الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
يطلق العلماء الطَيْشَ على خفةِ العقل، وسرعة الغضب من يسير الأمور، وإظهار الجزع من أدنى ضرر، كذلك يطلقونه على السبِّ الفاحش والأفعال المستقبحة، أو التي يترتب عليها ضرر دون داع.
قال الجاحظ: “وهذا الخلق مستقبح من كلّ أحد، إلّا أنّه من الملوك والرّؤساء أقبح، وعلى هذا فإذا ترتّب على الطّيش محرّم كان محرّما، وإذا ترتّب عليه مكروه كان مكروها، وهو على كلّ حال مستقبح وفي كلّ وقت مسترذل، فكم من طائشِ قولٍ أو فعلٍ أهلك صاحبَه وحرمه النّجاة، وألقى به في عداد الظّلمة الفسقة).
إن السبب الرئيس للطيش هو العجلةُ التي تنتج غالبا عن قلة الخبرة، ولهذا أكثر ما تجد الطيش في بعض الشباب وقلما يكون في الكبار.
قال بعضهم: “الأناة حصن السّلامة، والعجلة مفتاح النّدامة”، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (التؤدة في كلّ شيء خير إلّا في عمل الآخرة)رواه أبو داود.
إن الطيش يحمل صاحبه على ارتكاب ما يضره مع علمه بقبحه، وهذا نوع من الحماقة، والحماقة لا دواء لها في الغالب: لكلّ داء دواء يستطبّ به … إلّا الحماقة أعيت من يداويها
والطيش ضد الرفق، ولا شك ان العبد يصل إلى مبتغاه من خلال الرفق، قال أبو حاتم البستي: “الواجب على العاقل لزوم الرّفق في الأمور كلّها وترك العجلة والخفّة فيها، ولا يكاد المرء يتمكّن من بغيته في سلوك قصده في شيء من الأشياء على حسب الّذي يجب إلّا بمقارنة الرّفق ومفارقة العجل”.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله عزّ وجلّ ليعطي على الرّفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحبّ الله عبدا أعطاه الرّفق. ما من أهل بيت يحرمون الرّفق إلّا حرموا الخير)رواه الطبراني.
بين الأخرق والرفيق: والأخرق هو الذي فيه حماقة، وتهور، وفيه اندفاع، وطيش، والرفيق بخلاف ذلك؛ لهذا إذا أحب الله عبدا حلاه بالرفق وأبعده عن الحمق والطيش، وإذا كان العبد طائشا كان بعيدا عن الخير، ومن علامات الخير أن يتربى أهل البيت على الرفق، ولا شك أن رب البيت هو الذي يؤثر عليهم بذلك، فإن كان رب البيت طائشاً أخرق أحمق فتكون صفة أهل البيت كذلك، إلا من رحم الله عز وجل، فإذا كان كبير البيت أخرقًا طائشاً فإن بقية أهل البيت يقلدونه في هذا الشيء، فيكون هو الذي زرع فيهم هذا الخلق السيء ويكتوي بناره، وإنما يجني ما غرست يداه، يقول ابن القيم رحمه الله: “وممّا يحتاج إليه الطّفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه، فإنّه ينشأ على ما عوّده المربّي في صغره من حرد وغضب، ولجاج وعجلة، وخفّة مع هواه وطيش وحدّة، وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك. وتصير هذه الأخلاق صفاتٍ وهيئات راسخة، فلو تحرّز منها غاية التّحرّز فضحته ولابدّ يوما ما، ولهذا تجد أكثر النّاس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قبل التّربية الّتي نشأ عليها”.
وهناك شبه واضح بين الطيش والسفه الذي عرفه الجرجاني بقوله: “السّفه عبارة عن خفّة تعرض للإنسان من الفرح والغضب، فيحمله ذلك على العمل بخلاف العقل وموجب الشّرع”.
فكل من كان به طيش ففيه سفاهة، والسفيه يأتي غالبا بأفعال وأقوال تضره ولا تنفعه، كما أنه يسارع في أذية من حوله؛ لهذا كان العقلاء ينهون عن مجالسة السفهاء، قال عمير بن حبيب بن خماشة يوصي بنيه: “بنيّ إيّاكم ومجالسة السّفهاء؛ فإنّ مجالستهم داء، من يحلم عن السّفيه يسرّ، ومن يجبه يندم، ومن لا يرضى بالقليل ممّا يأتي به السّفيه يرض بالكثير”.
