سوف يتوقف التاريخ طويلاً أمام المحبة الاستثنائية التي تمتعت بها الملكة إليزابيث التي بقيت ملكة لسبعين عاماً زاخرة بالتحديات، وصحيح أن رأس الدولة في المملكة المتحدة يملك ولا يحكم، لكنه في النهاية رمز لها، لابد أن يعكس سلوكه وتُبنى مواقفه على النحو الذي يحفظ قيّم بلاده وأمنَها ويتسق مع هذه القيم ويكون قدوة للجميع. وقد كانت الملكة الراحلة، بشخصيتها وسلوكها، خيرَ نموذج لهذا الدور بالغ الأهمية على رمزيته. وقد خطر لي وأنا أتابع سلوكَ ابنها ووريثها الملك تشارلز الثالث أنه حريص على الحفاظ على هذه المحبة، بدليل المشهد اللافت لمصافحته المئات من مستقبليه أمام القصر الملكي دون أي مراسم بروتوكولية أو إجراءات أمنية. غير أن ما لفتني أكثر هو ما يعرفه الجميع عن توجهات التسامح للملك الجديد، وهو ما يفتح بارقةً للأمل في تعزيز الجهود الرامية لتعزيز التسامح في عالم يموج بالعنف والاضطرابات. وكنت قد توقفت كثيراً أمام عبارة ذكرها يوماً عندما كان ولياً للعهد، لم أتمكن للأسف من الحصول على نصها الدقيق، لكن مفادها الواضح أنه يفضل أن يكون حامياً لحرية الاعتقاد وليس لعقيدة بعينها، وهي عبارة شديدة المغزي صدرت عن رجل يُفترض أنه سيكون يوماً – وقد حدث – على رأس كنيسة بلاده الرسمية. ويُقال إن هذه العبارة لم تَرُق لبعض قيادات الكنيسة وأتباعها، لكنها كانت بالتأكيد مصدرَ أمل لأنصار التسامح في هذا العالم. واتساقاً مع هذا الموقف عُرف الملك الجديد دوماً بموقفه المتفهم للإسلام والمحترِم له ولأتباعه. وقد ذكر الدكتور مصطفى الفقي في مقالة بصحيفة «الأهرام» المصرية، نُشرت في 12 يوليو 2022، بعنوان «الأمير تشارلز والعمارة الإسلامية»، أنه سأله عندما حضر افتتاح الجامعة البريطانية في مصر عام 2006، وكان الفقي رئيساً لها آنذاك، عن سبب اهتمامه المتزايد بالإسلام ديناً وثقافة، فأجاب بأن الأمر بدأ من خلال اهتمامه وشغفه الشديد بالعمارة الإسلامية. وأضاف الفقي، أن الأمير كان على علاقة بالداعية الإسلامي المصري المستنير زكي بدوي رحمه الله، وكان يتصل به ليسأله عن بعض القضايا التي تمس الإسلام، وهو ما يعني أنه باحث عن الحقيقة وليس أسيراً لأفكار أو صور نمطية عن الإسلام أو غيره.
وقد زار الأمير تشارلز مصر 4 مرات، في أعوام 1981 و1995 و2006 و2021، حرص خلالها – باستثناء زيارته الأولى – على زيارة الأزهر. ففي زيارة 1995، التقى شيخ الأزهر جاد الحق الذي أهداه نسخةً مترجمةً من القرآن الكريم، وفي 2006 ألقى محاضرةً، بحضور الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر آنذاك، ندد فيها بالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول، صلى الله عليه وسلم، التي نشرتها صحيفة دانمركية. كما منحته جامعة الأزهر التي كان الدكتور أحمد الطيب يرأسها آنذاك الدكتوراه الفخرية، تقديراً لدوره في دعم أفكار التسامح والحوار بين الأديان. أما في زيارته الأخيرة، عام 2021، فقد التقى الإمام الأكبر أحمد الطيب، حيث واصلا النقاش حول التسامح الديني، كما شارك في لقاء حول حوار الأديان كان محوره تعزيز قيمة التعايش المشترك، وأجرى حواراً رائعاً مع طلاب الأزهر حول حوار الثقافات والأديان. وكلها مؤشرات تعكس تجذر قيمة التسامح لدى الرجل، بدليل أنه عندما زار دولة الإمارات في نوفمبر 2016 قام بزيارة مسجد الشيخ زايد الكبير، في إطار تعزيز قيم التسامح الديني واحترام التعددية الثقافية. كذلك تشي ردة فعله الإيجابية إزاء توقيع وثيقة الأخوَّة الإنسانية في الإمارات من قبل البابا فرنسيس والدكتور الشيخ أحمد الطيب في فبراير 2019 بإخلاصه للقيم التي انطوت عليها الوثيقة التي مثلت خطوةً رائدةً على طريق تحقيق التسامح الإنساني.
صحيح أن الملك تشارلز الثالث لا يملك سلطة تنفيذية، لكن وجوده على رأس المملكة المتحدة والكومنولث بهذه القيم الإنسانية الرفيعة، يعطي زخماً لجهود تحقيق التسامح في هذا العالَم المضطرب.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة