كتب سليمان صالح
دراسة تجربة “صوت أميركا” (Voice of America) يمكن أن تسهم في بناء نظرية جديدة لاستخدام الإذاعة في تحقيق أهدافها السياسية الخارجية وبناء العلاقات الدولية.
فقد شكلت الإذاعات الموجهة للجمهور الخارجي مصدر قوة للدول خلال القرن العشرين، إذ استخدمتها في التأثير على اتجاهات الجمهور.
وإذاعة “صوت أميركا” تشكل نموذجا مهما لاستخدام الإذاعة في بناء صور الدول في أذهان الجمهور في الدول الأجنبية، فقامت بدور مهم في تحقيق الانتصار الأميركي في الحرب العالمية الثانية، وفي الحرب الباردة.
لكن بعد سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، بدأ جمهور الراديو يتناقص. ورغم صحة هذه النتيجة، فإنها لا تنطبق على كل الدول، فالإذاعات التي تبث عبر الموجات القصيرة ما زالت تتمتع بمعدلات استماع في أفريقيا وجنوب آسيا أعلى من القارات الأخرى.
فقد أوضحت دراسة أن معدل الاستماع لإذاعة صوت أميركا في نيجيريا بلغة الهوسا بلغ 14 مليونا عام 2012.
كانت الدعاية الأميركية التي تبثها إذاعة صوت أميركا أقل وضوحا ومباشرة من تلك التي تبثها وسائل إعلام النظم الحاكمة.
الإذاعة وإنتاج الدعاية:- وقد استخدمت الدول الإذاعة في الدعاية لفترة طويلة، ويعترف عدد من الإعلاميين الذين عملوا في الشبكة الإذاعية “صوت أميركا” بأنهم يقومون بإنتاج الدعاية، وأنهم يقومون ببث المواد التي تحقق مصالح الولايات المتحدة. ولقد ساعد ذلك في تقبل المستمعين -خلال الحرب الباردة- الدعاية التي تبثها صوت أميركا من أنهم يعيشون في نظم دكتاتورية لا تسمح بوجود وسائل إعلامية حرة؛ وأدى ذلك إلى أن تصبح إذاعة صوت أميركا مصدرا مهما للحصول على معلومات تختلف عن التي تبثها وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومات.
لذلك كانت الدعاية الأميركية التي تبثها إذاعة صوت أميركا أقل وضوحا ومباشرة من تلك التي تبثها وسائل إعلام النظم الحاكمة.
هذا يوضح نتيجة مهمة هي أن الدولة يمكن أن تعطي لوسائل الإعلام في دولة أخرى ميزة تفضيلية عندما يضطر الجمهور للبحث عن معلومات خارج إطار النظم الحاكمة خاصة خلال الأزمات. ويمكن أن يتقبل الجمهور المعلومات التي يحصل عليها من إذاعات أجنبية ويصدقها ويتأثر بها.
البحث عن عوامل جديدة:- هذا يمكن أن يفتح لنا مجالا جديدا للبحث في تأثير الإذاعات، ودورها في التأثير على الرأي العام في الدول الأجنبية، وتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة.
ويعتبر السياق الذي يتعرض فيه الجمهور لهذه الإذاعات من أهم هذه العوامل، فقد يكون الجمهور مضطرا للبحث عن معلومات مختلفة خارج السياق الذي يتعرض فيه بشكل مباشر لدعاية النظام الحاكم الذي يسيطر على وسائل الإعلام. ومن المؤكد أن المضمون الذي تقدمه صوت أميركا تتم صياغته وتقديمه بأساليب أكثر مهنية وتقدما، مما يجعل الجمهور أكثر قابلية لتصديقه، وهذا يعني أن الدولة يمكن أن توفر فرصا لإذاعة دولة أخرى للتأثير على جمهورها، عندما تحرم هذا الجمهور من الحصول على معلومات حقيقية، وتقلل من ثقة الجمهور بوسائلها الإعلامية.
كان الناس يعيشون خلف الستار الحديدي في آسيا وأوروبا الشرقية، فلم يكن أمامهم فرصة للحصول على معلومات ومضمون يختلف عن ذلك الذي تقدمه وسائل الإعلام الحكومية
لماذا نجحت صوت أميركا؟:- لذلك تمكنت إذاعة صوت أميركا من تحقيق النجاح خلال فترة الحرب الباردة بالرغم من أنها تبث دعاية أميركية، وتعمل للتأثير على الجمهور في آسيا لتحقيق المصالح الأميركية.
لقد كان الناس يعيشون خلف الستار الحديدي في آسيا وأوروبا الشرقية، فلم يكن أمامهم فرصة للحصول على معلومات ومضمون يختلف عن ذلك الذي تقدمه وسائل الإعلام الحكومية سوى الاستماع لإذاعات مثل صوت أميركا، التي يرون أنها موضوعية إلى حد ما، وأنها تقدم معلومات عن الصراع العالمي. كما أن المضمون الذي تقدمه إذاعة صوت أميركا يرتبط بالتسلية، ولذلك فإنه يعد أكثر جاذبية.
