مجتمع العرب قبل الإسلام كأي مجتمع جاهلي تحكمه العادات والأهواء، فكان التحدي الأكبر في مواجهة تلك العادات، وإقناع ذلك المجتمع بالتخلي عنها، والاصطباغ بصبغة الدين الجديد، بمفاهيمه ومصطلحاته الخاصة، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة المفاهيم، وتوجيه المصطلحات بما يخدم تلك المفاهيم الجديدة.
حرمة أموال الناس:
مما كان شائعا عند العرب من السلوكيات والمفاهيم الخاطئة: أن المال الحرام هو الذي لا تطوله اليد، فما وقع بأيديهم فهو الحلال، ولذلك كان يغير بعضهم على بعض، ويسلب بعضهم بعضا، ويربي بعضهم على بعض، وينتشر فيهم الميسر والقمار، واسترقاق الأحرار وبيعهم، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعظم في قلوبهم حقوق الناس، وحرمة أموالهم بأساليب متنوعة، حتى أوصلهم إلى الورع الواجب والمستحب، والاستعفاف عن اليسير من أموال الناس، فصاروا سادة الدنيا بورعهم، وعفتهم.
ففي صحيح مسلم، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة»، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: «وإن قضيباً من أراك».
وفي الصحيحين عن أبي مسعود: “أن رجلا من الأنصار يقال له أبو شعيب، كان له غلام لَحَّامٌ، فقال له أبو شعيب: اصنع لي طعام خمسة، لعلي أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، وأبصر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الجوع، فدعاه فتبعهم رجل لم يُدْعَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا قد اتبعنا، أتأذنُ له» قال: نعم”. (لحَّام) أي: يبيع اللحم.
فهذا مشهد من مئات المشاهد التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوسهم التعفف عن أموال الناس، وأنها مهما كانت يسيرة فإنها لا تحل إلا بطيب نفس أصحابها، ولذلك فقد أخذ الفقهاء من هذا الحديث حرمة الأكل من طعام الوليمة لمن لم يكن مدعواً إليها.
مفهوم القوة والشجاعة:
مما كان يفخر به العرب على بعضهم القوة التي تمكنه من أن يصرع خصمه، وينتصر على من غالبه فيطرحه أرضا، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن القوة الحقيقية ليست بصرع الخصم، وإنما بالقدرة على التحكم بالقوة الغضبية، بحيث يكون قادرا على حبسها، والحلم على من جهل عليه، وأن ذلك دليل على كمال العقل والتقى، فكان هذا المفهوم الإسلامي الجديد هو التعريف الحقيقي للرجل الصُّرَعَة، ولم يزل يعزز فيهم هذا المعنى حتى صاروا سادة في الحلم والعفو والتراحم فيما بينهم.
ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الرقوب فيكم» قال: قلنا: الذي لا يولد له قال: «ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا» قال: «فما تعدون الصُّرَعَة فيكم» قال: قلنا: الذي لا يصرعه الرجال قال: «ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب».
وعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم التخلص من آثار الغضب بخطوات عملية، من خلال تجنب أسبابه، وعدم التجاوب مع دواعيه، وتغيير الحال لتهدأ النفس، ويبرد فوران الدم، وغير ذلك من التوجيهات التي ساعدتهم على الكمال والاعتدال الخلقي والنفسي.
يقول القاضي عياض في مشارق الأنوار: قوله “ما تعدون الرقوب فيكم”: بفتح الراء، قلنا: “الذي لا يولد له”، فقال: “ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الذي لم يقدم من ولده شيئا”، أجابوه بمقتضى اللفظة في اللغة، فأجابهم هو بمقتضاها في المعنى في الآخرة؛ لأن من لم يعش له ولد يأسف عليهم، فقال: بل يجب أن يسمى بذلك، ويأسف من لم يجدهم في الآخرة؛ لما فاته من أجر تقديمهم بين يديه وأصيب بذلك، وهذا من تحويل الكلام إلى معنى آخر”.
