رأينا مشهد خروج الرئيس الأمريكي بايدن (80 سنة) إلى العالم مساء الاثنين (2 آب/ أغسطس)، متوجها إليه بكلمة مفعمة بأفواج من الأحاسيس الوطنية والإنسانية الغائرة في أعماق تاريخ بني آدم على الأرض ونضالهم الذي لا ينقطع عن الكفاح من أجل سلام وخير البشرية على وجه البسيطة (الكرة الأرضية)، ليعلن مقتل أيمن الظواهري (1951-2022م).. وهو المشهد الذي لم تكن عظمته في تلك “الطلة” الواثقة الزاهية فقط، بل في ما صاحبها من حالة الإعداد النفسي المشحون بالترقب والقلق للجماهير المنتشرة حول أجهزة التلفاز في العالم كله؛ انتظارا لوصول الرئيس إلى المنصة والميكروفون بحديقة البيت الأبيض لإلقاء كلمته التاريخية بهذا الصدد.
وتقريبا كل فضائيات العالم الشهيرة شاركت في إخراج وتنفيذ الصورة في بريقها المتلألئ الذي يخطف البصر ويقتل البصيرة كما يحدث دائما.. كأنها بالفعل يتم تشغيلها من غرفة عمليات واحدة.
كانت المواد كلها من الطراز الأول الممتاز أما الطبخة فكانت بلا مذاق! فقد ظهر الرئيس.. قائلا في شدو رخيم: الزعيم الإرهابي لم يعد موجودا! لم يعد الناس في جميع أنحاء العالم بحاجة إلى الخوف من “القاتل الشرير”..
وأضاف: الظواهري صنع مقاطع فيديو خلال الأسابيع الأخيرة تدعو أتباعه لمهاجمة الولايات المتحدة وحلفائنا.. والآن العدالة تحققت ولم يعد هذا الزعيم الإرهابي موجودا.
الفارق بين الحالة السياسية والتاريخية التي يمثلها وجاء منها بايدن؛ مختلفة بوضوح عن الحالة السياسية والتاريخية التي يمثلها وجاء منها ترامب.. وأقصد بالتاريخية خبراتهما وتجاربهما الذاتية.. لكن وكما رأينا هناك إعداد وتنفيذ وإخراج واحد يكاد يتطابق في المشهدين! بل ولا يكاد يخفي نفسه أو حتى يحاول ذلك.. بما يجعل تفكيرنا البديهي البسيط يستنتج أن القائم عليهما ما هو إلا فريق عمل واحد
سيكون علينا أن نعود إلى الماضي الذي لم يمض! ثلاثة أعوام.. “فلاش باك” بلغة السينما وتحديدا في تشرين الأول/ أكتوبر 2019م، لنرى نفس المشهد التاريخي الكبير المشحون بالضجيج والثرثرة، حين يعلن الرئيس السابق ترامب (76 سنة) وقتها في بيان غير اعتيادي من البيت الأبيض مقتل البغدادي (1971-2019م) زعيم تنظيم الدولة، في عملية وصفها بـ”الجريئة” وبأن القوات الخاصة أنجزت مهمتها على نحو رائع.
الفارق بين الحالة السياسية والتاريخية التي يمثلها وجاء منها بايدن؛ مختلفة بوضوح عن الحالة السياسية والتاريخية التي يمثلها وجاء منها ترامب.. وأقصد بالتاريخية خبراتهما وتجاربهما الذاتية.. لكن وكما رأينا هناك إعداد وتنفيذ وإخراج واحد يكاد يتطابق في المشهدين! بل ولا يكاد يخفي نفسه أو حتى يحاول ذلك.. بما يجعل تفكيرنا البديهي البسيط يستنتج أن القائم عليهما ما هو إلا فريق عمل واحد، لديه الخلفية نفسها والدوافع نفسها ويهدف الى إرسال الرسالة نفسها..
* * *
الفيلسوف الفرنسي آلان باديو (85 عاما) له كتاب مهم وترجمه أ. محمد الهاشمي، بعنوان “شرنا يأتي مما هو أبعد”، يتحدث فيه عن ظاهرة الإرهاب التي “برزت” في الأربعين سنة الأخيرة وشغلت الدنيا والناس، ومتصلة في أغلبها طبعا بالدين، سواء في تبريرها وتفسيرها أو في مظهرها وإخراجها النهائي في “الصورة” التي يراد لها أن تكون راسخة في رؤوس الناس ومشاعرهم..
