للأستاذ الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية (58 سنة)، اهتمام كبير بتكوين الدولة والجيش في مصر الحديثة، وله كتابان مهمان حول هذا الموضوع، الأول صدر سنة 2008م عن دار الشروق بعنوان “كل رجال الباشا”، وهو في الأصل كان أطروحة مقدمة إلى جامعة كامبريدج عن التاريخ الاجتماعي لجيش محمد علي، والثاني صدر هذه السنة (2022م) عن نفس الدار، بعنوان “الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة”..
وكان قد قدم حلقات فيديو مهمة (12 حلقة) عن هزيمة حزيران/ يونيو 1967م بعنوان “الهزيمة المستمرة”، وتحدث فيها عما قبل وبعد الهزيمة.. حديثا سرديا يغلب عليه صفة الحكي أكثر منه تحليلا واستنتاجا واستخلاصا. فتقريبا كل ما قاله كان قد قيل من قبل.. فلم يترك أحدا له صله بهذه الهزيمة المستمرة إلا وقال.. ماذا قال؟ وما أهمية ما قال؟ هذا كله مرهون بحجم الكارثة التي برزت عنده في مجاله.. فالحكايات كثيرة والكوارث أيضا كثيرة..
* * *
لكن الحقيقة هنا تستلزمنا أن نقف عند وصف الدكتور فهمي للهزيمة بأنها هزيمة “هيكلية”.. طبعا المصريون من حبهم للفكاهة ممكن أن يلحقوا الوصف بشخص الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل (ت: 2016م)، خاصة وأنه كان صاحب دور سياسي ضخم في صناعة الأحداث وتقديمها وتبريرها.. لكن الدكتور خالد في الحقيقة كان يقصد هزيمة “النظام السياسي للدولة” التي جاءت للحكم بعد تحرك الضباط الأحرار في تموز/ يوليو 1952م..
لكنه لم يذكر لنا “بؤرة الداء” لهذه الهزيمة الهيكلية كما يقولون في الطب.. ذكر لنا الداء وأعراضه ونتائجه ومضاعفاته فقط..
“بؤرة الداء” التي لم يذكرها لنا الدكتور فهمي على قدر ما هي “كارثية” على قدر ما هي بسيطة للغاية!.. كان يفترض أن يحكم “نظام يوليو” بـ”القانون والمؤسسات”، ولكنه حكم بـ”الأمن والإعلام”..
وأعتقد أن الرجل من الجيل الذي يجد حنينا ما إلى تلك الحقبة الزائفة من تاريخ مصر الحديث.. حقبة “العدل الاجتماعي!”.. التأميم.. حيث الجميع يعمل عند سيد الدولة.. لا سيد العمل، والولاء حيث يكون السيد.. حقبة “الإصلاح الزراعي!”.. الإقطاع الزراعي المعكوس لتكوين طبقة كبار زارعي البصل والجرجير لا كبار زارعي القمح والقطن.. ويا بُعد الأبعاد بين زراعات سوق المدينة وزراعات سوق المال والأعمال.. والباقي معروف.. الدهشة تزداد حين ترى أن هذا الجيل الذي يقترب الآن من الستين ليس لديه ما يكفي من أدلة الإقناع ليبين لنا سبب هذا النوع من الحنين السادي.
“بؤرة الداء” التي لم يذكرها لنا الدكتور فهمي على قدر ما هي “كارثية” على قدر ما هي بسيطة للغاية!.. كان يفترض أن يحكم “نظام يوليو” بـ”القانون والمؤسسات”، ولكنه حكم بـ”الأمن والإعلام”.. والمزيد في ذلك شرحه لنا المفكر الكبير الراحل طارق البشري (ت: 2021م) في كتابه الشهير الذي أصدرته دار الهلال سنة 1994م “الديمقراطية ونظام 23 يوليو”.
* * *
العلامة الراحل أ. د. حامد ربيع (ت: 1989م) رحمه الله؛ وصف لنا “هرم الدولة الديمقراطية” ذا المكونات الثلاثة: “القمة” وتحوي السلطات الثلاث: تشريعية وتنفيذية وقضائية.. و”المنتصف” ويحوى الأحزاب والنقابات والمؤسسات.. و”القاعدة” وهي المكون الأكثر أهمية؛ حيث الجمعيات الأهلية والتعاونيات والمحليات..
ومعروف كيف فرغ “نظام يوليو” المكونات الثلاثة.. “ألغى الأحزاب” من محتواها الحقيقي رجالا وأفكارا.. وأحل محلها هياكل كرتونيه لا تعرف إلا الولاء للنظام من داخل التنظيمات السرية التي انتشرت في كل مكان، والتي كان “التنظيم الطليعي” تطورها الطبيعي نحو التجسيد التام للعبودية السياسية المطلقة.
