أخلاق وشمائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته تؤكد نبوته وصدق ما جاء به، فقد عُرِفَ بأنه صلوات الله وسلامه عليه كان أحسن قومه خُلُقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعفهم نفساً، وأوفاهم عهداً، وأشهرهم أمانة حتى سماه قومه: “الصادق الأمين”. قال ابن هشام في السيرة النبوية: “فشبَّ (نشأ) رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تُدنِّس الرجال، حتى سُمِّيَ في قومه الأمين، لِما جمع الله فيه من الأمور الصالحة”.
ولعل من أبلغ ما وُصِفَت به حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه قبل البعثة والنبوة ما وصفته به زوجته خديجة رضي الله عنها في بدء نزول الوحي عليه، حيث قالت له مطمئنة إياه: (كلَّا، أَبْشِرْ، فواللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبدا، فوالله إنَّكَ لَتَصِلُ الرحِم، وتصدُق الحديث، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْف، وتُعِين على نَوَائِبِ الحقِّ) رواه البخاري. والمعنى كما قال العلماء: إنه لا يصيبه مكروه، لِمَا جمع الله تعالى فيه من هذه الصفات الحميدة الدالة على مكارم الأخلاق وحُسْن الشمائل.
قال النووي: “وأما (الكل) فهو بفتح الكاف، وأصله الثقل، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}(النحل:76)، ويدخل في حمل الكَل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال وهو الإعياء. وأما قولها: (وتكسب المعدوم) فهو بفتح التاء هذا هو الصحيح المشهور ونقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين قال ورواه بعضهم بضمها.. وأما معنى (تكسب المعدوم) فمن رواه بالضم فمعناه تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه إياه تبرعا، وقيل معناه تعطى الناس مالا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، وأما رواية الفتح فقيل معناها كمعنى الضم.. قال العلماء: معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل، وذكرت ضروباً من ذلك، وفي هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء”.
وقال ابن حجر: “فلما فجأه الملَك فجأه بغتة، أمر خالف العادة والمألوف، فنفر طبعه البشري منه وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال، لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه، حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له، فهوَّنت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة وطريقته الحسنة”.
وقال الطيبي: “أرادت أنك ممن لم يصبه مكروه لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل، وفيه دلالة أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء. وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة تطرأ. وفيه: تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره وذكر أسباب السلامة له. وفيه: أعظم دليل وأبلغ حجة على: كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها”.
وقال ابن القيم في “زاد المعاد”: “ فقالت: (أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا)، ثم استدلت بما فيه من الصفات على أن منْ كان كذلك، لم يخزه الله أبدا، فعلمت بفطرتها وكمال عقلها، أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة تناسب كرامة الله وإحسانه، لا تناسب الخزي”.
وقد شهد النضر بن الحارث ـ الذي كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ـ بالخلق والشمائل الحسنة له صلى الله عليه وسلم من قبل بعثته ونبوته، فقال لقريش: “قد كان محمد فيكم غلاماً حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر”. ولما سأل هرقلُ ملِك الروم أبا سفيان ـ قبل إسلامه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: (هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله) رواه البخاري.
لقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يجعل أنبياءه ورسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بشراً كغيرهم، فهم يشتركون مع سائر البَشَر في الصحة والمرض، والجوع والشِبع، ويقومون بالأعمال التي يحتاج إليها الناس في حياتهم، لكن الله تعالى اختصهم وميَّزهم بأمور وصفات تتطلبها الرسالة وتقتضيها النبوة، فهم أفضل وأحسن الناس خُلقاً، وقد حفظهم وعصمهم الله عز وجل قبل الوحي والنبوة وبعدها، لأنهم سيصيروا قدوة لأممهم .. وقد أجمعت الأمة سلفاً وخلفاً، على عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحفظ الله له، وأن حياته ـ قبل النبوة وبعدها ـ كانت أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تُعْرَف له فيها هفوة، ولم تُحْص عليه فيها زلة، بل عُرِفَ صلى الله عليه وسلم في قومه قبل بعثته بخلاله العذبة، وأخلاقه الفاضلة، وشمائله الكريمة.
يقول الماوردي: “لقد كان صلى الله عليه وسلم محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبًا وللصدق مجانبًا .. حتى صار بالصدق مرقوماً وبالأمانة مرسوماً (موصوفا)، وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام، فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه، فمنهم من كذبه حسداً، و منهم من كذبه عناداً، و منهم من كذبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة.. ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم، ومَنْ عُصِم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم، و حسبك بهذا دفعاً لجاحد ورداً لمعاند”.
