You are currently viewing وسائل التواصل.. وتقطيع أواصر الأسرة

وسائل التواصل.. وتقطيع أواصر الأسرة

لا يكاد أحد يختلف على أن ما نعيشه من اختراعات حديثة، وتقدم تكنولوجي، وتطور هائل في وسائل التواصل، قد أحدث ثورة كبيرة في حياة الناس وأنماط معايشهم، وطريقة تعاملهم وتواصلهم.
ومن المتفق عليه أيضا أن هذه المخترعات كما انفتح بها أبواب للخير لا تحصى، فإنها كذلك انفتح بها من أبواب الشر والفساد والبلاء ما هو أكبر وأكثر.
والحقيقة المهمة أن النت والميديا هي بيئة اجتماعية افتراضية تحكمها ضوابط إلكترونية لا تنطبق عليها أي من معايير الدين أو الانضباط الأخلاقي؛ ولذلك فإن الأمر فيها راجع لما يقرره المستخدم نفسه، وما تمليه عليه ثقافته وفكره، أو مبادئه وخلقه، أو دينه إن كان عنده دين، ولهذا تتنوع الشبكة وتتماهى بين الخير والشر، والنفع والضر، والطهارة والقذارة، فترتفع أحيانا إلى أعلى عليين، وتنحدر كثيرا جدا إلى أسفل سافلين.
ليس المقصود هنا أن نتكلم عن الشبكة بعمومها، ولكننا نناقش مسألة كانت من أهم خصوصيات هذه الشبكة ومميزاتها التي تمتدح بها، ولكن الحقيقة أنها تحولت إلى عكس ذلك تماما..
وسؤالنا الذي نطرحه ونناقشه: هل مواقع التواصل – كما يسمونها – قد عززت بالفعل التواصل بين أفراد الأسرة، أم أنها انقلبت من وسائل تواصل إلى وسائل تقاطع وتدابر اجتماعي؟
مقارنة بين مرحلتين
لابد لنا هنا من المقارنة بين مرحلتين في حياة الأسرة:
مرحلة ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ومرحلة ما بعد انتشار هذه الوسائل، وعدم اعتبار النادر، فإن النادر لا حكم له كما هو معلوم.
فقبل انتشار النت ووسائل تواصله، كما يقول الدكتور سعيد بن علي: “كانت الأسرة جسداً واحداً، يشكل أفرادها أعضاء ذلك الجسد، متحابين، متماسكين، متوادِّين، متعاطفين!! متقاربين بعضهم مع بعض، جلستهم واحدة، وسُفرتهم واحدة، ومناسباتهم واحدة، وجهتهم واحدة، متفاهمين في شتى نواحي الحياة، قلوبهم على قلب رجل واحد.. كل فرد يعرف كل صغيرة وكل كبيرة عن الفرد الآخر، وكل يسعى لإرضاء بقية أفراد الأسرة، ويرعى مشاعره، ويؤثره على نفسه ولو كان به خصاصة!! كانت الأسرة تعيش في حب ووئام، وهدوء وسكينة واطمئنان، وترابط اجتماعي قوي ووصال.
فماذا صار الحال بعد انتشار وسائل التواصل، التي كان من المفترض – حسب اسمها – أن تزيد هذا الترابط وتعزز هذا التواصل؟
لقد كان دخول تلك الشبكة بمثابة غزو للبيوت والأسر، حتى شبهه البعض بالشراك الذي وقع فيه الجميع، فشد وثقاهم، وكمفُرق الجماعات الذي شتت شملهم وفرق جمعهم وأبعد تقاربهم. لقد أصبح لكل واحد من أفراد الأسرة فضاؤه الخاص، وحياته الخفية التي لا يكاد يعرف عنها أحد شيئا، دخل الأبناء إلى الغرف وأغلقوا على أنفسهم أبوابها حتى إن بعضهم يفضل الأكل وحده على الاجتماع مع الأسرة على مائدة واحدة..
لقد تقطعت الأواصر بعد اتصالها، وبعدت المسافات على قربها، وأصبح كل فرد يعيش في عزلة عن أسرته وهو في أحضانها، وتحت رعايتها، وفي كنفها!!
ولم يعد لروابط المحبة والوئام والأنس والاطمئنان والإيثار والترابط بين الأفراد كبير وجود، والشعور المتبادل والاجتماعات وجلسات الود، وسهرات الأنس تكاد تكون قد ولت إلى غير رجعة، وأصبحت المشاعر باهتة، والمودة خافتة، حتى شكت من تقاطعهم وانفصالهم وانفصامهم الجدران.
كانت سعادة الزوجة أن يعود زوجها وتجلس معه ليأنس بها وتأنس به، يحكي لها ويسمع منها، يشكو لها ما يجده من مصاعب العمل، ومتاعب السعي ومشكلات الحياة، فتخفف عنه، وتدعو له، وتهون عليه، فكانت الأسرة والأزواج كما قال الله تعالى: {وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحَمَة}[الروم:21].
فجاءت وسائل التقاطع فانتزعت كلا منهما من صاحبه، ففصلته عنه عاطفياً، وحسياً، وشعوريا فلا إحساس ولا مشاعر!!
