنواع شتى من المهلبية والبالوظة وغيرها، أما في وسط المائدة فوضع ضلع من اللحم الضاني فوق أرز متبل، لم أكن أتوقع أن تخصَّني أرملة طوسون باشا بالعناية، وهي والدة عباس باشا وأكبر الحاضرات سِنًّا، ولها أرفع مكانة بينهن؛ إذ كانت تشرفني بأن تُقدِّم لي بيدها كل لقمة تقريبا ذُقتها أثناء الوليمة، وبعد اللحم جاء اليخني الذي تبعته خضراوات، ثم بعد ذلك قشدة لذيذة المذاق، وغيرها من أشياء أخرى لا عدد لها مما لذ وطاب؛ كان الطبق يُرفع بعد أن نتذوَّق ما به، ليحل محلّه آخر، بعد ذلك صُفَّت أنواع الحلوى المختلفة واحدة تلو الأخرى”.
استرسلت صوفيا في وصف ملابس وحُلي وطعام وفخامة حريم الباشا، لكنها اهتمت أيضا بمدى النظام المُتَّبع في تلك القصور العالية، ومَن مِن نسائه وقريباته وأصهاره كانت لها الصدارة فوق غيرها. وقد رأت أن النظام كان بسيطا؛ فتعتبر الوالدة هي رب الأسرة وسيدة الحريم الأولى، فإن كانت متوفاة فتتخذ أخته أو أخواته الصدارة تتبعهن في المرتبة زوجته المفضلة، وتبقى الزوجة الأولى التي أنجبت للوالي هي المُقدَّمة والمحترمة، وأكثرهن محبة وتكريما، “وتتدرج مراتب الزوجات التاليات حسب إيثار الزوج لهن، وكل زوجة في الطبقات العليا لها جناحها المنفصل، وأتباعها خاصة. إن الحريم عالم صغير من النساء تقضي فيه الكثيرات حياتهن منذ نعومة أظفارهن؛ إنه مسرح لأفراحهن وأحزانهن، لسعادتهن وهمومهن”.
لقد كان عالم الحريم الغامض من جملة العوالم التي سيقت إلى أوروبا في صورة مشوَّهة، نظرا لأن المستشرقين الذين نقلوا هذه الصورة إنما نقلوها سماعا ووفق خيالهم السابق، إذ لم يُسمح لهم بالاطلاع على ما اعتبره المسلمون والشرقيون حرما لا يمكن للغرباء من الرجال المسلمين فضلا عن غير المسلمين أن يتعدوا إليه أو يعرفوا أسراره. ولذا كانت المؤلفات الأدبية ذائعة الشهرة مثل “ألف ليلة وليلة” المغالية في الإسراف والخروج عن الشرع وغيرها المصدر الأولي الصاخب والمتخيَّل وغير الحقيقي الذي اعتمد عليه المستشرقون في نقل صورة الحريم والمرأة المشرقية.
