كتب سليمان صالح
وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش كراهية الإسلام (الإسلاموفوبيا) بأنها سم، وفسر انتشارها بعودة القومية الإثنية وأيديولوجيات النازيين الجدد الذين يتشدقون بتفوق العرق الأبيض.
وقال إن مسلمي العالم الذين يبلغ عددهم نحو ملياري نسمة هم تجسيد للإنسانية بكل تنوعها، مشيرا إلى أنهم ينحدرون من كل ركن من أركان المعمورة لكنهم يواجهون في كثير من الأحيان تعصبا وتحيزا لا لسبب سوى عقيدتهم.
وقال الأمين العام إن الكراهية المتنامية التي يواجهها المسلمون ليست حدثا منعزلا، بل إنها جزء أصيل من عودة القومية الإثنية للظهور وأيديولوجيات النازيين الجدد الذين يتشدّقون بتفوق العرق الأبيض، والعنف الذي يستهدف الشرائح السكانية الأضعف، بمن في ذلك المسلمون واليهود وبعض مجتمعات الأقلية المسيحية وغيرهم.
يمكننا أن نقدم كثيرا من الأدلة على صحة ما قاله الأمين العام، فهناك علاقة قوية بين العنصرية الغربية العرقية التي تتبناها الاتجاهات الشعبوية اليمينية في أوروبا التي تزايدت قوتها في العقدين الأخيرين وانتشار الإسلاموفوبيا.
هذه الاتجاهات حاولت أن تقدم تفسيرا لتزايد الأزمات الاقتصادية في أوروبا بتزايد نسبة المهاجرين في أوروبا، ويشكل ذلك عملية تزييف واضحة لوعي الشعوب الأوروبية.
إن كراهية الإسلام سم كما وصفها غوتيريش، لكن أوروبا تصر على أن تتجرعه، وهذا السم سيعطل قدرات الأوروبيين عن البحث عن حلول جديدة لكثير من الأزمات التي أصبحت أوروبا تواجهها، وسيقلل من قدرات الأوروبيين على بناء علاقات مع الأمة الإسلامية التي أصبح عددها يقترب من ملياري نسمة.
لقد اختارت الاتجاهات اليمينية في أوروبا المسلمين لتصويرهم كعدو، بشكل يشبه سلوك النظم الدكتاتورية في تحميل الإسلام السياسي المسؤولية عن الفقر الذي شكلته هذه النظم لشعوبها.
العالم يتغير وأوروبا لا تدرك
إن دراسة الواقع تؤكد أن أوروبا تواجه تحديات تهدد وجودها وحياة شعوبها، لكن هناك كثير من القوى التي تريد إضعاف أوروبا، والتقليل من قدرتها على مواجهة الأزمات بأفكار جديدة وعدم البحث عن الأسباب الحقيقية لتلك الأزمات، وبذلك تم تعطيل العقل الأوروبي، وهذا يشكل أهم العوامل التي تدفع أوروبا بسرعة نحو نهاية حتمية، فالذي لا يفكر بشكل مستقل ولا يقرأ التاريخ والواقع يفقد القدرة على حل المشكلات.
لقد أصبحت أوروبا تواجه أزماتها بالأساليب التي تستخدمها الدول الدكتاتورية التي خضعت للاستعمار الأوروبي، فهي تحاول أن تبحث عن طرف تحمله المسؤولية عن فشلها، وتوجّه نحوه غضب الشعوب وكراهيتها. لقد اختارت الاتجاهات اليمينية المسلمين لتصويرهم كعدو، بشكل يشبه سلوك النظم الدكتاتورية في تحميل الإسلام السياسي المسؤولية عن الفقر الذي شكلته هذه النظم لشعوبها، وبدلا من الاعتراف بالمسؤولية ومواجهة الحقائق وقراءة الواقع، أصبحت تصب غضبها على المسلمين.
أين الديمقراطية الأوروبية؟
يمكن أن يكون سلوك النظم الدكتاتورية مفهوما، لكن أوروبا تبني صورتها في العالم على أن نظمها تتشكل بإرادة شعوبها في انتخابات حرة يشارك فيها الجميع، والمجال فيها مفتوح لاتجاهات سياسية وفكرية متعددة تعبر عن آراء متنوعة، والديمقراطية أهم مصادر قوة أوروبا التي أسهمت في تحقيق الاستقرار لنظمها، وتحقيق التغيير السلمي.
عندما واجهت أوروبا وأميركا النازيين في الحرب العالمية الثانية صورت الصراع أنه يدور بين الديمقراطية والدكتاتورية، فالنازية كانت تتبني اتجاها عنصريا متطرفا يقوم على سيادة الجنس الآري، وأن ألمانيا فوق الجميع، لذلك كان يجب على أوروبا أن تحافظ على صورتها الديمقراطية باحترام التعددية والتنوع وحماية حقوق الجميع، وأن تكافح لتحقيق العدل ومواجهة الاتجاهات العنصرية التي تضطهد المسلمين وتقهرهم وتسخر من عقيدتهم وتوجه الإهانات لرموزهم الدينية وتفتح المجال للاعتداء على المساجد والمحجبات.