استبدل كل منهما صاحبه بالتليفون أو الكمبيوتر، وانتقل من الواقع إلى المواقع ليعيش في عالمه، واستغنى كل منهما عن الآخر بالواتس والفيس وتويتر والتيك توك.. وغيرها.
لم يعد أحدهما يهتم بالآخر ولا يجلس معه ولا يأنس به، ولا يهتم لوجوده، وربما لا يشعر به أصلا، ولا يفتقد غيابه؛ فعنده ما يملأ به فراغه، ويقضي فيه وقته.
ولا أريد أن أقول إن ما يراه كل منهما أفسد عليه حياته الزوجية، وخرَّب حياته الأسرية، فلم يعد الرجل يرضى بزوجته بعدما رأى أشكالا وألوانا وأنواعا لا يجدها في البيت، فكره زوجته ولم يعد يقبلها ولا يرضاها.
وهي أيضا كذلك، وزيادة عليه ما رأت من حياة الناس وأنماط معايش تشتهيها النفس ولا يقدر عليها الزوج فكرهت حياتها، وارتفع الرضا من قلبها، وتطلعت إلى أن تعيش ما رأت، فأفسد كل ذلك الود، وهدم الأسر، وشرد الأبناء، وخرب بيوتا كانت قبل عامرة.
لقد قاطع كل منهما الواقع الأسري، والحياة الطبيعية – بحجة كسر رتابة الحياة ومللها – إلى عالم آخر من الخيال والإثارة والمغامرات، فغرق كل في عالمه، وانشغل عن قرينه، وأصبحت البيوت خامدة هامدة خالية من المشاعر، حتى وصل الأمر بين كثير من الأزواج إلى انفصال عاطفي، أدى في أحيان كثيرة إلى انفصال حقيقي وطلاق.
حتى الأبناء والبنات لا يكاد الأبوان يعرفان عنهما شيئا، سواءً عن حياتهم، أو مشاعرهم، أو نفسيتهم، أو دراستهم، ولا من يصادقون ولا مع من يخرجون ويدخلون، ولا أي المواقع يتابعون، كل في عالمه الخاص.
مخازي وفضائح:- وإذا كان كل ما سبق أثرا من آثار وسائل التواصل على أفراد الأسرة على وجه العموم والإجمال، فإن لوسائل التواصل جانبا آخر أكثر إظلاما، وأشد إيلاما، وأسوأ وأقبح عاقبة، وهي أنها سهلت الطريق إلى الخيانة الزوجية وإقامة العلاقات العاطفية المحرمة أمام كلا الطرفين؛ فقد سهلت هذه الوسائل سبل التعارف والتواصل بين الرجال والنساء، ثم لقاء كل منهم بالآخر.
يبدأ التعارف وهميا بدردشات مع شخصيات افتراضية عبر فضاء النت يحسبها صاحبها آمنة – هذا إذا أحسنا الظن، ثم ما تلبث أن تتحول إلى حقيقة واقعة.. الرجل يتعرف على امرأة يستلطفها وتستحسنه، وتتعرف هي على رجل يشبع جفافها العاطفي، ويحسن ما لا يحسنه زوجها المسكين، ثم يتحول اللقاء إلى الخاص، ثم تعارف وتقارب وتلاقي.. نتيجته تتعلق بتربية كل طرف وثقافته ومبادئه وأخلاقه وديانته.. وهي أشياء في الغالب تغيب مع حضور الشيطان.
والنهاية واحدة في كل القصص التي افتضحت أسرارها، وانتهكت أستارها، وعرفها الناس وظهرت في العلن، فضائح ومخازي وخيانات وانتهاكات، تنتهي بتدمير الأسرة وتشتت أفرادها، وهدم البيوت على رؤوس أصحابها.. والسبب وراء ذلك كله: وسائل التقاطع الاجتماعي.
إنها صرخة لكل عاقل من أب وأم، وزوج وزوجة: انتهبوا قبل أن تدمنوا، وأفيقوا قبل أن تندموا، واحذروا قبل فوات الأوان، وخذوا من وقائع الآخرين عبرة، قبل أن تكونوا أنتم عبرة لغيركم.
أثر الإنترنت في العلاقات الاجتماعية للأطفال
فتحت وسائل التواصل الاجتماعي نوافذ كثيرة على المجتمعات والثقافات المختلفة نتج عنها آثار ايجابية، ومنها الانفتاح الفكري والثقافي، وتطوير المعرفة والبحث العلمي، كما أنَّها تحقق احتياجات متعددة لمستخدميها من الناحية الوجدانية والمعرفية والتكامل النفسي والاجتماعي.
كما أتاحت التواصل بين الأفراد لتشكيل العلاقات وتبادل الخبرات والاهتمامات، وذلك من خلال الرسائل والملفات والصور في بيئة افتراضية، وأصبحت هذه الوسائل جزءًا من حياتنا الاجتماعية، حيث تغلغلت في نسيجنا الاجتماعي وبتنا نعتمد عليها في جميع أوجه أنشطتنا الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية وفي النهاية ينبغي أن تظل تلك الوسائط أدوات في أيدينا نستخدمها ولا تستخدمنا، نملكها ولا تملكنا، نتعامل معها بقدر الحاجة ولا نستسلم لما تفرضه علينا من قيم دخيلة.