وحين رأت صوفيا كذب هذه الادعاءات، وأدركت الاختلاف الشاسع بين العالم المتخيَّل للحريم والعالم الحقيقي لهن، كتبت قائلة: “إن الأفكار التي تسود لدى الكثيرين في أوروبا عن التسيُّب الخُلُقي في الحريم هي في اعتقادي خاطئة، صحيح أن للسيدة الرئيسية سُلطة كبيرة قد تُسيء استعمالها، ولكن جواريها يقعن تحت مراقبة صارمة، كما أن النظام الذي ترضخ له الفتيات صغيرات السن في الحريم الشرقي لا يمكن أن يُقارن إلا بما يُتَّبع في الأديرة، وأي انحراف عن الحشمة المطلقة ينتجُ عنه عقاب فادح”. [6]
حريم محمد علي في القلعة
في إبريل/نيسان 1844م، استطاعت صوفيا بمساعدة جديدة من صديقتها الولوج إلى قصر الحريم في القلعة، وهو أهم القصور وأرقاها، حيث اكتشفت أن محمد علي كان متزوجا من امرأتين أخريَين غير الشابتين اللتين تقابلت معهما في قصر الدوبارة، وهي تصف عظمة قصر الحريم في القلعة وموقعه المتميز الذي أطلَّ على القاهرة كلها قائلة: “صعدنا درجات سلم رخامي ضخم إلى قاعة الاستقبال العليا بالطابق الأول، وهنا تفجر أمام ناظرينا مشهد غاية في الروعة؛ هناك ثلاث نوافذ مواجهة لرأس السلم تشرف على القاهرة وعلى السهل من ورائها، كان في متناول بصرنا وتحت نظرنا المبهور المناطق المهمة كافة شمال وغرب القاهرة”، وحتى المناطق القريبة من الدلتا. [7]
التقت صوفيا بزوجتَيْ محمد علي، فأكبرهن سِنًّا أم ابنه الأمير حليم الذي بلغ من العُمر آنذاك عشرين عاما على حد وصفها. وصحيح أنهن لم يكُنَّ بجمال مَن التقت بهن في قصر الدوبارة، لكن مظاهر الغنى والثراء الفاحش في ملابسهن ومجوهراتهن بدت جلية، كما أوردت صوفيا قائلة: “عقود اللؤلؤ التي كانت ترتديها السيدة الأولى وسيدتان أخريان (تكوَّنت) من أكبر اللالئ التي رأيتُها في حياتي وتحيط العنق بإحكام”. لقد كانت صوفيا أول سائحة ومستشرقة بريطانية وصلت إلى هذا القصر، وقد قيل لها آنذاك “إنه لم تطأ قدم أيٍّ من الفرنجة هذا الحريم من قبل”.
تُشير صوفيا إلى أن نساء الحريم العالي من زوجات وجواري محمد علي أو غيرهن من زوجات وبنات كبار الساسة كنَّ على اطلاع قريب بالأوضاع السياسية، والعلاقات الدبلوماسية بين مصر وفرنسا وبريطانيا. وقد خشيت أن تكون المقابلة فاترة نظرا للمفاوضات الساخنة الدائرة حينئذ بين فرنسا وبريطانيا من جهة، ومحمد علي باشا من جهة أخرى، بخصوص الحصول على امتياز “يتمنَّاه بشدة كل مسيحي ولا يمكنه كحاكم مسلم منحه بأي حال من الأحوال”. ولربما كان الفرنسيون والإنجليز يتفاوضون حول الحصول على امتياز النقل النهري في النيل من الإسكندرية إلى أسوان، وقد آثر محمد علي في نهاية المطاف أن يجعله حصريا للحكومة المصرية.
على أي حال، أقرَّت صوفيا “أن الحديث أثناء الزيارة يكون دائما جزلا طليا، وغالبا ما يدور حول الأمور السياسية، لهذا بمجرد أن اتخذنا مجلسنا أمس (في قصر الحريم بالقلعة) نوقشت الأحداث السياسية الجارية، وما لبثنا أن طرقنا موضوع الحرية في المسائل الدينية”. [8] وهكذا يبدو من الوصف السريع الذي آثرنا من خلاله أن نتعرف على كتاب صوفيا بول “المرأة الإنجليزية في مصر”، الذي وصف مجتمع الحريم المصري في طبقاته العليا والمتوسطة، أنها قدَّمت صورة مغايرة إلى حدٍّ كبير عن الصورة النمطية القاصرة التي قدَّمها المستشرقون من قبلها عن المرأة اللاهثة والخليعة التي كانت مجرد جسد استمتع به الرجل الشرقي في حريمه. لقد رسمت صوفيا ما بتنا نعرف من مصادر عديدة اليوم أنه صورة أعقد كثيرا للمرأة التي عاشت في حريم رجال الشرق.
______________________________________________
المصادر:
- حريم محمد علي باشا، مقدمة المترجمة عزة كرارة ص22.
- السابق ص139.
- السابق ص149.
- السابق ص151.
- السابق ص169.
- السابق ص178.
- السابق ص224.
- السابق ص226.
المصدر : الجزيرة