مفهوم الغنى:
ومن المفاهيم التي صححها لهم النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الغنى، فالشائع أن الغني هو من يملك المال والعَرَض، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بمفهوم إسلامي جديد، ينقلهم من الماديات إلى المعنويات، ومن موازين الدنيا إلى موازين الآخرة.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس».
وفي رواية أبي يعلى بإسناد حسن: «يَا أَيهَا النَّاس إِن الْغنى لَيْسَ عَن كثْرَة الْعرض وَلَكِن الْغنى غنى النَّفس، وَإِن اللّه عز وَجل يُؤْتِي عَبده مَا كتب لَهُ من الرزق؛ فأجْمِلوا فِي الطّلب، خُذُوا مَا حلَّ ودعوا مَا حُرِّم».
يقول العيني في عمدة القاري: “حاصل معنى الحديث: ليس الغنى الحقيقي المعتبر من كثرة المال، بل هو من استغناء النفس وعدم الحرص على الدنيا، ولهذا ترى كثيرا من المتمولين، فقير النفس مجتهدا في الزيادة، فهو لشدة شرهه وشدة حرصه على جمعه كأنه فقير، وأما غنى النفس فهو من باب الرضا بقضاء الله لعلمه أن ما عند الله لا ينفد”.
ولا شك أن الوصول إلى هذا الغنى النفسي مرتبة عالية تحتاج إلى صبر ومجاهدة، وتحقق من المعاني الإيمانية حتى تستقر في القلب، فيتحصل بمجموع ذلك غنى النفس، قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: “وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب، بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره، فيتحقق أنه المعطي المانع، فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه تعالى، والغنى الوارد في قوله: (ووجدك عائلا فأغنى) يتنزل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال. والله أعلم”.
وشواهد هذا الموضوع كثيرة، يطول ذكرها، فقد أعاد النبي صلى الله عليه وسلم صياغة المجتمع العربي وفق مفاهيم الإسلام وتصوراته، وأقنعه بجاهلية كثير من التصورات والقناعات، ولم تكن تلك المهمة سهلة المنال لولا أن مفاهيم الشرع لها جاذبية في ذاتها، إضافة إلى الجهد الدعوي المكثف الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به، فلم يدع فرصة لدعوتهم وإصلاح مفاهيمهم إلا واستغلها، وقام بها، فأصلح الله به الظواهر والبواطن.
ترشيد الاستهلاك في السنة النبوية
الاستهلاك من أهم الأنشطة التي يقوم عليها الاقتصاد في العالم، بل هو الغاية التي يصل إليها النشاط الاقتصادي بشكل عام، وهو يعني: التناول الإنساني المباشر للسلع والخدمات، لإشباع رغبات الإنسان وحاجاته، وقد ساهمت السنة النبوية في توجيه السلوكيات الإنسانية في مجالات الإنفاق والاستهلاك، ووضعت مجموعة من التصورات السليمة التي ينضبط بها سلوك الفرد والمجتمع، وسنتناول مجموعة من القواعد التي تؤسس لترشيد الاستهلاك في حياة المسلم.
القاعدة الأولى: التوسط والاعتدال:
وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه بقوله: “وأسألك القصد في الفقر والغنى” رواه ابن حبان عن عمار بن ياسر.
قال ابن رجب في شرحه على هذا الحديث: “والقصد: هو التوسط في الإنفاق، فإن كان فقيرًا لم يقتِّر خوفًا من نفاد الرزق، ولم يسرف فيحمل ما لا طاقة له به، كما أدب الله تعالى نبيه بذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسرا: 29]، وإن كان غنيًا لم يحمله غناه عَلَى السرف والطغيان؛ بل يكون مقتصدًا أيضًا، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
ولكن هل يكون معنى القصد في الفقر والغنى الثبات على حالة واحدة؟ بحيث ما ينفقه في حال فقره هو ما ينفقه في حال غناه؟ والجواب أن الحديث لا يدل على ذلك، كما أوضح ابن رجب أيضا: “المؤمن في حال غناه يزيد عَلَى نفقته في حال فقره، كما قال بعض السلف: إِنَّ المؤمن يأخذ عن الله أدبًا حسنًا، إذا وسع الله عليه، وسع عَلَى نفسه، وإذا ضيق عليه، ضيق عَلَى نفسه، ثم تلا قوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) [الطلاق: 07] لكن يكون في حال غناه مقتصدًا غير مسرف، كما يفعله أكثر أهل الغنى الذين يخرجهم الغنى إِلَى الطغيان”.
