من مواسم الطّاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة، التي فضّلها الله تعالى على سائر أيام العام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ رواه البخاري (969)، وأبو داود (2438) – واللفظ له –، والترمذي (757)، وابن ماجة (1727).
وعنه أيضا، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى. قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء رواه الدارمي 1/357 وإسناده حسن كما في الإرواء 3/398.
فهذه النصوص وغيرها تدلّ على أنّ هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء شيء منها، حتى العشر الأواخر من رمضان. ولكنّ ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، لاشتمالها على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر. انظر تفسير ابن كثير 5/412
ما يستحب من الأعمال في العشر من ذي الحجة
فينبغي على المسلم أن يستفتح هذه العشر بتوبة نصوح إلى الله، عز وجل، ثم يستكثر من الأعمال الصالحة، عموما، ثم تتأكد عنايته بالأعمال التالية:
1- الصيام:- فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال. وقد اصطفاه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي: “قال الله: كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.” أخرجه البخاري 1805
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول اثنين من الشهر وخميسين “ أخرجه النسائي 4/205 وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/462.
2- الإكثار من التحميد والتهليل والتكبير: فيسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر. والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى.
ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة.
قال الله تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام الحج/28. والجمهور على أن الأيام المعلومات هي أيام العشر لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الأيام المعلومات: أيام العشر)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد أخرجه احمد 7/224 وصحّح إسناده أحمد شاكر.
وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهناك صفات أخرى.
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولاسيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد فإن هذا غير مشروع.
إن إحياء ما اندثر من السنن أو كاد فيه ثواب عظيم دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً أخرجه الترمذي 7/443 وهو حديث حسن لشواهده.
3- أداء الحج والعمرة:- إن من أفضل ما يعمل في هذه العشر حج بيت الله الحرام، فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب – إن شاء الله – من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة .
4- الأضحية:- ومن الأعمال الصالحة في هذا العشر التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي واستسمانها واستحسانها وبذل المال في سبيل الله تعالى.
فلنبادر باغتنام تلك الأيام الفاضلة، قبل أن يندم المفرّط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرّجعة فلا يُجاب إلى ما سأل.
هل وردت مناسبات خاصة لاستحباب صيام التسع من ذي الحجة؟
وأما ما ذكره السائل الكريم حول ورود مناسبة لكل يوم منها، فإن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح.
وما أشار إليه من هذه الأحداث المذكورة، فقد جاءت بعض الأحاديث الموضوعة المكذوبة حول هذه المعاني، وجميعها مكذوب موضوع لا يصح منها شيء، وبيان ذلك كما يلي:
الحديث الأول: أخرجه الشجري في “الأمالي” (1651) فقال: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْأَزَجِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُفِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقَ بْنُ سُوَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:(أَوَّلُ رَحْمَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْأَرْضِ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَدْلَ صِيَامِهِ سِتِّينَ سَنَةً، وَوُلِدَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلٌ مَنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ زَبُورَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَابَ عَلَيْهِ كَمَا تَابَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَشَفَ اللَّهُ الضُّرَّ عَنْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِسْعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَدْلَ صِيَامِهِ السَّنَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَالسَّنَةُ الْمُسْتَقْبَلَةْ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دُعَاءَهُ كَمَا اسْتَجَابَ لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ).
وإسناده موضوع. فيه أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المفيد، قال الذهبي في “المغني في الضعفاء” (5260):” مجمع على ضعفه، واتهم “. انتهى، وقال في “ميزان الاعتدال” (7158): “وهو متهم “. انتهى.
قال سبط ابن العجمي في “الكشف الحثيث” (610) معقبا على قول الذهبي:” فَقَوله بعد كَلَام الْبَاجِيّ: هُوَ مُتَّهم؛ يحْتَمل أَن يُرِيد: بِالْكَذِبِ، وَيحْتَمل: بِالْوَضْعِ”. انتهى
وشيخه أحمد بن عبد الرحمن بن سعد القرشي لم أجد من ترجم له، إلا أن يكون هو أحمد بن عبد الرحمن السقطي، فإنه من شيوخ أبي بكر المفيد، ترجم له الذهبي في “المغني في الضعفاء” (345) فقال: “احْمَد بن عبد الرَّحْمَن السَّقطِي شيخ الْمُفِيد، لَا يعرف؛ حدث عَن يزِيد بن هَارُون بِحَدِيث بَاطِل.” انتهى
وفيه كذلك “داود بن سليمان بن علي”، لا يعرف، لم يترجم له أحد.
وفيه سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، مجهول.