وقد مدح الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، قال السعدي: “أي: عالياً به، مستعليًا بخُلُقِك الذي منَّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه، فقالت: (كان خلقه القرآن)”. وقد قالت عنه زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
عالمية الدعوة الإسلامية في السنة النبوية
الإنسان من حيث هو إنسان هو محور الدعوة الإسلامية، ومرتكز اهتمامها، بغض النظر عن الفوارق الخَلْقية التي تتعلق باللون، واللغة، والعِرْق، والبلد، فالإسلام ليس خاصا بالعرب وحدهم وإن كان القرآن قد نزل بلغتهم والنبي يرجع نسبه إليهم، بل الدعوة الإسلامية عالميةٌ للكافة إنسهم وجنِّهم، وحاضرهم وباديهم، وعربهم وعجمهم، فهي رسالة عابرة للزمان والمكان.
الأدلة على عالمية الدعوة الإسلامية من السنة النبوية:
أولا: الإخبار بعموم الرسالة:
في مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ بعثت إلى الأحمر والأسود، وكان النبي إنما يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة”، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم زعيما سياسيا أو وطنيا ينافس الفرس والروم تحت راية عدنانية أو قرشية، بل بعث برسالة ربانية عالمية مقصودها إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ولذلك لم يكن في هذه الرسالة خصوصية قومية أو عائلية، فما شرعه الله للناس يسري على أهل بيته دون تمييز أو اختصاص، ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال: « سئل علي : أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟، فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا».
ومن الدلائل أيضا: الإخبار بانتشار هذه الرسالة في ربوع الأرض كلها، فقد تكفل الله بذلك، كما في صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ». والمقصود بالملك بلوغ الرسالة.
وفي البخاري عن خباب بن الأرت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
ثانيا: الإخبار عن الفتوح والملاحم:
ومما يدل على عالمية هذه الدعوة الإسلامية ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن فتح فارس والروم، وملاحم آخر الزمان من المعركة الفاصلة بين اليهود والمسلمين، وإخباره عن نزول عيسى واقتدائه في الصلاة برجل من هذه الأمة، وغيرها من الأخبار التي تدل على أن هذه الدعوة عالمية وخاتمة.
ففي مسند الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عوف: وأحسبه قال: وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال: “ بسم الله “ فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: “ الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا “. ثم قال: “بسم الله “ وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: “ الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا “ ثم قال: “ بسم الله “ وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال: “ الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا”.
وفي صحيح الجامع عن أبي سعيد الخري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” “مِنَّا الذي يُصلِّي عيسى ابنُ مريمَ خلفَه”.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم، ثم يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله».
وغيرها من الأحاديث التي تدل على أن هذه الرسالة حاكمة خالدة، وذلك يقتضي عالميتها وظهورها في الأرض.
ثالثا: مخاطبة جميع الأمم والحضارات والقبائل بالدعوة الإسلامية:
ومما يدل على عالمية الدعوة إلى الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب بالدعوة إلى أمراء وملوك الأمم، وزعامات القبائل وشيوخها، يدعوهم إلى الإسلام، ويبلغهم بأنهم معنيون بهذه الدعوة، ويتوجب عليهم تحديد موقفهم منها، فكتب إلى هرقل عظيم الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى جَيْفَرٍ وَعَبْدِ اللّهِ ابْنَيْ الجُلَنْدَى الْأَزْدِيّيْنِ، ملكي عُمان، وإلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، وإلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء، وإلى الحارِثِ ومسْرُوحٍ وَنُعَيْمٍ بَنِي عَبْدِ كُلَالٍ زعماء من حِمْيَرَ، وإلى المقوقس صاحب الإسكندرية.
وقد شكلت تلك المراسلات النبوية خطة سير واضحة للخلفاء الراشدين ومن بعدهم من صلحاء الأمة وخيارها، فعملوا على توسيع دائرة الدعوة، وإيصال الرسالة التي حملوها إلى أطراف الأرض.
رابعا: شمول الدعوة للجن والإنس:
ومما يدل على عالمية الدعوة الإسلامية بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الجن أيضا، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أوحي إلي} وإنما أوحي إليه قول الجن».
وفي البخاري عن علقمة قال: سألت ابن مسعود، هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل!! قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: “أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن”، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: “لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما. وكل بعرة علف لدوابكم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم”.