وكان الشافعي رحمه الله يقول: يخاطبني السّفيه بكلّ قبح .. .. فأكره أن أكون له مجـيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلمــا .. .. كعود زاده الإحراق طيبا
ومن أسباب الطيش: أولا: الإهمال وعدم تحمل المسؤولية: إن الإسلام يربي أبناءه على تحمل المسؤولية، ويبين لهم أنهم إذا كانوا مكلفين فهم مسؤولون عن كل ما يصدر منهم من أقوال وأفعال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}(الصافات: 24). وقال الله تعالى:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ . فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(الزلزلة: 6-8). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن أربعِ خِصالٍ : عن عُمرِه فيما أفناه ، وعن شبابِه فيما أبلاه ، وعن مالِه من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن عِلمِه ماذا عمِل فيه)رواه الترمذي.
بل الفرد في المجتمع عليه مسؤولية تجاه هذا المجتمع، قال الدّكتور عبد الكريم زيدان: “ومن خصائص النّظام الاجتماعيّ في الإسلام تحميل الفرد مسئوليّة إصلاح المجتمع، بمعنى أنّ كلّ فرد فيه مطالب بالعمل على إصلاح المجتمع وإزالة الفساد منه على قدر طاقته ووسعه، والتّعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلوب. قال تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ}(المائدة:2).
فإذا لم يترب الفرد على تحمل المسؤولية اتسمت تصرفاته بنوع من الطيش والسفه؛ ولهذا إذا نظرت إلى حال فئات من الشباب في مجتمعات المترفين لوجدت نسبة لا يستهان بها تتسم بالطيش وعدم تقدير المسؤولية، لهذا قيل:
إن الشباب والفراغ والجِدَة .. .. مفسدة للمرء أي مفسدة
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (إن الشباب والفراغ والجدة) ثلاثة أشياء كلها داء إلا إذا وُفِّق الإنسان واستعملها في النافع، الفراغ يعني عدم العمل، وتعرفون الإنسان إذا لم يكن له عمل ذهب ذهنه كل مذهب وصار يخبط خبط عشواء، والجدة يعني الغنى لأن الفقر يُلْجِئ الإنسان إلى العمل لكنه إذا كان غنياً وكان شاباً وكان فارغاً (ولم يكن عاقلا).. هذا (هو) الفساد، ولهذا نجد أن أكثر المكذبين للرسل هم الأغنياء والكبراء، والغرض من هذا البيت تحذير الشاب الذي أغناه الله عز وجل وأفرغه عما يلهيه أن يُضِيعَ هذه الصفات الثلاث في غير فائدة).
ثانيا: اتباع الهوى: فالهوى يعمي صاحبه ويصمه، ويحمله على مخالفة مقتضى العقل والشرع، يقول الجاحظ: “إذا تمكّنت الشّهوة من الإنسان وملكته وانقاد لها كان بالبهائم أشبه منه بالنّاس، لأنّ أغراضه ومطلوباته وهمّته تصير أبدا مصروفة إلى الشّهوات واللّذّات فقط، وهذه هي عادة البهائم، ومن يكون بهذه الصّفة يقلّ حياؤه، ويكثر خرقه، ويستوحش من أهل الفضل، ويبغض أهل العلم، ويودّ أصحاب الفجور، ويستحبّ الفواحش، ويسرّ بمعاشرة السّخفاء، ويغلب عليه الهزل وكثرة اللهو، وقد يصير من هذه الحالة إلى الفجور، وارتكاب الفواحش، والتّعرّض للمحظورات، وربّما دعته محبّة اللّذّات إلى اكتساب الأموال من أقبح وجوهها، وربّما حملته على الغضب والتّلصّص والخيانة وأخذ ما ليس له بحقّ؛ فإنّ اللّذّات لا تتمّ إلّا بالأموال والأعراض، فمحبّ اللّذّة إذا تعذّرت عليه الأموال من وجوهها، جسّرته شهوته إلى اكتسابها من غير وجوهها، ومن تنتهي به شهواته إلى هذا الحدّ، فهو أسوأ النّاس حالا، ويصبح من الأشرار الّذين يخاف خبثهم..”.
