بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
فمنذ أيام قريبة مضت كنا نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، وأن يمد في أعمارنا وينسأ في آجالنا حتى ندركه، وعاهدنا الله عهودًا كثيرة إن هو أبقانا إلى رمضان، عهودا على الطاعة وبذل الجهد واستفراغ الوسع في العبادة وعمل الصالحات، واستجاب الله دعاءنا بمنه، وبلغنا رمضان بفضله وكرمه، وجاء رمضان وكما هي عادة الأيام المباركات مر مسرعًا، حتى انقضى منه ثلثاه وزيادة، ولم يبق إلا الثلث أو أقل.. وما هو إلا القليل حتى نعزي أنفسنا بانتهاء رمضان.
فينبغي على كل منا ـ قبل انقضاء رمضان ـ أن يقف وقفة يحاسب فيها نفسه؛ ماذا قدم فيما مضى؟ وماذا يرجو مما بقي؟ حتى لا يخرج من رمضان كما دخل فيه، فما يدرينا هل ندرك رمضان آخر، أم تسبق إلينا الآجال وتنقطع منا الأعمال.
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ … من بين أهــل وجـيرانٍ وإخـوانِ
أفنــاهم الموت واستـبـقـاك بعــدهُمُ … حيًّا فما أقرب القاصي من الداني
فلابد من هذه الوقفة للمحاسبة لتعرف أين أنت، وماذا استفدت من صيامك وقيامك، وهل تحقق مقصود الله فيك من فرض الصيام؟ وهل حققت أهدافك، وتيسرت لك أمنياتك ورغباتك، فغفرت ذنوبك، وتقبلت طاعاتك، واعتقت رقبتك من النار؟؟
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صائمين ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، وذكر عليه الصلاة والسلام قائمين ليس لهم من قيامهم إلا طول السهر. ذاك أنهم لم يعرفوا من الصيام إلا الإمساك عن الطعام والشراب، ولم يدركوا مقاصد شهر رمضان.
فإذا رأيت بعد هذه الوقفة أنك قد أحسنت فيما مضى فاحمد لله تعالى على فضله، واشكر الله على نعمة التوفيق بالاستقامة والاستزادة.. وإن كانت الأخرى فرأيت تقصيرا أو تفريطا، فاعلم أنه ما زال فيما بقي من رمضان مستعتب، وأن الفضل المخزون في هذه العشر يحيل القنوط ويمنع اليأس ويبعث على الأمل والعمل، عسى أن يكون آخر الشهر خيرا لك من أوله.
قال بعض العلماء: العبد الموفق من أدرك أن حسن النهاية يطمس تقصير البداية، وما يدريك لعل بركة عملك في رمضان مخبأة في آخره، فإنما الأعمال بالخواتيم.
فضائل العشر الأواخر:- اعلم أن الليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل ليالي العمر على الإطلاق، أجمعها للخير، وأعظمها للأجر، وأكثرها للفضل.. فيها عطاء جزيل، وأجر وافر جليل، اقترن فيها الفضل بالفضل: فضل الزمان مع فضل العبادة مع فضل الجزاء؛ ففيها النفحات والبركات، وفيها إقالة العثرات واستجابة الدعوات، وفيها عتق الرقاب الموبَقات..
واعلم أيها الحبيب أن هذه العشر وهذا الثلث الأخير كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد له استعدادًا خاصًا، ويجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره].
وفي الصحيحين عنها أيضًا: [كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله].
وشد المئزر كناية عن الاجتهاد في العبادة واعتزال النساء.
الاعتكاف والتفرغ للعبادة: ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان في مسجده صلى الله عليه وسلم، فكان يعتزل النساء، ويلتزم المسجد، ويحيي الليل بالصلاة والعبادة، ولا يشغل نفسه في هذه العشر إلا بالعبادة، العبادة فحسب، بل كان يقتطع من الوقت ما استطاع ويفرغ منه ما أمكن، فلا يضيع منه شيئا ولو حتى في تناول الطعام، فقد كان يواصل الصيام إما للسحر وإما لأيام متتالية تفريغًا للوقت في الطاعة؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله. قال: “وأيكم مثلي! إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني].
قال ابن رجب الحنبلي: ومعلوم أنه لا يطعمه الطعام والشراب الحسي؛ لأن ذلك منافٍ لحقيقة الصيام، وإنما هو إشارة إلى ما كان يفتحه الله عليه من مواد أنسه ونفحات قدسه، فكان يرد على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية ما يغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب كما قيل:
لها أحاديث من ذاكراك تشغلها.. … ..عن الطعام وتلهيها عن الزاد
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشد ما يكون اجتهادًا في هذه العشر الأواخر، وهكذا ينبغي على المسلم أن يتخفف من المباحات ويقلل من أوقات الأكل والنوم ليفسح للطاعات مكانًا، ويواصل عبادته بالليل والنهار تقربًا إلى الله وتشبثًا بأسباب المغفرة.