ولأن المواد المسلية كانت محظورة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، فقد اتجه الجمهور إلى الاستماع لإذاعة صوت أميركا التي كانت تقدم مضمونها الدعائي مصحوبا بموسيقى الجاز والروك والتسلية الشعبية التي يحبها الشباب.
الثقافة الشعبية والتأثير على أوروبا الشرقية:- ومن المؤكد أن الثقافة الشعبية -التي قامت صوت أميركا بدور مهم في نشرها- لعبت دورها في التأثير على الجماهير في أوروبا الشرقية، مما أدى إلى زيادة سخط الشباب على النظم الحاكمة. وهذا يمكن أن يفتح مجالا لدراسة تأثير الإذاعات على تشكيل العلاقات الدولية، فالتأثير غير المباشر للمضمون قد يكون أكثر خطورة من المضمون الدعائي المباشر.
فعندما زار الرئيس التشيكي هافل الولايات المتحدة طلب من الرئيس الأميركي بوش أن يزور إذاعة صوت أميركا، لأنها -كما قال- أثرت على الذين كانوا يكافحون من أجل الحرية في تشيكوسلوفاكيا. وهذا يشير إلى أهمية الدور الدعائي غير المباشر الذي قامت به إذاعة صوت أميركا خلال الحرب الباردة، وأنها أسهمت في تحفيز الجماهير للثورة على النظم الشمولية التي كانت تتحكم في دول أوروبا الشرقية.
وهذا يعني أن إذاعة صوت أميركا قامت بدور أكثر خطورة من مجرد تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، والترويج للأيديولوجية الرأسمالية، وأن الثقافة الشعبية التي اعتمدت عليها إذاعة صوت أميركا نجحت بشكل غير مباشر في جذب الشباب، مما أدى إلى زيادة تقبلهم للدعاية الأميركية، وزيادة سخط الشباب على نظمهم الحاكمة.
ما حدث للشباب في أوروبا الشرقية نتيجة الاستماع لإذاعة صوت أميركا للهروب من واقع أليم يوضح أن التأثير على الجمهور في الدول الأجنبية يمكن أن يتم باستخدام أساليب غير مباشرة مثل الموسيقى والدراما والبرامج الخفيفة.
تجربة تستحق الدراسة:- هذه التجربة تستحق دراسة أكثر عمقا، لأنها يمكن أن توضح لنا تأثير المضمون غير المباشر -مثل الثقافة الشعبية- على الجمهور، وأن الدعاية غير المباشرة يمكن أن تؤدي إلى نتائج تسهم في تغيير الواقع.
ما حدث للشباب في أوروبا الشرقية نتيجة الاستماع لإذاعة صوت أميركا للهروب من واقع أليم يوضح أن التأثير على الجمهور في الدول الأجنبية يمكن أن يتم باستخدام أساليب غير مباشرة، مثل الموسيقى والدراما والبرامج الخفيفة.
لقد كان الناس في أوروبا الشرقية يعانون جوعا شديدا للمعلومات، والتسلية والثقافة الشعبية التي تجذبهم؛ وأدي ذلك إلى التقليل من قدرتهم على نقد المضمون، واكتشاف الدعاية، فهل يمكن أن تسهم دراسة هذا النموذج في تفسير اتجاهات الشباب في كثير من دول العالم، حيث أدي الإحباط الذي يعانونه إلي زيادة التفاهة والسطحية، والبحث عن التسلية الهابطة، وتناقص المشاركة السياسية، خاصة بعد أن فتح الإنترنت أمام الشباب مجالات جديدة للحصول على التسلية، والمعلومات التي يتم توظيفها للتأثير على ثقافتهم وأهدافهم.
الدكتاتورية تقلل مناعة الجمهور الثقافية:- تجربة صوت أميركا في التأثير على الجمهور في أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة توضح أن الدكتاتورية تجعل الجمهور أقل مناعة ومقاومة للدعاية الأجنبية، وأنهم يمكن أن يتقبلوا هذه الدعاية، لأنهم يعتبرونها أفضل من الدعاية التي تبثها نظمهم الحاكمة على وسائلها المحلية التي تقدم مضمونا رديئا وغير مشوق. هذا يفسر لنا بعض المعلومات المهمة عن استماع الناس في الصين لإذاعة صوت أميركا عبر هواتفهم المحمولة، فالتكنولوجيا لم تقلل فرص الاستماع لهذه الإذاعة التي يمكن أن يجد فيها الجمهور مضمونا مختلفا عن المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام الصينية. وهذا المثال يوضح أن حرمان الجمهور من الحصول على المضمون المشوق أو الذي يثقون بصحته قد يزيد إمكانيات التعرض لوسائل الإعلام الأجنبية، حتى إن كان الجمهور يدرك أن ما يتلقونه دعاية. يضاف إلى ذلك أن دراسة دور إذاعة صوت أميركا توضح كيف يمكن أن توفر ثورة الاتصال إمكانيات جديدة لوسائل الإعلام التقليدية مثل الإذاعة، وأن تناقص معدلات الاستماع للإذاعات لم يكن بسبب ثورة الاتصال فقط.