* * *
الحديث عما حدث للبلاد طوال السبعين سنة الماضية يغنينا عن الشرح التفصيلي لكلمة “كارثية” كما تقدم.. لكنه لا يغنينا عن السؤال: لماذا استغنى النظام عن القانون والمؤسسات واستبدلها بالأمن والإعلام؟
فرغ “نظام يوليو” المكونات الثلاثة.. “ألغى الأحزاب” من محتواها الحقيقي رجالا وأفكارا.. وأحل محلها هياكل كرتونيه لا تعرف إلا الولاء للنظام من داخل التنظيمات السرية التي انتشرت في كل مكان، والتي كان “التنظيم الطليعي” تطورها الطبيعي نحو التجسيد التام للعبودية السياسية
هل لهذا صلة بالطوق الحديدي الذي يحاصر مصر والشرق الإسلامي من نهاية الحرب العالمية الأولى 1918م، والذي بدا واضحا وسافرا بعد الحرب العالمية الثانية وعقد اتفاقية يالطا سنة 1945م، التي أعقبها تركيز الاهتمام الأمريكي على مصر.. خاصة وأن خبراء الخارجية الأمريكية كانوا قد توقعوا بعد قيام إسرائيل أن تندلع موجة عداء للغرب في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي شاركهم فيه البريطانيون الذين كانوا قد سكروا من كروم الشرق حتى الثمالة؟..
اتفق البلدان الكبيران (القائم والقادم) على ضرورة تحقيق الاستقرار في مصر، وأن هذا يتطلب “حاكما عسكريا” قويا.. وهو كل ما جرى بعدها.. الدور الأمني الهام الذي قامت به أمريكا في دعم النظام الجمهوري الجديد أشهر من أن يُعرّف، وتقريبا كل من كتب مذكراته عن مشاركته السياسية في هذه الفترة (الخمسينيات والستينيات) تحدث في ذلك.. السيد سامي شرف (93 سنة)، مدير مكتب رئيس الجمهورية وقتها، تلقى دوره مكثفة في أمريكا بعنوان “كيف تخدم الرئيس”..
* * *
ويكثر التساؤل حول الأغراض العميقة للزعيم الخالد في إقصاء فكرة “الدولة المؤسسات” وإحلالها بفكرة “الدولة الأشخاص”..
وهو ما يأخذ السؤال إلى مسافة أقرب قليلا من شخصية الزعيم الخالد نفسه، فهو حتى وإن كان حقق لنفسه تلك المكانة “البطريركية” المحصنة من السؤال والمراجعة.. إلا أنه لم يكن يأمن إلى أي مدى وعلى أي حال سيستمر ذلك ويكون..
“استكثر” على بلاده وشعبه نظاما سياسيا صلبا متماسكا قويا بذاته ومكوناته وأقوى من الأفراد، ويبقى بعد رحيله ولا يعتمد أبدا على الأشخاص في بقائه.. نظاما متكاملا تتعدد فيه المكونات السياسية لفكرة “السلطة” فيتحقق فيها وبها ذلك التوازن الضروري الذي يحصنها من التغول والتوسع، والأهم.. الانتقال الطبيعي بين من يشغلونها
وهو الزعيم الذي لم يكن يحتمل خلافا في الرأي حتى من أقرب الناس إليه.. باستثناء المشير عامر (ت: 1967م) طبعا قبل التخلص منه.. ليس فقط لصداقتهما العميقة وقتها، ولكن وهو الأهم لسيطرته التامة على القوات المسلحة.. ومعروف تحديد إقامته لزميلة في مجلس قيادة الثورة كمال الدين حسين (ت: 1999م) حين انتقد بعض قراراته، بل وفصل كل من له قرابة به من الوظائف العامة.. وأحال ابنه الملازم مصطفى (ضابط المدفعية) إلى الاستيداع..
وأشير هنا الى أن الدكتور خالد فهمي تحدث في حلقة خاصة يوم الأربعاء الماضي (12 تشرين الأول/ أكتوبر) عن الزعيم الخالد وقال إنه كان بسيطا في “مسكنه ومأكله”، ليضفي عليه طابعا حالما للزعيم الذي يتوهمه.. ولكنه لم يكن كذلك أبدا! و بالعودة الى مذكرات زميله في تنظيم الضباط الأحرار خالد محيي الدين (ت: 2018م) “الآن أتكلم”، سنجده ينقل لنا إنه في أول زيارة له لبيت الزعيم بعد عودته من المنفى الديبلوماسي في جنيف سنة 1955م مصطحبا ابنه أمين؛ سأله الأخير عن “الأبهة” التي يعيش فيها صديق والده!.. أما بُعده عن الحفلات والسهرات والأكل والشرب فهو شيء أقرب إلى “الحقيقة العلمية” في دراسة طبيعة الشخصيات النرجسية المهووسة بالسلطة.. إذ أن “شهوة السلطة” تتوغل فيهم على حساب باقي الشهوات التي لا تكاد تكون موجودة.
* * *
إن يكن من أمر، فقد رحل الزعيم الخالد بعد أن “استكثر” على بلاده وشعبه نظاما سياسيا صلبا متماسكا قويا بذاته ومكوناته وأقوى من الأفراد، ويبقى بعد رحيله ولا يعتمد أبدا على الأشخاص في بقائه.. نظاما متكاملا تتعدد فيه المكونات السياسية لفكرة “السلطة” فيتحقق فيها وبها ذلك التوازن الضروري الذي يحصنها من التغول والتوسع، والأهم.. الانتقال الطبيعي بين من يشغلونها.