هل فقدت أوروبا الحكمة؟
انتشار الإسلاموفوبيا أعمى بصيرة الأوروبيين عن رؤية كثير من الحقائق التي يمكن أن تشكل لهم مصدرا للقوة، فالوجود الإسلامي في أوروبا أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، وهو لا يقتصر على المهاجرين، بل أصبح يشمل الكثير من الأوروبيين البيض الذين وجدوا فيه حلولا للمشكلات التي سببتها لهم الرأسمالية المادية المتوحشة.
دراسة الأوضاع الاجتماعية لهؤلاء المسلمين توضح أن أغلبهم قد حصل على مؤهلات علمية متميزة وأنهم يقومون بوظائف مهمة ويساهمون في زيادة قوة أوروبا، كما أنهم يمكن أن يقوموا بدور مهم في بناء علاقات جديدة لأوروبا مع دول العالم الإسلامي، وهذه العلاقات تساهم في فتح مجالات جديدة أمام الأوروبيين لحل أزماتهم، ومواجهة المشكلات التي تواجههم، كما أنهم يمكن أن يقوموا بوظائف الدبلوماسية العامة مع المسلمين في كل أنحاء العالم، وبذلك يشكلون مصدرا للقوة الناعمة، أكبر من كل ما تنفقه أوروبا على أنشطة الدبلوماسية العامة.
عدم رؤية الدول الأوروبية لتلك الحقائق يوضح أن العقل الأوروبي فقد قدرته على الإبداع والتفكير في حلول جديدة للأزمات واستخدام ما يوفره الواقع من عناصر القوة.
هل يمكن استئصالهم؟
الاتجاهات اليمينية العنصرية في أوروبا تولت الحكم في بعض الدول الأوروبية وفي طريقها لتولي الحكم في دول أخرى، وهي تعمل لتشكيل واقع يتم فيه استئصال المسلمين من القارة، لكن سلوك هذه الاتجاهات لتحقيق هذا الهدف لا يختلف عن سلوك الدول الدكتاتورية في العمل لاستئصال الإسلام السياسي والقضاء عليه.
لذلك يجب أن تدرس أوروبا بعمق ما قامت به الدول الدكتاتورية خلال العقد الماضي، ولو أنها درست تلك التجارب لأدركت أن القضاء على الإسلام واستئصال المسلمين من الدول الأوروبية مستحيل، وأن النتيجة الوحيدة لفكرة الاستئصال ونشر كراهية الإسلام هو انهيار الديمقراطية الغربية والتحول إلى نظم دكتاتورية عنصرية نازية، وهذا الثمن سيكون أكبر من قدرة الدول الأوروبية على تحمله، فهذه الاتجاهات اليمينية ستضطهد الجميع ولن يكون أمامها سوى استخدام القوة الغاشمة لإخضاع الشعوب كما تفعل النظم الدكتاتورية.
لذلك فإن الحل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أوروبا من أزماتها هو فتح المجال للتعايش السلمي مع الإسلام كحقيقة لا يمكن تجاهلها، وتوسيع الأرضية المشتركة للتعاون معهم، واحترام عقيدتهم ورموزهم، وإتاحة كل الفرص أمامهم للمشاركة في العملية الديمقراطية، فهم يستطيعون أن يكونوا مصدر ثراء فكري وعلمي وحضاري لأوروبا، وتطويرا لتجاربها الديمقراطية بتحقيق تنوع حقيقي.
نذر الحرب العالمية الثالثة
دراسة الواقع يمكن أن تزيد قدرتنا على توقع المستقبل واكتشاف نذر الخطر القادم، فالحرب الروسية الأوكرانية تزيد أزمات أوروبا الاقتصادية وتهدد شعوبها بالفقر.
من أهم نتائج تلك الحرب التي يمكن أن يراها بوضوح كل خبراء الاقتصاد والسياسة أن عصر الرفاهية والازدهار في أوروبا انتهى، وأن على شعوبها أن تواجه هذه الحقيقة فتستعد لمواجهة البطالة والفقر، وعدم قدرة الدول الأوروبية على تقديم الخدمات في مجالات التعليم والصحة.
هذه الحرب أصبحت معقدة، فأميركا لن تسمح بانتصار روسيا الذي يشكل هزيمة لها، لكن روسيا سوف تستخدم كل أسلحتها -بما في ذلك الأسلحة النووية- لتدمير أوروبا إذا شعرت بالهزيمة، وهذا يشكل انفجارا عالميا يمكن أن يهدد وجود البشرية كلها، ولم يعد أحد يستبعد اندلاع حرب عالمية ثالثة يطلق عليها المسيحيون الإنجيليون “أرمجيدون”.
هؤلاء يتوقعون أن البشرية ستفنى في هذه الحرب المزعومة، لينزل بعدها المسيح فيحكم الأرض ألف سنة سعيدة، فهل يمكن أن نستبعد احتمال أن تكون هناك قوى تعمل لدفع العالم في هذا الاتجاه؟ حتى الآن هو مجرد سؤال، لكن لا يمكن لعقل ناقد في عالم يتغير بسرعة أن يستبعده، فمعظم النار من مستصغر الشرر، فما بالك إن كانت النار قوية وتشتعل بسرعة في كل أنحاء العالم.
