You are currently viewing الصداق في السنة النبوية تكرمة لا معاوضة

الصداق في السنة النبوية تكرمة لا معاوضة

أوجب الشرع الحنيف للمرأة حقوقا مادية ومعنوية، تكريما وتشريفا لدورها وحقها في العائلة، ومن ذلك ما أوجبه لها من الصداق كأثر من آثار النكاح، فالصداق رمز للمحبة والمودة، وتوثيق لعرى الزوجية، ورسالة تكريم وتشريف لهذا العقد الوثيق، ومقدمة حسنة بين يدي العلاقة الزوجية حتى تبنى على أساس من المحبة وتحمل المسؤوليات المشتركة، وقد نجد في العبارة الفقهية ما يوهم أن الصداق معاوضة ومقابلة بين البضع والصداق، كالبيع والشراء والإجارة، وقياس بعض أحكامه على أحكام عقود المعاوضات، ولكنهم لا يعنون حقيقة المعاوضة، بل هو من باب التقسيم المعرفي للعقود، وإلحاقها بما يشبهها في الصورة الظاهرة، ويدل على ذلك ما يذكرونه من التفريعات الفقهية التي تميز عقد النكاح عن بقية عقود المعاوضة، كما قال ابن العربي في أحكام القرآن: النكاح عقد معاوضة لكنه على صفات مخصوصة من جملة المعاوضات، وإجارة مباينة للإجارات.
والوصول إلى حقيقة التكييف الفقهي للصداق مؤثر في أحكامه، ومقاصده، وطريقة التعامل معه، فهو على هذا هدية وتكريم للمرأة في مفتتح هذه العلاقة الشرعية، ويدل لذلك أن الرجل والمرأة يشتركان في ثمرة عقد النكاح من الاستمتاع والتناسل والسكن والنفقة وغيرها من الحقوق المتبادلة، مما يؤكد أن المهر ليس معاوضة محضة، وبناء على ذلك جاءت النصوص لتعميق هذا المعنى، فالقرآن الكريم سماه نِحْلَة، في قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) النساء: 4.
قال الجصاص في أحكام القرآن: إنما سمي المهر نحلة، والنحلة في الأصل العطية والهبة في بعض الوجوه؛ لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، فالبضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله.. وإنما سمي المهر نحلة لأنه لم يعتض من قِبَلِها عوضا يملكه، فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك.
وقد جاء في النصوص والتصرفات النبوية ما يؤكد على هذا المعنى، وأن المهر ليس هو مقصود النكاح ولا هو ركن من أركانه، فيصح بدون تسميته في العقد، ويجوز للمرأة إسقاطه والتنازل عنه بعد ثبوته، وهذا يناسب تكييفه على أنه عطية إكرام، ورمز سلام واحترام، ومن هنا جاءت النصوص بالترغيب بتيسير المهور وتخفيفها، فقد روى الحاكم عن عائشة – رضي الله تعالى عنها -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا». وفي المسند للإمام أحمد عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُمْنُ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا»، قال عروة: وأنا أقول من عندي: ومن شؤمها تعسير أمرها، وكثرة صداقها.
ويدل على ذلك أيضا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن صداقه صلّى الله عليه وسلّم كان خفيفاً، كان صداقه وصداق بناته من أربعمائة إلى خمسمائة درهم، وهذا في الغالب، ولكن حين نرجع إلى العهد النبوي نجد أن الفضة كانت لا تزال لها قيمة بخلاف اليوم فقد لحقها كساد عظيم، فقد كان الدينار من الذهب بعشرة دراهم من الفضة، بمعنى أن خمسمائة درهم من الفضة كانت تعادل 50 دينارا من الذهب، أما اليوم فإن الفضة قد أصابها كساد كبير، وعلى ذلك فإن الشرع لم يحدد أقل الصداق ولا أكثره، وترك للناس الاتفاق على القليل والكثير، بحسب أعرافهم ومصالحهم، ولكنه رغبهم بالتيسير فيه ولو بأقل متمول من مال أو منفعة. وقد دلت النصوص على أنه يصح بالنقد، وبغير النقد، فقد أصدق علي رضي الله عنه فاطمة رضي الله عنها درعه الحطمية، وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أصدق زوجته بنعلين كما رواه البيهقي وغيره.
