كتب د.هشام الحمامي
مر شهر على اغتيال الشهيد إسماعيل هنية (31 تموز/ يوليو الماضي) في قلب طهران، وعلى اغتيال قائد كتائب حزب الله الشهيد فؤاد شكر، وأربعون يوما على ضرب ميناء الحديدة (20 تموز/ يوليو).
الضربات الثلاث موجعة ونافذة وأليمة، على كل المستويات العملية والمعنوية. في الأولى نحن نتحدث عن كرامة وسيادة دولة تعتبر نفسها ويعتبرها العالم أحد أهم ركائز الشرق الأوسط والأقصى، وأن تتم بعثرة هذا المفهوم بكل هذه السهولة، ثم لا يرى العالم إلا التهديدات الصاخبة، ويمر اليوم بعد اليوم كل يوم، ثم لا نسمع إلا صوتا ولا نرى إلا فوتا!
وحتى لو كانت هناك طرق أخرى للرد والانتقام ولم تظهر للعالم، فهذا شأن وهذا شأن آخر تماما، أنت تريد الانتقام ممن عبث بكرامتك وسيادتك على مشهد من العالمين، وتلك كانت غايته بالأساس والتأسيس، وليس توسيع نطاق الحرب إقليميا كما بدا، فالجميع كان يعلم ذلك وأولهم إيران والغرب وإسرائيل.
الضربات الثلاث موجعة ونافذة وأليمة، على كل المستويات العملية والمعنوية. في الأولى نحن نتحدث عن كرامة وسيادة دولة تعتبر نفسها ويعتبرها العالم أحد أهم ركائز الشرق الأوسط والأقصى، وأن تتم بعثرة هذا المفهوم بكل هذه السهولة، ثم لا يرى العالم إلا التهديدات الصاخبة
ثم إن اغتيال الشهيد إسماعيل هنية ليس ذا جدوى استراتيجية كبيرة في خضم هذه الحرب.. بل إن اغتيال الشهيد صالح العاروري (2 كانون الثاني/ يناير) الماضي، كان ضربة حقيقية في قلب مركز القرار والحركة داخل حماس..
أيا ما كان الأمر.. فالوقت يمر، ومروره يزيد الموقف غموضا وبرودا وحيرة.. إذ إن أحدا لا يستطيع تصور أن إيران ابتلعت موقفا كهذا في صمت خجول، إلا إذا كان وراء الأكمة ما وراءها من خفايا، والحديث فيها يطول بل ويزعج.
* * *
في الثانية نحن نتحدث عن “قائد جيش” بكل ما يحمله الوصف من توصيف.. ومع الفارق النوعي التام، فهو يشبه اغتيال الشهيد عبد المنعم رياض في قلب الجبهة المصرية (آذار/ مارس 1969م)، ليس فقط لأن تكرار شخص بقيمة وضخامة عبد المنعم رياض لم يكن ممكنا، بل وليس ممكنا على الإطلاق (كما قيل في أكاديمية فرونزي السوفييتية وقتها)، ولكن لأن رياض رحمه الله كان يمثل وقتها روحا مغايرة تماما لروح النظام العربي الرسمي بأكمله، وليس المصري فقط. وهو ما استدعى ممن يهمهم أمر الشرق الأوسط إلى ضرورة إبعاده عن مصر كلية، قبل قرار الغرب الاستعماري بالاستيلاء على القدس والضفة وسيناء والجولان في 1967م، وتكفل الملك حسين رحمه الله بالقيام بالمهمة، وجاء بنفسه وأخذ الشهيد معه في طائرته إلى بلاده..!
هذا ليس استدعاء تعسفيا للتاريخ، بل إننا لنبعث في هذا التاريخ بالذات روحه المفقودة، بالنظر إلى ما يحدث الآن في الضفة الغربية، فالأردن بتاريخه السياسي العام في الشرق الأوسط حاضر دائما في المنعطفات الخطيرة التي يمر بها هذا الشرق.
والتاريخ ليس مجرد المجرى الخارجي للأحداث، ومن يسعى لرؤية روحه هو وحده الذي يستطيع اكتشاف الروح الكامنة وراء أقنعة هذه الأحداث، كما قال لنا مؤسس المدرسة الألمانية لعلم التاريخ يوهان هيردر (ت: 1903م).
* * *
وبالنسبة لاغتيال القائد فؤاد شكر، سننتبه أولا إلى أن توقيت الاغتيال هنا هام للغاية، لماذا؟..