والقصد في الغنى يتأكد في حق القدوات من العلماء والأمراء والأغنياء، وذلك لأغراض تربوية عميقة، فقد كان عليٌّ رضي الله عنه يُعاتَب عَلَى اقتصاده في لباسه وهو يومئذ خليفة المسلمين، فيقول: “هو أبعد عن الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم”. أخرجه الضياء في المختارة.
وعوتب عمر بن عبد العزيز في خلافته عَلَى تضييقه عَلَى نفسه فَقَالَ: “إِنَّ أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة”.
وقد كان هذا الحال الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فلم يروَ عنهم التوسع في ملاذ الدين مع غناهم، وتمكنهم من ذلك؛ لأنهم كانوا قدوة لغيرهم.
القاعدة الثانية: أفكلما اشتهيتَ اشتريت:
هذه القاعدة التي أسسها عمر رضي الله عنه، وإن كنا لا نأخذ منها منع الإنسان من شراء ما يشتهيه، ولكن نأخذ من هذا الأثر أن لا يتحول ذلك إلى سلوك مَرَضيّ، بحيث لا يستطيع الإنسان مدافعة شهوته الشرائية لما ينفعه وما لا ينفعه.
فقد جاء في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت” ذكره ابن مفلح في الآداب.
وجاء في الأثر عن جابر قال: رأى عمر بن الخطاب لحماً معلقاً بيدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيتُ لحماً فاشتريتُه، فقال: أو كلما اشتهيتَ اشتريتَ يا جابر! أما تخاف هذه الآية: {أَذْهَبتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} [الأحقاف: 20].
فالعاقل يربي نفسه في بعض الأحيان بمنعها من بعض رغباتها، حتى لا يقوى سلطانها، وتتغلب عليه شهواتها، فالنفس إذا لم تساس بمثل ذلك قويت عوائدها، وصعب على صاحبها مخالفتها.
القاعدة الثالثة: وخذ من غناك لفقرك:
وهذه القاعدة هي جزء من حديث رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتك، قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك” وهذا المبدأ النبوي يرشد إلى أن الغنى يعرض ويزول، وأن على العاقل أن يغتنم غناه بما ينفعه في آخرته، وأن يدخر منه لما ينفعه في حوائجه، فكم رأينا من أغناه الله تعالى فلم يشكر تلك النعمة، ولم يغتنم غناه بما ينفعه، بل سار ينفق المال دون حساب، ولما افتقر تندم حيث لا ينفع الندم.
القاعدة الرابعة: إضاعة المال سلوك يبغضه الله:
من الأمور التي يكرهها الله ويبغضها من العبد أن يرزقه مالا فيضيعه فيما حرمه عليه أو فيما لا ينفعه، فيتحول المال من نعمة مشكورة إلى وسيلة للحرام وكفران النعمة، فقد روى البخاري في الأدب المفرد: عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
يقول الإمام الخطابي في أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري): “وأما قوله: {وإضاعة المال}، فهي على وجوه، جِماعُها الإسراف في النفقة، ووضعه في غير موضعه، وصرفه عن وجه الحاجة إلى غيره، كالإسراف في النفقة على البناء، ومجاوزة حد الاقتصاد فيه، وكذلك اللباس والفرش، وتمويه الأبنية بالذهب، وتطريز الثياب، وتذهيب سقوف البيت ومن إضاعة المال تسليمه إلى من ليس برشيد، ويدخل في إضاعة المال احتمالُ الغبن في البياعات ونحوها من المعاملات”.