قال ابن حجر في “تهذيب التهذيب” (361):” سليمان” بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي.. قلت: قال ابن القطان “ هو مع شرفه في قومه لا يعرف حاله في الحديث.” انتهى
الحديث الثاني: أخرجه الديلمي في “مسند الفردوس” (4381)، وأورد السيوطي سنده في “الزيادة على الموضوعات” (567) من طريق الديلمي قال: أخبرنا أبي أخبرنا محمد بن الحسين السعيدي، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم يُعرف بابن شاذي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي إملاء، حدثنا محمد بن سهل بن الحسين العطار، حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، حدثني إبراهيم بن عبد الله بن العلاء، عن أبيه، عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن أبيه علي بن أبي طالب رفعه:(في أوّل ليلة مِن ذي الحجة وُلد إبرإهيم، فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ثمانين سنة، وفي تسعٍ مِن ذي الحجة أنزل توبة داود، فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ستين سنة).
قال السيوطي: محمد بن سهل: كان يضع الحديث.” انتهى
وهذا الإسناد مكذوب، مسلسل بالكذابين.
فيه إبراهيم بن عبد الله بن العلاء بن زبر، ترجم له الذهبي في “ميزان الاعتدال” (120) وقال: “ قال النسائي: “ليس بثقة.” انتهى
وفيه عبد الله بن محمد البلوي، ترجم له الذهبي في “ميزان الاعتدال” (4558) وقال: “قال الدارقطني: “يضع الحديث.” انتهى
وفيه محمد بن سهل العطار، ترجم له الخطيب في “تاريخ بغداد” (2/411) وقال: “قَالَ الدارقطني: “محمد بن سهل العطار كان ممن يضع الحديث.” انتهى
والحديث ذكره الفتني في “تذكرة الموضوعات” (ص119)، وقال:” فيه محمد ابن سهل يضع.” انتهى
الحديث الثالث: أخرجه الديلمي في “مسند الفردوس” (7122)، وأورد السيوطي سنده في “الزيادة على الموضوعات” (565) من طريق الديلمي قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن إسماعيل بن نغارة إذناً، أخبرنا أبو محمد الحسن بن الحسين بن علي بن خشنام الحافظ، حدثنا أبو النضر محمد بن أحمد بن سليمان التستري، حدثنا محمد بن مخلد العطار، حدثنا أبو سعيد محمد بن القاسم بن محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن تميم الفريابي، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجُدِّي، عن الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:(ولد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في أول يوم من ذي الحجة، فصوم ذلك اليوم كصوم سبعين سنة).
قال السيوطي:” موضوع.” انتهى
وآفته محمد بن تميم، كذاب خبيث.
قال أبو نعيم في “الضعفاء” (231): “كَذَّاب وَضاع.” انتهى، وقال ابن حبان في “المجروحين” (1013): “يضع الحَدِيث.” انتهى، وقال الحاكم كما في “سؤالات السجزي للحاكم” (137): “وضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة آلاف حديث.” انتهى
الحديث الرابع: أورده السيوطي في “الزيادة على الموضوعات” (569) بإسناد الديلمي قال: أخبرنا أبي، أخبرنا الميداني، حدثنا أبو بكر بن بشران، حدثنا ابن شاهين إملاء، حدثنا أحمد بن محمد بن عكرمة النسوي، حدثنا أحمد بن الخضر المروزي، حدثنا محمد بن نصر بن العباس، حدثنا علي بن حُجر، حدثنا حماد بن عمرو، عن زيد بن رفيع، عن الزهري، عن أنس رفعه:(من صام يوم التروية أعطاه اللهُ مثل ثواب أيوب على بلائه، وإن صام يوم عرفة أعطاه الله عز وجل مثل ثواب عيسى ابن مريم، وإن لم يأكل يوم النحر حتى يصلي أعطاه اللهُ ثواب من صلى في ذلك اليوم، فإن مات إلى ثلاثين يوماً مات شهيداً).
قال السيوطي: حمّاد بن عمرو كذاب. انتهى
وهو آفة هذا الحديث، قال ابن معين: “حَمَّادُ بْنُ عَمْرو النَّصِيبِيُّ مِمَّنْ يَكْذِبُ وَيَضَعُ الْحَدِيثَ.” انتهى من “الكامل” لابن عدي (415)، وقال النسائي في “الضعفاء والمتروكين” (136): “متروك الحديث.” انتهى، وقال الجوزجاني في “أحوال الرجال” (321): “كان يكذب لم يدع للحليم في نفسه منه هاجسا.” انتهى، وقال ابن حبان في “المجروحين” (240): “يضع الْحَدِيث وضعا عَلَى الثِّقَات.” انتهى
والخلاصة:
أنه لم تثبت مناسبة خاصة للأيام العشر كما ذكر السائل، وإنما هي أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفضل الأيام العشر، والعمل الصالح فيها وخاصة الصيام، ثابت من الأحاديث الصحيحة. ولا يلزم ثبوت الفضل في يوم حدوث شيء أو مناسبة فيه، بل يكفي أن الله فضل هذا اليوم على غيره.
والله أعلم.