الناتج النهائي هو أنه حين يُذكر “الدين” تأتي فورا إلى العقل صورة القتل والدم والذبح والملابس الغريبة والوجوه الغريبة، محاطة بكل أشكال البدائية الأولى في مراحل ما قبل التاريخ!!.. أصحاب هذه الصور الفظيعة الغارقة في العنف والقتل والدم وبالتالي كل ما يرتبط بهؤلاء الناس -دينهم طبعا- لهو وثيق الصلة بالحدث، لكن الفيلسوف الفرنسي الكبير يلفت انتباه العالم إلى أن الموضوع أكبر من ذلك وأخطر من ذلك
ويكون الناتج النهائي هو أنه حين يُذكر “الدين” تأتي فورا إلى العقل صورة القتل والدم والذبح والملابس الغريبة والوجوه الغريبة، محاطة بكل أشكال البدائية الأولى في مراحل ما قبل التاريخ!!.. أصحاب هذه الصور الفظيعة الغارقة في العنف والقتل والدم وبالتالي كل ما يرتبط بهؤلاء الناس -دينهم طبعا- لهو وثيق الصلة بالحدث، لكن الفيلسوف الفرنسي الكبير يلفت انتباه العالم إلى أن الموضوع أكبر من ذلك وأخطر من ذلك؛ قائلا: أنتم تكذبون! أصل الموضوع الذي تريدون التغطية عليه بهذه الأحداث والصور التي تلحّون بها على الناس في الإعلام، هو أن هناك “عصابة” تتحكم في العالم؛ تكونت من الهيمنة على رأس مال ضخم جدا تجاوز أفق الدولة (ميزانيتها أضخم كثيرا من ميزانيات الدول والحكومات)، هذه العصابة هي في حقيقة الأمر شركات ومؤسسات وبنوك وأندية وبيوت أزياء.. الخ، وتدير الأمور كلها بطريقة “إجرامية” تامة تستخدم كل أدوات الإجرام التقليدية.. من الرشوة الظاهرة والخفية إلى القتل.. هكذا تحدث آلان باديو.
لكن حال “التفاهة” الذي يتخلل المشهد كله من يومه الأول وحتى خروجه للدنيا مخططا ومُعدا له.. لم يفت كثيرا من المفكرين والمثقفين، واستوقفهم طويلا وفرض على ضمائرهم النطق به وإظهاره بوجهه المعلن واسمه الصريح، ليس فقط لكونه مفبركا ومقصودا ومريبا، ولكن لكونه بالغ الضرر لمسيرة البشر على الأرض، ومعولا من المعاول القوية لهدم الجهد الإنساني وتبديده بددا.
الفيلسوف الكندي آلان دونو (52 عاما) يقول لنا في كتابه الجميل “نظام التفاهة” الذي ترجمته د. مشاعل الهاجري، يقول: إن هذه الظاهرة (يقصد ظاهرة التفاهة) بدأت في التفشي من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) خاصة من خمسينيات القرن الماضي، وأخذت في التطور التدريجي باتجاه السياسة والاقتصاد والتجارة والثقافة والتلفزيون والعمل والصحافة والفن والإعلام والاجتماع واللغة، وسيطرة النظام الرأسمالي وحرصه على تنظيم السوق وضبطه على هواه.
تكمن الخطورة الحقيقية في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة هو أن سيادة التفاهة “قرار عالمي” صادر عن مراكز قوى عالمية تتحكم بمصائر حياة البشر على كل المستويات والمجالات.. ثقافياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً
وهو يلفتنا الى أن العمل السياسي يشكل المجال الخصب لنمو وازدهار “التفاهة”، وأن الديمقراطية (بما تنطوي عليه من سلطة وخطاب ومال وجماهير) هي المجال الأخطر لذلك، والقصد النهائي هو “إسباغ التفاهة” على كل شيء. وتكمن الخطورة الحقيقية في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة هو أن سيادة التفاهة “قرار عالمي” صادر عن مراكز قوى عالمية تتحكم بمصائر حياة البشر على كل المستويات والمجالات.. ثقافياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً.. وهو الكلام الذي تفصله محطة واحدة فقط عما قاله ويقوله دائما الفيلسوف الفرنسي آلان دونو..
* * *
لدينا في الثقافة الإسلامية حالة حرب دائمة على “التفاهة”، سواء كانت في الحرب على “الفراغ” الذي هو مادتها وموضوعها وقدها وقديدها، فأنت إما أن تكون عالما أو متعلما.. وكارثة لو أصبحت الثالث!! وأنت إما أن يكون معك “مصحف يذكرك أو مغزل يشغلك”.. وكلمة مغزل هنا مجازية، والعبارة تضيق عن المعنى كما يقولون، وهو المعنى الذي يتسع حتى ليكاد يملأ العمر كله وعمرين مع عمرنا؛ لأنك لديك دائما ما تنتجه وتعمر به حاضرك وتقدمه الى حياتك.. أو الحرب على “الغفلة” فأنت في حال تساؤل ونظر دائم ومستمر عن نفسك وعن الوجود من حولك، وما فيه من إبداع مطلق وعناية مطلقة وغاية واضحة؛ قائلا “ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار”، وبالتالي فأنت جزء من هذا الكل العظيم الذي يحوطك ويشملك، وحين ينتهي بك التأمل والتفكر والتبصر تنتبه.. إلى النهاية والمآل والمصير فتعمل لهما.. فردا في أمة وأمه في فر، فنأخذ أنفسنا جاهدين بحثا في درب الحياة عن كل ما هو موفور بالمعنى والقيمة والغاية والدوام.. معلنا في همة ودأب قوة الحياة وجدارتها وجرأتها على العدم والعبث الذي يكاد يبتلع الغرب الآن.. وهذا هو بالضبط ما يعملون ويكدون ليحولوا بينه وبين “الإنسان” في العصر الحديث، عصر غياب الأفكار الكبرى.. وانتشار التفاهات الكبرى.
لكن ذلك لن يطول كثيرا.. فليس في النار للظمآن ماء.