لا ترسمُ ملامحُ مستقبلِ العالمِ في أروقةِ مبنى الأمم المتحدة في نيويورك. ترسمُ على طاولاتٍ أخرى… طاولةِ مجموعة الدول السبع الصناعية… وطاولةِ مجموعة «بريكس». وترسمُ قبل ذلك على طاولةِ قمة العشرين.
حول طاولةِ قمة العشرين يتحلَّقُ قادةُ الدول الأقوى والأكثر تأثيراً في الحاضر والمستقبل معاً. قادة أقوى الترسانات وقادة أقوى الاقتصادات. أعادت الحربُ المفتوحة في أوكرانيا التركيزَ على أهمية الترسانات، لكن مستقبل العالم لا يمكن أن يصنعَ بالصواريخ والمسيّرات. المستقبلُ الحقيقي يرسم بالتقدم الاقتصادي. بالتنمية. والتطور التكنولوجي والابتكار. ومحاربة الفقر والبطالة. بتعزيز التجارة وتوفير السلع. بانتزاع مجموعات سكانية هائلة من العوز والتهميش واليأس والإدارة الفاشلة للموارد المتاحة.
أظهرت قمة نيودلهي أنَّ العالم يجتاز مرحلةً انتقالية مثقلة بالتحديات الجيوسياسية والتنافسات الاقتصادية في معركة أدوار مفتوحة. أرسلت القمةُ مجموعةَ صورٍ تتعلَّق بالغيابين الروسي والصيني والحضور اللافت لـ3 لاعبينَ هم الأميركي والهندي والسعودي.
الصورة الأولى صورة غيابِ لاعبٍ دولي مهم اسمه فلاديمير بوتين. بلادُه غارقةٌ في حربٍ طويلة نسفت الجسورَ التي كانت تربطها بالغرب. حرب لا يبدو قادراً على حسمها وليس في وارد التراجع عنها. غابَ بوتين عن قمة تُعقد في دولة كانت قريبة إلى بلاده، واتكأت دائماً على أسلحتها قبل أن تبدأ حديثاً في تنويع الخيارات. صورة روسيا الوافدة من نيودلهي كانت صورة الدور المرشح للتراجع بفعل الاستنزاف في الحرب والقطيعة مع الغرب. صحيح أنَّ بيانَ القمة كان ملاطفاً لروسيا في موضوع الحرب في أوكرانيا، لكن ذلك لا يلغي الحقائق الأخرى وبينها أنَّ الحضورَ الروسي في اللقاءات الدولية الكبرى يحمل آثارَ العطب الأوكراني.
الصورة الأخرى هي صورة غياب الرئيس شي جينبينغ عن القمة، علماً أنَّه كان واظبَ على المشاركة في اجتماعات المجموعة منذ توليه السلطة في 2012. قبل شهور تكاثر الكلامُ عن أنَّ قمة نيودلهي توفّر فرصةً للقاء بين شي والرئيس جو بايدن، وهو لقاء يحتاجه عالمُ ما بعد الحرب الأوكرانية. هل غابَ شي لأنَّ ظروفَ لقاء من هذا النوع ليست ناضجة، أم لأنَّ القمة تعقد على أرض الهند نفسها، وبين الهند والصين ذاكرة من الاشتباكات والخلافات الحدودية؟ ثمة من يعتقد أنَّ غيابَ شي يرجع قبل ذلك إلى شعوره أنَّ الغربَ اتخذ قراراً جدياً بنقل التنافس الدولي المحموم إلى الملعب الآسيوي نفسه، وينوي ضخَّ التكنولوجيا والاستثمارات في عروق الهند، ليكون «الحلم الهندي» منافساً شرساً لـ«الحلم الصيني». ثم إنَّ دولاً قريبة مثل اليابان وكوريا الجنوبية تشارك بفاعلية في «الانقلاب الهندي» على الطموحات الصينية. وفي الآونة الأخيرة لم تتردَّد بكين في اتهام واشنطن بإطلاق «حرب باردة جديدة» تضع فيها الصينَ في الخانة التي وضعت فيها سابقاً الاتحاد السوفياتي.
غسان شربل