كما أن طبيعة النظام الحاكم، ومدى حرية الإعلام من أهم العوامل التي تسهم في زيادة قدرة الدول الأجنبية على التأثير على الجمهور فيها باستخدام مضمون يمكن أن يجذب الجمهور، أو يقدم المعلومات بقدر من الموضوعية والمهنية، مهما كان هذا القدر محدودا.
بالرغم من أهمية تجربة استخدام صوت أميركا في التأثير على الجمهور في دول شرق أوروبا خلال الحرب الباردة، فإننا يجب أن ندرك أن ثورة الاتصال وفرت للجمهور في كل دول العالم وسائل للحصول على مضمون أكثر تشويقا وتحررا من السيطرة الأميركية.
التأثير على القوة الناعمة الأميركية:- هناك أيضا بعض الجوانب المهمة التي يمكن أن توضحها دراسة دور صوت أميركا في بناء العلاقات الدولية، وهي أن تناقص معدل الاستماع للإذاعة يمكن أن يؤثر على قدرة الولايات المتحدة في التأثير على الرأي العام في الدول الأجنبية. ذلك أن الولايات المتحدة تفوقت خلال القرن العشرين في استخدام الراديو، وشكلت إذاعاتها الموجهة للجمهور الخارجي مصدرا مهما لقوتها الناعمة.
لذلك فإن تناقص معدلات الاستماع للإذاعة بشكل عام يقلل من قدرة الولايات المتحدة على بناء قوتها الناعمة. وبالرغم من أهمية تجربة استخدام صوت أميركا في التأثير على الجمهور في دول شرق أوروبا خلال الحرب الباردة، فإننا يجب أن ندرك أن ثورة الاتصال وفرت للجمهور في كل دول العالم وسائل للحصول على مضمون أكثر تشويقا وتحررا من السيطرة الأميركية.
كما أن ثورة الاتصال يمكن أن تفتح المجال لدول أخرى للتأثير على المكانة العالمية للولايات المتحدة بتقديم مضمون يكشف خطورة سيطرتها على العالم، وزيف دعايتها، وخرافاتها العنصرية، لذلك فإن تناقص أهمية الراديو يمكن أن يسهم في تناقص القوة الناعمة الأميركية.
الشعوب تحتاج إلى مضمون جديد:- لكن، هل انتهي عصر الراديو؟ من المؤكد أن معلات الاستماع لمحطات الإذاعة تناقصت، وكان لذلك تأثير سلبي على قوة أميركا الناعمة، وقدرتها على التأثير على اتجاهات الجماهير في الدول الخارجية، إذ فقدت أميركا وسيلة مهمة تمكنت من استخدامها بكفاءة خلال القرن العشرين لنشر دعايتها، وبناء صورتها، والتأثير على ثقافة الدول. وهذا يفتح مجالات جديدة أمام كثير من الشعوب للتحرر من الاستعمار الثقافي، والبحث عن وسائل جديدة للتأثير على الجماهير باستخدام نوعية جديدة من المضمون تشبع احتياجات قطاعات محددة من الجمهور.
وكل الدول يجب أن تدرك أن العالم يواجه تغييرا شاملا، وأن القرن الـ21 يحتاج إلى مضمون جديد تحمله وسائل تستطيع أن تجدد نفسها، وتستعيد عافيتها، فهل تتمكن الإذاعة من القيام بأدوار جديدة من أهمها مقاومة الاستعمار الثقافي، والتعبير عن جماهير تكافح لتحقيق الاستقلال الشامل. هل يمكن أن تقوم الإذاعة بهذا الدور، أم أنها ستختفي بكل ما حملته خلال القرن العشرين من دعاية أميركية، وثقافة غربية شعبية؟
ولكن هل يمكن أن يستفيد التلفزيون من دراسة تجربة الإذاعة ويطور وظائفه، وهل يمكن أن تبحث الدول عن وسائل جديدة لبناء علاقاتها الدولية على قواعد احترام تنوع الثقافات وحقوق الشعوب في الاتصال والمعرفة.
من المؤكد أن ضعف الإذاعة وتناقص معدلات الاستماع لها يحملان معهما توقعات جادة بتناقص قوة أميركا، وتزايد إمكانات نهضة حضارات جديدة تستخدم وسائل جديدة في نقل المعرفة للشعوب.