تجري في كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة معارك انتخابية، وتُعرض على العالم بكل تفاصيلها. وككل المعارك التي جرت عليها سياقات العمل الديموقراطي التعددي، تطرح الكثير من القضايا، المحلية والدولية، وتختلف وجهات النظر بشأنها بين الأطراف المتنافسة.
الملاحظ أن في معظم المناظرات، إن لم يكن في كلها، التي تمّت بين كبار المتسابقين، أنهم اتفقوا على تجاهل ما يحدث في غزة، أو على التسابق لتأييد إسرائيل وما تقوم به من حرب إبادة، أو حتى اتهام للمنافس بأنه يؤيّد الفلسطينيين، لتحقيره!
للعاقل أن في ذلك مفارقة منطقية، بين ما عرف عن الغرب من دعوة إلى حرّيات الشعوب وتقرير المصير ونصرة المظلوم وإنصافه، إلّا أن الموقف السياسي يأخذ في معظم الديموقراطيات الغربية ذاك المنحى.
هذا المشهد يدعونا إلى التفكير في ما نقوله لأنفسنا، أو ما يقوله البعض لنا، إن العالم متعاطف مع القضية الفلسطينية، ومستنكر لهذه المذابح التي تجري منذ أكثر من 9 أشهر حتى الآن، يُطارد فيها الإنسان الغزاوي من زاوية إلى أخرى.
مع ذلك يصرّ البعض منا على القول إن نهاية إسرائيل قاب قوسين أو أدنى! أو أن تفكّكها الداخلي وشيك. السؤال المنطقي هو: لو كان العالم متعاطفاً، وإسرائيل على وشك الانهيار، والقاعدة الانتخابية الغربية العريضة عموماً متعاطفة مع القضية، لو كان ذلك، لقام السياسيون بمحاولة استرضاء تلك القاعدة، ومسايرة ذلك التوجّه، إن لم يكن تأييداً للقضية بشكل مباشر، فعلى الأقل استنكاراً واضحاً لما يحدث!
إلّا أن ذلك لم يحدث، فما هو على الأرض ومشاهد أن “قصة الهولوكوست” وذنب “العداء للسامية” هو المسيطر على السياسي الغربي، مهما سمعنا في الإعلام الغربي من تعاطف، ومهما رأينا من تظاهرات الشباب في الجامعات.
حتى على المستوى الدولي القانوني، ومن خلال مؤسسات مفترضٌ أنها محايدة وموضوعية مثل محكمة الجنايات الدولية، فقد ساوت بين الطرفين، بل أدانت اثنين من السياسيين الإسرائيليين بتهم الإبادة الجماعية فيما أدانت ثلاثة من الجانب الفلسطيني!
ماذا تعني هذه الظاهرة؟ معروف أن عدم المساواة ظاهرة إنسانية، موجودة في كل زمان ومكان، وحتى تتغيّر تحتاج إلى تغيير المعادلة، ونحن حتى الآن لم ننظر في آليات تغيير المعادلة!
كره الغرب للآخر ليس جديداً، فقد عانى أتباع الديانة اليهودية قروناً من اضطهاد وقع عليهم في المدن والأرياف الأوروبية، سواء تحت الحكم القيصري الروسي أم في الإمبراطوريات المختلفة في أوروبا. ويزخر التاريخ الأدبي لتلك العصور بتعظيم مساوئ اليهود. وقد استمرت النظرة السلبية التي تدين اليهود حتى الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
حتى في الولايات المتحدة، لم يكن اليهود المهاجرون من أوروبا مرحّباً بهم، على الرغم مما كان يبدو من ليبرالية في النظام الأميركي، حتى ربما قبل 100 عام خلت.