هل يجب أن تفكر أوروبا في مصلحتها؟
هل يمكن أن يتوقف علماء أوروبا قليلا ليفكروا بجرأة وشجاعة في حماية أوروبا من الخطر الذي يهدد وجودها؟ فمن المؤكد أن أوروبا ستكون أول الضحايا في حرب عالمية ثالثة تشتعل نارها ببطء، لكن تلك النار تتقدم نحو العواصم الأوروبية.
لذلك يجب أن يعمل العقلاء في أوروبا لكبح جماح الاتجاهات التي تريد إلهاء الشعوب الأوروبية بالإسلاموفوبيا عن رؤية حقائق الأزمة، وطمس بصيرة الأوروبيين لتحجب عنهم نذر الخطر الذي يحدق بهم. فالمسلمون لم تكن لهم علاقة بالحرب العالمية الثانية، بل إن المسلمين الجزائريين شاركوا في الدفاع عن باريس ضد الاحتلال النازي.
كما أنهم ليس لهم علاقة بالحرب العالمية الثالثة، ولذلك يجب أن تعرف أوروبا عدوها الحقيقي وتحدده لكي تتمكن من مواجهة مصيرها بعقل وحكمة.
نهاية عصر التضليل
إن الذين يصنعون سم الإسلاموفوبيا الذي تتجرعه أوروبا الآن هم الذين يضللون الشعوب الأوروبية ويجهّلونها ويزيفون وعيها ويوجهون غضبها نحو المسلمين، لكي لا تدرك الشعوب الأوروبية أن الرأسمالية هي التي صنعت مأساتهم بجشعها وقسوتها واستكبارها، وأن الذين ينهبون ثروات الشعوب الأوروبية هم الذين نهبوا من قبل ثروات الجزائر ليعيدوا بها بناء باريس ويتفاخروا بالقصور التي زينوها بجماجم الثوار الجزائريين الذين دافعوا عن بلادهم في مواجهة قوة أوروبا الغاشمة.
لذلك فإن الدفاع عن أوروبا يحتاج إلى عقول تفكر في مآسي العالم بشكل شامل وتضع نهاية لعملية تضليل الشعوب وحماية حقها في المعرفة.
فالشعوب الأوروبية عندما تحصل على المعرفة يمكن أن تدرك أن المسلمين لم يكونوا سببا في الأزمات التي تواجه أوروبا، بل إن الأوروبيين كانوا هم السبب في الكثير من المآسي والكوارث والمصائب التي تعرض لها المسلمون خلال القرنين الماضيين، ولذلك فإن حرمان الشعوب الأوروبية من حقها في معرفة الإسلام يشكل وسيلة لتضليل هذه الشعوب وإلهائها عن معرفة العدو الحقيقي وعن الوعي بالأسباب الحقيقية للأزمة.
حالة ظلم عام للمسلمين
إن الشعوب الأوروبية يجب أن تدرك أن كل مسلم على وجه الأرض تعرض للظلم، وأن الظلم سبب خراب العمران وانهيار الحضارات وسقوط الدول مهما بلغت قوتها.
ودول أوروبا ساهمت في تشكيل حالة الظلم العام الذي يعاني منه المسلمون، حيث ساهمت في منع المسلمين من إقامة نظمهم الديمقراطية ونهب ثرواتهم ومساعدة النظم الدكتاتورية على اضطهادهم وقهرهم وانتهاك حقوقهم وقتلهم وتهجيرهم.
والظلم سيكون السبب الرئيس في انهيار العالم كله، وكل ظالم مسؤول عن تدمير الحضارة الإنسانية، لذلك فإن الشعوب الأوروبية يجب أن تدافع عن مستقبلها بمنع نظمها الحاكمة من مواصلة ظلمها للمسلمين، ومنع الاتجاهات اليمينية العنصرية من تدمير أوروبا.
لذلك يجب أن تتوقف الشعوب الأوروبية عن تجرع سم الإسلاموفوبيا قبل أن يدمر مناعتها ويطمس بصيرتها ويفقدها القدرة على التفكير في مواجهة الأزمات.
إن حماية أوروبا من الانهيار يبدأ بالبحث الجاد عن وسائل لحمايتها من الإسلاموفوبيا، وتحقيق التعايش السلمي والتعاون والمشاركة مع المسلمين في تحقيق أهداف مشتركة. فالذين يحلمون باستئصال الإسلام فقدوا عقولهم، والإسلاموفوبيا لن تنتج سوي المزيد من الظلم الذي يخرب العمران وكراهية الإسلام ستكون نتيجتها نهاية الديمقراطية، لتصبح أوروبا مثل دول الجنوب الفقيرة لا تفكر نظمها الحاكمة إلا في الاقتراض وإغراق البلاد في الديون والقضاء على الإسلام السياسي.
لكن أين العقلاء والحكماء والعلماء في أوروبا؟ وهل يمكن أن يقوموا بدورهم؟