وبالطعام كما في مسند الإمام أحمد: «لو أن رجلا أعطى امرأة صداقها ملء يديه طعاما كانت له حلالا»، وبالثياب، كما في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننكح المرأة بالثياب.
وجاء في السنة الصداق بالمنفعة كتعليم القرآن كما في الصحيحين في حديث الرجل الذي قال له: «التمس ولو خاتما من حديد» فلما لم يجد شيئا، قال له كما في رواية مسلم: «انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن». على خلاف مفصَّل في كتب الفقهاء في جواز جعل تعليم القرآن صداقا.
وجاء في السنة الصداق بالأمور المعنوية، كما في سنن النسائي عن أنس، قال: «تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة، فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم فكان صداق ما بينهما».
وقد ذكر ابن كثير في البداية النهاية أن سعيد بن المسيب خطب ابنته الوليد بن عبد الملك لابنه، فأبى سعيد، وزوجها لكثير بن أبي وداعة، -وهو أحد طلبته، وكان فقيرا- على درهمين، وهو من أشرافِ قريشٍ شرفاً وعلماً وديناً، قال التغلبي في نيل المآرب: ومن المعلوم أنه لم يكنْ مهرَ مثلِها، ولأنه ليس المقصودُ من النكاحِ العوضُ، وإنما المقصودُ السَّكَنُ والازدواجُ ووضعُ المرأة في منصبٍ عند من يكفيها ويصونُها ويحسِنُ عشرتها، والظاهر من الأب مع قيام شفقتِهِ وبلوغ نظرِهِ أنه لا ينقُصها من صداقِها إلا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح.
وهذا يؤكد ما قدمناه من أن الصداق هدية وكرامة، لا مقابلة ومبادلة، وإلا فأي معنى للثوب أو الكف من الطعام، وغيرها مما ورد في الروايات من المهور اليسيرة والزهيدة، فالشرع مقصوده هو النكاح وما يتحصل به من المنافع العظيمة من الإعفاف والتناسل وتكثير الأمة، وتقوية الروابط والعلاقات، وتيسير المهور سبيل إلى كثرة النكاح، وتحقيق مقصود الشرع، وفيه إعانة على استدامة العلاقة الزوجية ببركة يسر المؤنة، وفيه أيضا تيسير للفرقة في حال إذا استحالت العشرة بينهما، وليس ذلك للزوج فقط، بل إن الزوجة قد تضطر للمخالعة فإذا كان المهر يسيرا سهل عليها رده إلى الزوج وافتكاك نفسها.
وينبني على تيسير المهور وتكييفها بما قدمنا إكرام المرأة وتقديرها، فالمغالاة بالمهور تورث لدى الزوج الشعور بالمعاوضة فعلا، وصار كأنه يملك الزوجة، وربما ظهر ذلك في قوله أو تصرفاته، وهذا ملاحظ في الواقع قديما وحديثاً، فالتأمل في النصوص النبوية يصحح النظر إلى الصداق، وإلى التعامل مع الزوجة بالمحبة والمودة، والإكرام والاحترام، وكلما أوغل الناس في المادية في عقود الزواج تحللت من مقاصدها الحقيقية القائمة على التكريم والتشريف.
الرغبة بالخير وحدها لا تكفي لوصول العبد إلى مراد الله تعالى، بل المطلوب شرعا هو الاستقامة دون طغيان، كما ورد ذلك في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، لأن الرغبة وحدها دون استقامة وتوسط واعتدال قد تكون مزلة قدم، ومورد من موارد الغلو ومجاوزة الحدود.
وفي السنة النبوية مواضع لا تقع تحت الحصر من التوجيهات التي تسد أبواب الغلو، ولا سيما في التصرفات التي يكون دافعها الرغبة في الخير، والحرص على العبادة، فالشيطان قد يتجاوز بالعبد حدود الاستقامة إذا لم يتبصر بطبيعة الإسلام وحدود ما أنزل الله على رسوله.
التسديد والمقاربة:
جاء التحذير من مغالبة الدين ومكابرة الطبيعة البشرية، فالإنسان وإن كان مأمورا بقصد السداد وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد، لكنه لا يستطيع ذلك في كل أحواله، فهو يقارب السداد، وقد دل على هذا المعنى أدلة كثيرة، ففي صحيح ابن حبان عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: يعني: لن تقدروا على الاستقامة كلها.