ماذا حدث إذاً؟ وكيف غيّر اليهود المعادلة؟ الذي حدث هو أن اليهود في كل تلك المجتمعات التي تبنّت نخبها الليبرالية، قاموا بـ”الانصهار” في مجتمعاتهم والتعامل مع أفكار تنويرية، لا بل قيادتها. لذلك نجد أن عدداً كبيراً من المفكرين الليبراليين في الغرب هم يهود أو ينحدرون من أصل يهودي. كان ملاذهم الدفع بقيم إنسانية تنادي بالمساواة بين الناس، بصرف النظر عن عرقهم أو دينهم، كي يجدوا مكاناً لهم في تلك المجتمعات. وبعد ما قامت به النازية من أهوال ضدّهم، استفادوا كثيراً منها، وشكّلت فكرة “معاداة السامية” ظاهرة اجتماعية وسياسية متزامنة ومتوافقة مع الليبرالية، كما شكّلت المحرقة (الهولوكوست) ضربة موجعة للعقل الليبرالي في القرن العشرين. تعظيم تلك المجازر وتوثيقها إعلامياً في كتب وأفلام ومتاحف، جعل منها ركناً من أركان الليبرالية المعاصرة.
من وجهة النظر العربية، تحول المضّطهَد، بفتح الهاء، إلى مضّطهِد، بكسر الهاء، في فلسطين، لكن ذلك لم يؤثر في السيكولوجيا الغربية، لعدد من الأسباب، منها أن الصهيونية كفكرة هي أكبر من اليهودية كدين، استطاعت أن تتغلغل في عقول الملايين في الغرب، وأن عودة اليهودية إلى أرض فلسطين مقدّمة لعودة المسيح. على بساطة وربما أسطورية الفكرة، إلّا أنها متبعة بشكل واسع.
إلى جانب ذلك، تعامل اليهود مع المجتمعات الغربية على قاعدة الاندماج، والعمل على التعاطي مع أهم نشاطات المجتمع الحديث، وهي الاهتمام بالعلم والتجارة والصناعة والإعلام، ومن ثم العمل السياسي. من هنا، ملكوا نفوذاً أكبر كثيراً من عددهم في المجتمعات الغربية.
في المقابل، لم يستطع العرب ولا الفلسطينيون أن يستوعبوا ذلك الدرس المهم، أي الاهتمام بالعلم الحديث والصناعة والإعلام، فدخلوا إلى العصر الحديث من مكان مظلم هو بقايا الدولة العثمانية التي، في 200 سنة من حياتها، تدهور وضعها إلى حدّ التردي، وأخذت معها كثيراً من الشعوب التي حكمتها بمن فيهم العرب.
لم يستطع العرب أو المسلمون الذين هاجروا مبكراً إلى أوروبا أو الأميركيتين من تنظيم أنفسهم، وإيجاد أرضية مشتركة للدفاع عن قضايا أهلهم في الأوطان التي تركوها، ولا زالوا مبعثرين.
أما من بقي في الوطن، فقد فاتهم التنظيم الحضاري، حتى وهم يرون أمام أعينهم في إسرائيل بشراً مختلفي الثقافات واللغات والألوان، جمعتهم وحدة الهدف في “أرض الميعاد” فتبنّوا التنظيم الاجتماعي الحديث الذي تحوطه القوانين، ويجمعه حب البقاء، ويتخذ العلم سبيلاً لبقائه.
تفرّق العرب والفلسطينيون، وفضّل بعضهم تسليم قراراته للآخرين من دون شرط او قيد.
حتى في الأزمة الأخيرة، “الهولوكوست الغزاوي”، نجد أن قيادات إسرائيلية تختلف في ما بينها مع قيادات غربية، على الرغم من أنها تعتمد على الغرب تقريباً في كل شيء، إلّا إنها لا تسلّم قرارها ومصالحها لها! كما أن لها مرجعية ضابطة للخلاف في شكل المحكمة العليا والتي توازن الخلاف وتضبطه!
تلكم هي الدروس التي يجب أن توضع أمام العربي، على الرغم من كل الأصوات الزاعقة والعاطفية. فإنها دروس لا يُسمع لها صوت، إنما يُسمع صدى فارغ من الانتصار الوهمي.
إلى أن يتوحّد الفلسطينيون ويقتنعوا بأن المجتمعات المنقسمة على نفسها لا تنتصر في الحرب، ويخلق العرب لهم قوى ضاغطة في الغرب، وتدخل السينما والإعلام والكتب لتوثيق “مجازر غزة”… حتى ذلك الوقت، لن يلتفت السياسي الغربي لكل ضجيجنا الكلامي.
*نقلاً عن “النهار“