بقلم
مصطفى قنديل
نائب رئيس تحرير جريدة عربية
كتاب جديد خرج من مطبعة جامعة أكسفورد الشهيرة والمرموقة والتي تطبع وتنشر كتبا لأفضل العقول في العالم لأكثر من خمسمائة عام ( حوالي ألفين كتاب كل عام ) وهذا الكتاب للكاتب الأمريكي فريدريك ستار رئيس معهد آسيا الوسطى والقوقاز في مجلس السياسة الخارجية الأمريكي ويركز في كتاباته على التفاعل بين الثقافة والسياسة و يبدو أنه مهتم بالعصر الذهبي لحضارة آسيا الوسطى.
والمؤلف في هذا الكتاب القيم يقدم إثنين من أعظم العلماء في عصرهما إبن سينا والبيروني إلى جمهور القراء في العالم
إبن سينا والبيروني من أبرز العلماء البارعين الذين عاشوا بين اليونان القديمة وعصر النهضة الأوروبية. ظهرت هاتان الشخصيتان العظيمتان في حقبة يفترض أنها ضائعة من عصر التنوير في آسيا الوسطى حوالي عام 980 ميلاديا وعلى مدى ستمائة عام حددت موسوعة “ القانون في الطب “ لابن سينا مجال الطب من أوروبا إلى الهند، في حين أن أفكاره التي كانت تتمحور حول الله والفلسفة أثرت على المسلمين واليهود والمسيحيين بما في ذلك القديس توما الأكويني أو كما كان يعرف بـ “ توماس أكويناس الذي إعتمد على ابن سينا مباشرة لشرح طبيعه الخلق نفسه
أما بالنسبة للبيروني فقد قاس قطر الأرض بشكل أكثر دقة من أي شخص آخر قبل القرن السابع عشر وافترض وجود أمريكا الشمالية والجنوبية كقارتين مأهولتين كما اخترع أول نظام لحساب التواريخ عالميًا
وعلى الرغم من إنجازاتهما إلا أن أسماءهما لم تصبح مألوفة عند الجمهور لأسباب عدة فواحدة من هذه الأسباب هي أسماؤهما التي تكون معقدة بشكل ما عند ترجمتها من اللغة العربية: أبو علي الحسين بن عبد الله ابن سينا وأبو الريحان محمد بن أحمد البيروني. فقام مترجمو العصور الوسطى الغربيين اللاتينيين بترجمة إسم ابن سينا إلى “ أفيسينا “. أما بالنسبة إلى البيروني فقد استحضروا نسخة لاتينية لاسمه وأشهرها كانت “ ألبيرونيوس “وكانوا يلقبونه “ دافنشي للقرن الحادي عشر “
على الرغم من أسمائهما إلا أنه لم يكن أي منهما عربيا وأصبح كلاهما معروفا بأسمائهما العربية لأنهما كتبا أساسا باللغة العربية والتي كانت لغة التعلم في العالم الإسلامي تماما مثلما كانت اللاتينية في الغرب.
وقد ولد كل من ابن سينا والبيروني داخل حدود ما يعرف الآن بأوزبكستان.
ومن الألقاب التى كانت تطلق على البيروني:
“دافنشي للقرن الحادي عشر” “أحد أعظم العلماء في كل العصور” “رائد عصر النهضة” “ظاهرة من ظواهر تاريخ التعلم الشرقي” “أحد عباقرة العالم” “السيد العظيم”
بالمثل كان يطلق على إبن سينا “السيد البارز” و “أمير الأطباء” و “بلا منازع الأكثر تأثيرا بين الفلاسفة الإسلاميين”، و “ربما كان أكثر الفلاسفة تأثيرا في حقبة ما قبل الحداثة.” “أبا للطب الحديث” بينما أطلق عليه نظراءه في العالم الشرقي لقب “زعيم الحكماء “”
كما إن البيروني على سبيل المثال أسس كل من علم الفلك وقياس المثلثات كمجالات استقصاء مستقلة وطور مجال علم المثلثات الكروي وابتكر المثال الأول لحساب التفاضل والتكامل بمساعدة أدوات بسيطة ولكنها كانت متطورة للغاية من تصميمه الخاص بالإضافة إلى منهجيات جديدة في الهندسة وحساب التفاضل والتكامل كما أنه قام بقياس أقطار الأرض والقمر بدقة أكبر من أي شخص آخر حتى القرن السابع عشر.
كما ينسب أيضًا الفضل إلى البيروني في اختراع مفهوم الجاذبية النوعية ووزن المعادن بدرجة من الدقة لم يتم تجاوزها حتى في العصر الحديث. وبالإضافة إلى ذلك قاد تطور مجالي الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع ووسع بشكل كبير دراسة تاريخ العلوم وعلم سكون الموائع والدراسات المقارنة في الدين ويُقال أيضا بأنه كان أول من قدم فلسفة اليوغا الهندية إلى الشرق الأوسط والعالم الغربي. ويُؤكد عدة متخصصين إلى أنه اخترع مفهوم الزمن العالمي المتكامل وتاريخ العالم وسبق الأوروبيين في عصر النهضة في بناء نموذج للعالم وفي تقديم نظرية لعلم المحيطات. جمعت ابتكاراته في جميع هذه المجالات بين الرياضيات المتطورة وتقدير تأثير اللغة والدين والثقافة على حياة الإنسان.
أما بالنسبة لابن سينا فهو قد أنشئ إطارا فكريا متكاملا وشاملا يضم الفلسفة والعلم والطب والدين معا عن طريق المنطق التعديلي وأعاد تشكيل توليفة أرسطو الكبرى لجميع المعارف وبطريقة أكدت وجود مكان للإيمان الديني وهو الإسلام
مؤرخو العلوم بأن ابن سينا في موسوعته “القانون في الطب” أنه ركز بشكل خاص على الأسئلة العصبية و وظيفة الدماغ والظروف البيئية والنفسية الضرورية لاستعادة الصحة والحفاظ عليها. من بين ابتكاراته العديدة كانت القواعد الدقيقة التي وضعها لإجراء التجارب السريرية للأدوية الجديدة و يقولون بأن “ القانون في الطب” قد خدم كأساس للتعليم الطبي والممارسة في الشرق الأوسط وأوروبا وبعض مناطق الهند لستة قرون ويُعتبر عرضة لدى الخبراء بوصفه العمل الأكثر تأثيرًا ودوامًا في تاريخ الطب.
إن ما نعرفه هو أن حياة هذين المفكرين كانت مليئة بالأحداث المثيرة والأزمات والإنجازات المذهلة. وبرغم ما يفصلنا عن عالمهم بمئات السنين إلا أننا نملك الكثير للاستفادة من تأمل حياتهما وأعمالهما في الوقت الحاضر
إن قصة ابن سينا والبيروني تقدم رؤية شاملة حول جهودهما الدؤوبة لتوسيع مجال المعرفة البشرية وفي منطقة من العالم تثير في الوقت الحالي أحيانًا مخاوف حول دور التعليم المتقدم والعلم. من اللازم أن تؤدي هاتان الشخصيتان الكبيرتان دورًا في مثل هذه المناقشات بعد مرور ألف سنة على وفاتهما، ففي النهاية على الرغم من عبقرياتهما في ذلك العصر، إلا أنهما يرتقيان فوق الزمان والمكان والدين والسياسة ليقفا في شموخ بين عظماء الإنجاز البشري