لقد تم حرمان صانع القرار في حزب الله من خبرة وقدرة استراتيجية وعسكرية ذات وزن ثقيل، بالنظر لحالة المراوحة القلقة التي ظهر بها الحزب بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والتي لا تتفق حقيقة مع مركزه العروبي وموقعه الجغرافي ولا حتى وزنه التاريخي. فكلها أثقال كانت ولا زالت تفرض عليه مواقف أكثر كثيرا مما هو عليه الآن، بل إن المرء ليتساءل حائرا عن ماهية وطبيعة “النظر الاستراتيجي” للحزب في تقييمه لـ”طوفان الأقصى”؛ هل هي مفترق استراتيجي وتاريخي فاصل؟ أم هي مجرد مواجهة مع عدو، ضمن ماضي ومستقبل تلك المواجهات العبثية التي يعيشها الشرق في العصر الحديث؟
كما ولا يمكن تصور “الحالة الخطابية” التي يظهر بها السيد حسن نصر الله على وجهها ومحمولها الصحيح، بعد إطلاق 340 صاروخا ومسيّرة، باعتباره ردا على اغتيال فؤاد شكر وضرب الضاحية الجنوبية لبيروت بما فيها من المدنيين. المسافة كبيرة في واقع الحال بين تلك الصورة الخطابية، وبين حركة الأحداث في ساحة الشرق الأوسط بالكلية، لأن الطفل في بطن أمه يعلم أن الاستراتيجية الكاملة للشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر، ليست هي التي قبله بحال من الأحوال.
بل إن البعض يتصور أن قلقلة وحلحلة بعض “المراكز الحساسة” في أفريقيا خلال القليلة الأيام الماضية لها صلة موصولة بالتداعيات المتوقعة في الشرق الأوسط بعد “الطوفان”، ليس فقط على المستوى السياسي المجرد، بل على الأعماق البعيدة للصراع بين الشرق والغرب وبالطبع سيكون الإسلام حاضرا بقوة في قلب تلك الأعماق، وهو الذي لم يغب أبدا في هذا الصراع منذ القرن الثاني عشر الميلادي.
* * *
مع ما يقابل ذلك من الإصرار غير المفهوم على تجميد حالة “المساندة” التي أعلنها محور المقاومة على نفس الوتيرة السابقة، يكون الأمر في واقع الحال بالغ الغموض، ولا يمكن إلا الظن بأن هناك أحاديث أخرى تجرى لها حسابات بعيدة عن أرض الموضوع
بالحديث عن اليمن سنجد أن الموقف يختلف بدرجة واضحة، فبغض النظر عن الوهج الإعلامي الغربي والإسرائيلي الذي صاحب ضرب الحُديدة، وقياسا إلى ما يحدث في قلب الحركة البحرية في البحر الأحمر والتي باتت حركة أنصار الله تمسك بمركز أعصابها الحساسة، سنجد أن الضربات هنا بتتاليها وتكرارها وتراكمها تساوى ردا كاملا.. لكن الشعور العربي والإسلامي العام كان يتوقع ردا نوعيا يساوي قصف تل أبيب (19 تموز/ يوليو الماضي).
* * *
بقرار الغرب وإسرائيل بتنفيذ مخطط “يهودا والسامرة” في الضفة الغربية (28 آب/ أغسطس الماضي)، واستمرار قتل المدنيين في غزة، والإصرار على التواجد العسكري الإسرائيلي في محور صلاح الدين (ممر فيلادلفيا) ، سنجد أن الصورة العامة للمواجهة بين الشرق والغرب في الشرق الأوسط قد اتسعت وتمددت، وأصبحت أكثر بروزا ووضوحا.
ومع ما يقابل ذلك من الإصرار غير المفهوم على تجميد حالة “المساندة” التي أعلنها محور المقاومة على نفس الوتيرة السابقة، يكون الأمر في واقع الحال بالغ الغموض، ولا يمكن إلا الظن بأن هناك أحاديث أخرى تجرى لها حسابات بعيدة عن أرض الموضوع. وسيكون ذلك خطأ تاريخيا رهيبا، لن يكفي فيه أي ندم ولا أي حسرة على ضياع أحد أكبر وأوقع فرص التاريخ في العصر الحديث لإعادة ضبط وتوجيه العلاقة بين الشرق والغرب، بما يتفق ووزنها الاستراتيجي الصحيح لصالح الأمة الإسلامية كلها.