You are currently viewing أسباب ترك السماحة

أسباب ترك السماحة

السماحة والتسامح خلق إنساني نبيل، ومبدأ إسلامي جليل، والإسلام دين السماحة في كل جوانبه: أحكامه، وأخلاقه، وتعاملاته، وتشريعاته.. قال صلى الله عليه وسلم: (بُعثتُ بالحنيفيةِ السمحةِ)[أخرجه أحمد]، وقال: (رحِم اللهُ عبدًا سَمحًا إذا باع، سَمحًا إذا اشترى، سَمحًا إذا اقتَضى)[أخرجه البخاري].
تعريف التسامح
و السماحة هي: احترام الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية بين الناس كافة، دون أي تمييز قائم علي العنصر أو الجنس أو اللغة أو الأصل الوطني أو المعتقد، أو أي تمييز بسبب عجز أو إعاقة.. وهذا هو تعريف مواثيق الأمم المتحدة.
والتسامح علي مستوى الدول يقتضي ضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية، بين أبناء الوطن مع اختلاف اللون والجنس والعنصر والمعتقد، وهو يقتضي أيضا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز. فكل استبعاد أو تهميش إنما يؤدي إلي الإحباط والعدوانية والتعصب.
إن التسامح على هذا المعنى ليس مبدأ يُعتَزُّ به فحسب، ولكنه أيضا ضروري لإحلال السلام والتقدم الاقتصادي والأمن الاجتماعي، والهدوء النفسي لكل الشعوب.
ولا شك أن ترك السماحة وارتفاعها من بين الناس يؤدي إلى أضرار كبيرة كتزايد أعمال العنف، والإرهاب، وكراهية الأجانب، والنزاعات القومية، والعنصرية، والتمييز ضد الأقليات، والاستبعاد والتهميش للاجئين والعمال المهاجرين والفئات الضعيفة في المجتمعات، كما تؤدي إلى تزايد أعمال الترهيب ضد بعض صور حرية الرأي والتعبير.
وعلى مستوى الأفراد فإن غياب التسامح يؤدي إلى الانزلاق في اللدد والخصومة، وكثرة المجادلة، ويوغر الصدر، ويورث الكراهية والبغض، ويؤدي إلى الفرقة والضعف.
وهذا كله يهدد عمليات توطيد دعائم السلام والديمقراطية والأمن علي الصعيدين الوطني والدولي والشخصي، وتشكل كلها عقبات في طريق التنمية والسلام الاجتماعي.
أسباب ترك السماحة
وأما أسباب ترك السماحة فهي كثيرة على المستوى العام والخاص.. فمن ذلك:
أولا: التعصب
وهو عدو هذه الفضيلة الإنسانية، سواء كان للرأي، أو للجماعة، أو للعنصر.. حتى التعصب للعقيدة ضبطه الله بين حدي الإفراط والتفريط، فمنع من التعدي على عقائد الآخرين، ونهى عن ظلمهم، ما لم يقاتلونا ولم يحاربونا فقال سبحانه {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8]، كما نهى عن الإفراط الذي يوصل إلى حد الذوبان أو التخلي عن أصول الإيمان وقواعد الشريعة فقال سبحانه {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:9].
فمهما بلغ الخلاف العقدي مع الآخرين يبقى المسلم مطالبا بإقامة العدل، والحكم بالقسط، وممنوعا من الاعتداء والظلم قال سبحانه {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[المائدة:8].
ثانيا: التمييز العنصري
ضد عرق، أو لون، أو فكر، أو ثقافة.. وقد عانت أوروبا من العنصرية الأمرّين، وكان التمييز الفج ضد أصحاب البشرة السمراء إلى عهد قريب معمولا به في الغرب، وما تزال آثاره موجودة وحوادثه متكاثرة، وبين الفينة والفينة تقع حوادث من مثل هذا النوع بشكل مفزع، وإن كانت دول الغرب تحاول أن تتخطى هذه العقبة بسن القوانين التي تخفف من غلواء هذا الأمر.
والإسلام قد وقف موقف الحسم من هذه المشكلة وبين أن الناس كلهم سواسية، قال صلى الله عليه وسلم: (لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمَ، وآدمُ من ترابٍ)[رواه أحمد والبيهقي].
ثالثا: شيوع الجهل
التسامح كقيمة مقرون بمستوى التعليم والمعرفة التي تمكن الفرد من الاطلاع والقدرة على المقارنة بين الآراء المختلفة واتخاذ الموقف العقلاني تجاه هذه المسألة أو تلك، ففي كثير من الأحيان يكون رد الرأي الآخر ومحاربته ليس لخطئه وفساده، وإنما لعدم فهمه، وانعدام القدرة على استيعابه، فيهاجمه الجاهل لمجرد ظن مخالفته لرأيه، وكلما زاد الجهل وانتشر كلما زادت هذه الهوة واتسعت.
رابعا: دعوى احتكار الحقائق:
وهو اعتقاد الإنسان صحة وجهة نظره وامتلاك ناصية الحقيقة المطلقة، وبالتالي فهو غير قابل للنقاش أصلا، بل إنه يكون مستعدا للقتال والموت في سبيل قناعاته.
وهذا الاعتقاد يرفع الحد بين الرأي والحقيقة، فهو لا يرى الفارق بين الحقائق القطعية الشرعية، وبين الآراء الظنية الإنسانية، فيتعامل مع رأيه ويدافع عنه على أنه الحقيقة التي لا تقبل النقاش وكل ما سواها باطل. وغالبا ما ينظر إلى مخالفيه على أنهم أعداء، وربما زاد الغلو فيرى جواز تهميشهم أو حتى إيذائهم وقتلهم، كما هو في كل الجماعات المتطرفة في جميع الأديان.
خامسا: تدني مستوى الحريات
خصوصا في البلاد المتخلفة التي تقودها أنظمة قمعية استبدادية، حيث لا قيمة للإنسان، ولا مكان للحريات، ولا عدالة للقانون، وإنما هو حكم الفرد وفرض الرأي، وحيث الطبقية المفرطة، فحقوق الناس مستباحة، ورأي الناس وفكرهم مصادر، فليس هناك إلا رأي واحد لمن بيده زمام الأمور والبقية تبع لا يحق لهم المخالفة ولا المعارضة ولا إبداء الرأي، وإلا فالعقوبة لهم بالمرصاد.
سادسا:الكبر والاستعلاء
وهذا غالبا يكون ممن يملك أسبابها من المناصب السياسية أو القوة المالية والبشرية، فتكون القوة هي معيار الحقيقة، والرأي لمن يمتلكها.
أسباب شخصية
وهناك أسباب أخرى لعدم التسامح يمكن وصفها بأنها شخصية فردية:
كالانتقام للنفس: عند الشعور بالإهانة والتنقص ردا للاعتبار، وعدم الظهور بمظهر الضعف والذلة.
ومنها ضعف الحجة والافتقار لأدب الحوار.
ومنها أيضا الجهل بفضيلة التسامح وترغيب الدين فيه ودعوته إليه.
ومنها الجهل بأثر التسامح على الفرد والمجتمع.