وفي مسند الإمام أحمد عن الحكم بن حزن الكلفي، وله صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: شهدنا الجمعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس، – أو قال على عصا -، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات، طيبات، مباركات، ثم قال: «أيها الناس، إنكم لن تطيقوا – أو لن تفعلوا – كل ما أمرتم به، ولكن سددوا، وأبشروا» والمعنى: اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة. وقوله “ وأبشروا “ يعني: أن من قصد المراد فليبشر.
وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا، وأبشروا، فإنه لن يُدخل الجنةَ أحداً عملُه» قالوا: ولا أنت؟ يا رسول الله قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل».
اي: اطلبوا السداد واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه أي اقربوا منه، والسداد الصواب، وهو بين الافراط والتفريط فلا تغلوا ولا تقصروا.
وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير – رحمه الله- الغلو في أعمال البر سيئة والتقصير سيئة وقال: الحسنة بين السيئتين، والسيئتان إحداهما: مجاوزة القصد، والثانية: التقصير عنه، والحسنة التي بينهما هي القصد والعدل.
النهي عن مظاهر الغلو في العبادات:
كان النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الحث والترغيب في العمل والعبادة يلحظ ما يظهر من تصرفات وأقوال تشي ببعض الغلو، فكان ينهى عن ذلك ويحذر منه، وهذه بعض الأمثلة:
منها: التحذير من الغلو في حصى الرمي التي يرمى بها الجمرات: ففي سنن النسائي: قال ابن عباس: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: «هات، الْقَطْ لي» فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده، قال: «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».
قال ابن تيمية في الفتاوى: قوله “إياكم والغلو في الدين”: عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك”.
ومنها: التحذير من الغلو في بنيان المساجد: فالمسلم لديه الرغبة في الحصول على ثواب عمارة المساجد وتشييد بنائها، وهذا خير وفضيلة، ولكن هذه الرغبة قد تتجاوز حدود المشروع، فيقع المسلم في الغلو من حيث أراد القربة والاستقامة، فيزخرف المسجد ويزينه بما لا يتناسب مع مقام الصلاة، وفي صحيح البخاري عن نافع، أن عبد الله بن عمر، أخبره: أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللِّبْن، وسقفه الجريد، وعُمُدُهُ خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر: وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة: وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج “.
وقد نقل ابن حجر في فتح الباري أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة.
ومنها: النهي عن إلزام النفس بما لا يلزمها شرعا في زمن التشريع خشية أن يفرض، ومن الأمثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرغِّب الصحابة في قيام رمضان، ولكنه كان يلحظ ضرورة الاقتصاد في العبادة حتى لا يفرض عليهم قيام الليل، فيحصل منهم تفريط فيه فيعاقبوا، فلم يخرج إليهم حسب رغبتهم وحماسهم.
ففي حديث تأخره عن الناس في صلاة الليل في رمضان، كما في صحيح البخاري: «قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري: وإنما نهاهم عن مثل هذا وشبهه تنبيها لهم على ترك الغلو في العبادة وركوب القصد فيها؛ خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه من الشدة في ذلك، ألا ترى قوله تعالى فيمن فعل مثل ذلك: (قد سألها قوم من قبلكم) [المائدة: 102] ، ففرضت عليهم، فعجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين.
ومنها: النهي عن الوصال في الصوم: في صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تواصلوا»، قالوا: إنك تواصل، قال: «إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» ، فلم ينتهوا عن الوصال، قال: فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين أو ليلتين، ثم رأوا الهلال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكل لهم.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، وأما الوصال بهم يوما ثم يوما فاحتُمِل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم، والمفسدة المترتبة على الوصال وهي الملل من العبادة والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها وآدابها وملازمة الأذكار وسائر الوظائف المشروعة في نهاره وليله والله أعلم
ومنها النهي عن الغلو في القرآن، كما أن جفاءه منهي عنه، وكلاهما سيئة مذمومة، فقد روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن شبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تعلموا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به”.
قال المناوي في فيض القدير في معنى “ولا تغلوا فيه” أي: لا تتجاوزوا حده من حيث لفظه أو معناه بأن تتأولوه بباطل، أو المراد: لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتتركوا غيره من العبادات، فالجفاء عنه: التقصير، والغلو: التعمق فيه، وكلاهما شنيع، وقد أمر الله بالتوسط في الأمور فقال {لم يسرفوا ولم يقتروا}.

اترك تعليقاً