كتب دانة العنزي
بعد أشهر من الصراع والجدل الحاد داخل الكونغرس، وبين دوائر صنع القرار في واشنطن، حسم الكونغرس أخيراً بأغلبية ساحقة قضية دعم أوكرانيا، بالموافقة على حزمة مساعدات مالية بنحو 95 مليار دولار لكل من تايوان وإسرائيل وأوكرانيا، خصصت منها نحو 61 ملياراً لدعم أوكرانيا عسكرياً.
وتعد مسألة الدعم الأميركي لأوكرانيا من أكثر القضايا التي أثارت خلافات حادة داخل الكونغرس. ولا تعزو هذه الخلافات بسبب سيطرة الجمهوريين على الكونغرس فحسب، بل لأسباب ومتغيرات منطقية أخرى. بادئ ذي بدء يجب الإشارة أن التوجه العام الأميركي منذ 2009 هو تقليل الإنفاق العسكري بنسبة ما، لاسيما المخصص لدعم النفوذ الخارجي الأميركي، وذلك بسبب وطأة الأزمة الاقتصادية التي تئن منها الولايات المتحدة. والتي كان أحد أسبابها الرئيسية التكلفة الباهظة لحربي العراق وأفغانستان التي ناهزت أربعة تريليونات دولار.
ومن ثم، فمن البدهي أن مسألة زيادة المساعدات العسكرية الخارجية لدعم دول أو قضايا لا تبدو لصناع القرار الأميركي ذات أهمية إستراتيجية حيوية، أو تمثل تهديداً خطيراً للولايات المتحدة، أن تواجه ممانعة شديدة. فضلاً عن ذلك، فبخصوص أوكرانيا تحديداً، فقد دعمت واشنطن حربها ضد روسيا بنحو 120 مليار دولار منذ بداية الحرب. ومع ذلك، لم تثمر هذه المساعدات أي نتائج ملموسة، بل إن الوضع العسكري على الأرض يميل لصالح روسيا بنسبة كبيرة. وهو ما يعتبره الكثير في الكونغرس تبديداً طائلاً لأموال الخزانة الأميركية بلا فائدة، بل إنهم قد ذهبوا أبعد من ذلك بزعمهم-الذي يبدو منطقياً- بحسم روسيا للحرب في نهاية المطاف مهما قدمنا من دعم عسكري لأوكرانيا. ولم يمر عام على الحرب الأوكرانية، حتى وجد الكونغرس مبرّراً آخر لتقليص المساعدات لأوكرانيا إلى مستوى متدن، وهو حرب إسرائيل على غزة. والتي تتطلب تخصيص مزيد من المساعدات لإسرائيل لمواجهة تداعيات هذه الحرب، والتي ظهرت بالفعل عبر فتح إسرائيل لجبهة صراع مع حركات المقاومة في لبنان والعراق واليمن، وحرب محدودة قد تتطور لنطاق أوسع مع إيران.
ومع ذلك، فالشاهد في الأمر، أن صوت المصالح الإستراتيجية العميقة-الذي دفع لإجماع حزبي نادر الحدوث لدعم أوكرانيا- قد انتصر لصالح استمرار الدعم القوي لأوكرانيا. ففيما يبدو قد أدرك أو تيقن الكونغرس في النهاية، أن استمرار الدعم العسكري القوي لأوكرانيا لن يؤدي إلى هزيمة روسيا بالطبع، لكن سيساهم في المزيد من استنزافها مادياً وعسكرياً، كما سيؤدي إلى استنزاف مماثل لشعبية وشرعية بوتين داخلياً. وهو ما تعول عليه واشنطن بقوة لإنهاء هذه الحرب، إذ تعتقد أن استمرار استنزاف روسيا وبوتين في حرب يراها الروس غير مبررة، سيجبر بوتين على إنهائها طوعاً أو مرغما خشية من انقلاب داخلي. علاوة على ذلك، فاستنزاف روسيا مفيد لأميركا في جميع الأحوال لأنه إضعاف لأكبر حليف للصين.
لكن ما هو أخطر من ذلك على ما يبدو يكمن في أهمية استمرار هذا الدعم لعرقلة روسيا في المضي قدماً لما بعد أوكرانيا، أي دول أوروبا الشرقية وتحقيق حلم بوتين الشخصي في استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق.
فضلاً عن ذلك، فتقليص الدعم لأوكرانيا ينطوي على مخاطر شديدة عدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً للمصالح الأميركية وإستراتيجيتها الدولية العامة. ومن أهمها، زيادة فجوة عدم الثقة القائمة حالياً بين أوروبا وأميركا، وهو ما يدفع بعض الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها العسكري بصورة مبالغ فيها، أو التفكير في امتلاك سلاح نووي لردع روسيا، أو التحالف مع الصين. وفي المحصلة الأخيرة، ستفقد الولايات المتحدة هيمنتها التقليدية على أوروبا التي تعد أحد أسلحتها الرئيسية لمواجهة الصين وروسيا، واستمرار هيمنتها الأحادية على النظام الدولي.
وذلك في وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة لدعم حلفائها التقليديين بشدة في إطار حرب حشد التحالفات الدولية بين واشنطن وبكين. وبالتالي، فاستمرار الدعم الأميركي القوي لأوكرانيا هو رسالة طمأنة صريحة لجميع حلفائها الدوليين.