وخلاصة الأمر
أن التسامح هو قبول الآخر، واحترام حقوقه وحرياته الأساسية، دون أي تمييز قائم علي العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين أو بسبب عجز أو إعاقة.. وهو بهذا مطلب أخلاقي إنساني، ومبدأ إسلامي، وواجب سياسي وقانوني ضروري لإحلال السلام وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي لكل الشعوب.
إن التسامح لا يعني التنازل عن المبادئ، أو التغاضي عن الحقوق، أو الذوبان في ثقافة الآخر، ولا يعني إطلاقا التخلي عن العقائد وثوابت الدين، وإنما هو العدل والإنصاف مع الآخرين.
فإن الشرع قد جاء بالزجر عن سوء الظن بالمسلم الذي لم تظهر منه ريبة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم {الحجرات:12}.
قال القرطبي في تفسيره: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا” لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: “ولا تجسسوا” وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه ويتبصر ويستمع لتحقق ما وقع له من تلك التهمة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح وأونست منه الأمانة في الظاهر فظن الفساد به والخيانة محرم بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث وعن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله حرم من المسلم: دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء”. وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت. اهـ.
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. متفق عليه
جاء في شرح مسلم للنووي: المراد النهي عن ظن السوء: قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يملك ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر فإن هذا لا يكلف به كما سبق في حديث: “تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة ما لم تتكلم أو تعمد” وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به فإن لم يتكلم لم يأثم .اهـ.
فإن كان ظنك السيئ قد وقر في قلبك ولم يكن مجرد خاطر عابر وكان من ظننت به السوء لم يبد منه ما يوجب ذلك: فقد وقعت في سوء الظن المحرم وتجب التوبة إلى الله عز وجل منه.
وأما طلب السماح ممن ظنت به السوء: فيقال فيه: إن الغيبة – والتي هي أمر ظاهر – لا يشترط في التوبة منها طلب العفو ممن اغتيب وذلك دفعا لما قد ينشأ بذلك من المفسدة بل يكتفى بالدعاء له والاستغفار على الراجح قال ابن القيم: إن كانت المظلمة بقدح فيه بغيبة أو قذف: فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه ولا يشترط تعيينه أو لا يشترط لا هذا ولا هذا بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام من قذفه واغتابه؟
على ثلاثة أقوال وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف هل يشترط في توبة القاذف إعلام المقذوف والتحلل منه أم لا؟ ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم.
والمعروف في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك اشتراط الإعلام والتحلل هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم.
والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه.
ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره فلا بد من إعلام مستحقه به لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره واحتجوا بالحديث المذكور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان لأخيه عنده مظلمة – من مال أو عرض – فليتحلله اليوم» قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقا لله وحقا للآدمي فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه: إن شاء اقتص وإن شاء عفا وكذلك توبة قاطع الطريق والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه بل يكفي توبته بينه وبين الله وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه وقذفه بذكر عفته وإحصانه ويستغفر له بقدر ما اغتابه وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية – قدس الله روحه -.
واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما وقد كان مستريحا قبل سماعه فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه كما قال الشاعر:
فإن الذي يؤذيك منه سماعه … وإن الذي قالوا وراءك لم يقل.

وما كان هكذا: فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوجبه ويأمر به قالوا: وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل فلا يصفو له أبدا ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب والتراحم والتعاطف والتحابب قالوا: والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين: أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه فلا يجوز إخفاؤها عنه فإنه محض حقه فيجب عليه أداؤه إليه بخلاف الغيبة والقذف فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.

والثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ولم تهج منه غضبا ولا عداوة بل ربما سره ذلك وفرح به بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا من أنواع القذف والغيبة والهجو فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت. اهـ.

فإذا تبين أن الغيبة – والتي هي أمر ظاهر – لا يشترط في التوبة منها طلب العفو ممن اغتيب وذلك دفعا لما قد ينشأ بذلك من المفسدة فمن باب أولى أن إساءة الظن – والتي هي أمر في الباطن – لا يشرع فيها طلب السماح ممن ظن به السوء وانظر مزيد بيان في الفتوى رقم: 143707.

والله أعلم.

اترك تعليقاً