لكن في المقابل نجد أنها تركت آثاراً سلبية في العلاقات الاجتماعية ومستوى التفاعل الاجتماعي والتواصل الأسري والاجتماعي وعلى العلاقات الإنسانية، إلى جانب تأثيرها في مهارات التواصل الاجتماعي المباشر لدى كثير من أفراد المجتمع، فبعض الدراسات أشارت إلى أنَّ الاستغراق في استخدام هذه الوسائل يُضعف العلاقات الاجتماعية ويُقلل من التفاعل الاجتماعي في محيط الأسرة، وذلك من خلال قلة الزيارات واللقاءات العائلية، مُشيرين إلى أنَّها تزيد أيضاً من الاغتراب النفسي بين الشباب ومجتمعهم، إلى جانب تأثيرها سلباً في مهارات التواصل الاجتماعي، ما قد يُسبّب عزله اجتماعية، وكذلك سماحها باستيراد نماذج من السلوك لا تتفق مع ثقافة المجتمع الدينية والاجتماعية، حيث فسحت المجال لبناء علاقات بين الجنسين بما يتعارض مع قيم المجتمع.
من أبرز الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي على الهوية الاجتماعية
– الانعزال داخل الأسرة والتفكك العائلي: لأنَّ الإنترنت والألعاب تشغل أغلب وقت الطفل، فتجعله منعزلًا عن الأسرة، بعيدًا عن التواصل مع والديه وأفراد أسرته أو أصحابه، مما يفقده بناء المهارات اللازمة للتفاعل مع الآخرين وعلى مستوى العلاقات الأسرية يكون الغياب الروحي والعاطفي بين أفراد الأسرة برغم الحضور الجسدي، حيث يمسك كل منهم بهاتفه في غفلة عمن يجلسون معه!
حيث يعزز هذا الاستخدام المفرط للإنترنت القيم الفردية والميل للوحدة والعزلة للمراهقين والشباب بدلا من القيم الاجتماعية من التفاعل والنمو الاجتماعي والانفعالي الصحي الذي لا يقل أهمية عن النمو المعرفي وحب الاستطلاع والاستكشاف.
– تعدد المرجعيات : من أخطر السلبيات ما أنتجته هذه الوسائل من تعددية في الأطر المرجعية للسلوك، هذه الأطر التي يحكم بها الفرد على سلوكه بالقبول أو ضده، فمن أحادية الإطار – الأسرة والمجتمع المحلي – إلى تعددية الأطر – العالمية – ونتيجة لذلك لم يعد معيار القبول والرفض والخطأ والصواب للسلوك واضح لدى الشباب، حيث قد يقوم شاب بسلوك يستهجن من قبل مجتمعه المحلي، إلاَّ أنَّه يلقى له صدى وقبولا وتأييدا لدى أطر أو مرجعية أخرى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وهذا يُفسر لنا جزئياً أسباب خروج بعض الأفراد على القيم ومعايير المجتمع.
– الخروج عن قيم المجتمع حيث سمحت وسائل التواصل الاجتماعي باستيراد نماذج من السلوك لا تتفق مع ثقافة المجتمع الدينية والاجتماعية، حيث فسحت المجال لبناء علاقات بين الجنسين بما يتعارض مع قيم ومعايير المجتمع، فالكثير من المراهقين يتحدون آليات الضبط الاجتماعي الأسري ويعقدون لقاءات مباشرة مع من تعرفوا إليهم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، غير مبالين بالعواقب المترتبة على مثل هذه اللقاءات المحظورة اجتماعياً.
– استخدام الانترنت يعرض الأطفال والمراهقين إلى مواد ومعلومات خيالية وغير واقعية مما يعيق تفكيرهم وتكيفهم وينمي بعض الأفكار غير العقلانية وخصوصا ما يتصل منها بنمط العلاقات الشخصية وأنماط الحياة والعادات والتقاليد السائدة في المجتمعات الاخرى.

– ومن أهم التأثيرات في مجال التربية انشغال الآباء والأمهات بوسائل التواصل، والذي جعلهم يقصرون في واجبهم تجاه أبنائهم وبناتهم في التربية والتوجيه، وفي المقابل انشغل الأبناء والبنات بوسائل التواصل وقصروا مع والديهم في البر والطاعة.

وفي الختام
فإن حماية أبنائنا وبناتنا الذين هم أساس المجتمع وقادة المستقبل مسؤولية مشتركة بين جميع الجهات والمؤسسات، مسؤولية البيت والمدرسة والدولة، مسؤولية كل فرد ومؤسسة، حمايتهم من أنفسهم ومن كل من يحاول تحويلهم إلى كائنات غير سوية، غير متوازنة، غير مفيدة، إنما مجرد أحياء صغيرة تحكمها التكنولوجيا الحديثة المادية الجامدة.
قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” (التحريم: 6)
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” متفق عليه.

اترك تعليقاً