إن نظرة على الطرقات وطريقة قيادة بعضنا لسيارته، والمسابقات التي يجريها بعض الشباب للسرعة في غير مواضعها، وما يسمى بالتفحيط، والتخميس وغيرها من المظاهر التي تدل على الطيش تجعلنا نردد: يا رب سلم سلم.
ولا شك أن هناك مظاهر أخرى للطيش تحتاج إلى معالجة من خلال المؤسسات والمحاضن التربوية المختلفة من البيت والأسرة، والمساجد والمدارس والجامعات والأندية، ومؤسسات الدولة التي تعنى بالشباب بحيث ينظمون لهم من الفعاليات والأنشطة النافعة ما يملأ فراغهم، ويعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالنفع والفائدة.
نسأل الله تعالى أن يحفظ البلاد والعباد، وأن يلهمنا والمسلمين الرشد والسداد، والحمد لله رب العالمين.
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار
السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية.
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك، ويتبين له أسباب الهلاك ومواطن العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل؛ فهي كالنور الذي يضيء ظلمة الطريق، والهادي الذي يهديه عند سيره فيه، وهذا شطر السعادة، ولكنه كلا شيء إذا لم يتوفر الشطر الثاني وهو القوة العملية، بأن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة. وهذا الذي ذكرناه هو ما بينه الله في كتابه، حين قال لنبيه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَار . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ . وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ}(ص:45ـ47).
يعني واذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الثلاثة الطيبين والسادة المرسلين: إبراهيم، إمام الحنفاء وأبا الأنبياء، وولده إسحاق، وولد ولده يعقوب عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. وقد وصفهم الله تعالى بعدة صفات: وذكرهم بالذكر الحسن والثناء الجميل:
العبودية
فوصفهم أولا بأشرف صفة يوصف بها إنسان، وهي عبوديتهم لله {عِبَادَنَا}
وممــا زادني شــرفا وتيـــها .. وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي .. وأن صـيرت أحمـد لي نبيا
والله تبارك وتعالى إنما نسبهم إليه تشريفا لهم، وتعظيما لقدرهم، وشهادة لهم بأنهم حققوا هذا المقام وقاموا به حق القيام.. ولا شك أن الأنبياء هم أحق الخلق بهذا الوصف فإنهم عباد الله حقا، القائمون بهذا المقام صدقا.
فحققوا عبوديات القلب من إيمان تام ويقين كامل، ومحبة لله وخوف ورجاء، وتوكل وإنابة، وتسليم واستجابة لأمره الشرعي وحكمه الديني، ورضى بأمره القدري وقضائه الكوني..
كما حققوا عبادات الجوارح من صلاة وصيام، وزكاة وحج، ودعوة لله وجهاد بالقول واللسان والسيف والسنان، وقيام ليل وطول ذكر.. وغير ذلك، حتى كانوا أئمة الخلق في ذلك كما قال الله فيهم في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء:73).
قوة علمية وقوة عملية
ثم بين سبحانه أنهم إنما حصلوا ذلك بأمرين وصفهم الله بهما في قوله {أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَار}، وهما القوتان العلمية والعملية كما قال أهل العلم، فالقوة العملية في قوله {أُولِي الأيْدِي}: ومعناها القوة في العبادة وطاعة الله.. والقوة العلمية في قوله أولي {الأبْصَار}: يعني البصيرة التامة والفقه في الدين..
والسالك إلى الله لابد له من هاتين القوتين، القوة العلمية والقوة العملية، أو ما يسمى بالعلم النافع والعمل الصالح.
والناس في هذا أربعة أقسام:
. قسم وهبه العلم ووفقه للعمل، فجمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، فهم أفضل الأقسام وأكرم الأنام {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}(الكهف:107).
.. وقسم حصل العلم ولكنه محروم من العمل، فهو عند العلم فارس الميدان، فإذا أتى العمل كأنه من أجهل الأنام، فهو يعلم فضل قيام الليل ولا يقوم، وفضل الذكر والتسبيح ولكنه عديم الذكر أو قليله، وهكذا بقية الأعمال..
وقد ذم الله هذا الصنف بقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}(الصف:2، 3).. وقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(البقرة:44).