ليلة القدر: وفي العشر الأواخر ليلة القدر، ومن رحمة الله أن خبأها في هذه العشر، وجعلها أرجى وجودًا في ليالي الوتر منها؛ حتى نكثر من التعبد، وهي ليلة العمر كما قال سبحانه: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]. ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه].
وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [شهر رمضان فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم].
ثم أخبر أنها في العشر الأواخر فقال: [تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان][متفق عليه]. وعند البخاري: [في الوتر من العشر الأواخر].
ولك أن تتخيل عبدًا قام لله ليلة واحدة كانت له كعبادة ألف شهر، أو ما يعادل ثلاثة وثمانين سنة، أي فضل هذا وأي نعمة تلك؟!
فمن حرم خيرها فهو المحروم، ومن أعرض عنها فهو المغبون، وقد خاب وخسر من أدرك هذا الفضل ولم يغفر له.
دعاء ليلة القدر: واعلم أن ما يدعو به المؤمن ربه في هذه الليالي هو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم زوجته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حين سألته فقالت: “أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: [اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني].
فأكثر أخي من الدعاء عامة، ومن الدعاء بالعفو خاصة؛ عسى أن يعفو الله عنا، إنه هو العفو الكريم.
اللهم إن ذنوبنا عظيمة ولكنها صغيرة في جنب عفوك، فاعف عنَّا.. اللهم أدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك يا كريم.. اللهم ارض عنا فإن لم ترضَ عنَّا فاعف عنا.. آمين.
أسرعت أيام رمضان ولياليه انقضاء، ومر من رمضان عشره الأوائل ثم عشره الأواسط، ولم يبق من رمضاه الا الثلث الأخير والعشر الأواخر.. .
وإذا كان العلماء قد اتفقوا على أن رمضان هو خير الشهور وأفضلها، فإنهم قد اتفقوا كذلك على أن العشر الأواخر منه هي أفضل ما فيه وأعظم لياليه؛ فهي فضل الفضل وخير الخير.. وأعظمها بالإجماع ليلة القدر فهي أفضل العشر بل أفضل ليلة في الوجود.
وإذا كان رمضان قد قارب الرحيل وأشرف على نهايته فإن “العبد الموفق من أدرك أن حسن النهاية يطمس تقصير البداية، وما يدريك لعل بركة عملك في رمضان مخبأة في آخره، فإنما الأعمال بالخواتيم.
خصائص العشر وحال النبي فيها: لقد خص الله تعالى العشر الأواخر من رمضان بمزايا لا توجد في غيرها، وبعطايا لا سبيل في سواها لتحصيلها، وقد خصها النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال لم يكن يفعلها في غيرها.. فمن ذلك:
أولا: كثرة الاجتهاد: فكان صلى الله عليه وسلم يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) رواه مسلم.
وكان يحيي فيها الليل كله بأنواع العبادة من صلاة وذكر وقراءة قرآن، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجَدَّ وشدَّ المئزر)(رواه مسلم).
فكان عليه الصلاة والسلام يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر، حرصا على اغتنامها بما هي جديرة به من العبادة، قال ابن رجب: “ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه”. وشد المئزر هو كناية عن ترك الجماع واعتزال النساء، والجد والاجتهاد في العبادة.
ثانيا الاعتكاف: ففي “الصحيحين” عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على الاعتكاف فيها حتى قبض.
والاعتكاف معناه لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه. وشرعاً: “المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة”. (الفتح 4/341).
والأصل أنه عزوف عن الدنيا وانقطاع للعبادة وتخلية للنفس عن التشاغل بغير الطاعات والقربات، فلا ينبغي أن يشتغل بشيء يفوت عليه قصده. ولا يجعلن معتكفه مقصداً للزوار الذين يفسدون عليه خلوته وجواره، وإن كان خرج من الدنيا وانقطع عنها فلا وجه لأن يأتي بالدنيا حتى يُدخلها معتكفه، ومما ينبغي للمعتكف أن يتقلل من الطعام والشراب حتى لا يثقل عن العبادة والطاعة.
ثالثا: اغتنام جميع الوقت: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله. قال: وأيكم مثلي! إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني].(متفق عليه).
ولا شك أن المقصود هنا الغذاء الروحي، والفتوحات الربانية، وليس الطعام والشراب الحسي.. وإنما نهاهم عن الوصال حتى لا يضعفوا عن العبادة والاجتهاد في الطاعة. وإلا فإن كل ذلك كان منه اغتناما للوقت، وعدم تضييع شيء منه، ولو في طعام أو في منام فصلى الله عليه وسلم أعظم صلاة وأتم سلام.
رابعا: تحري ليلة القدر
وما كان اجتهاده واعتكافه صلى الله عليه وسلم إلا تفرغاً للعبادة، وقطعاً للشواغل والصوارف، وتحرياً لليلة القدر، هذه الليلة الشريفة المباركة، التي جعل الله العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، فقال سبحانه: {ليلة القدر خير من ألف شهر}( القدر:3).
في هذه الليلة تقدر مقادير الخلائق على مدار العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والسعداء والأشقياء، والآجال والأرزاق، قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} (الدخان:4).