بقلم د. معتز الخطيب
الإسلاميون بين الأيديولوجيا والسلطة
أثار انضمام المغرب إلى ركب التطبيع مع إسرائيل انتقادات واسعة؛ لعدة اعتبارات:
أولها: أن الحكومة المغربية هي حكومة إسلامية، صحيح أن العلاقات الخارجية مسألة سيادية تخضع للمؤسسة الملكية إلا أن موقف الإسلاميين من هذه السياسة الملكية كان مؤيدا؛ لأنهم لا يمكن أن يمارسوا السلطة والمعارضة معا؛ فوجودهم في السلطة ضيّق الخيارات أمامهم، ومن ثم فإن رؤيتهم وموازناتهم إنما صيغت بوصفهم جزءا من السلطة، ويسعون للحفاظ عليها.
وثانيها: أن مقارنة ردود أفعال الإسلاميين على قرار التطبيع الإماراتي كانت أشد صخبا وجذرية من ردودها على القرار المغربي، فيكفي أن تقارن بين تعليق حركة النهضة التونسية على قرار التطبيع الإماراتي، وبين صمتها تجاه قرار التطبيع المغربي. حاولت حكومة المغرب بقيادة سعد الدين العثماني أن تمسك بالعصا من المنتصف عبر رفض فكرة التطبيع والثناء على جهود الملك في خدمة القضيتين: فلسطين والصحراء في البيان نفسه؛ لكن هذا التنافر الذي افتقر إلى تماسك المضمون، يعكس بوضوح اضطراب الحركة والمأزق الذي تواجهه، فإذا كان قرار التطبيع يخدم قضية الصحراء من جهة تحصيل اعتراف أميركي بمغربيتها، فمن غير الواضح كيف يمكن له أن يخدم القضية الفلسطينية نفسها!.
ثالث الاعتبارات: وهو الأكثر إثارة للنقد- هو محاولة بعض إسلاميي المغرب إيجاد مستند شرعي للتطبيع المغربي دون غيره؛ بحجة أنه ضرورة أُلجئ إليها المغرب من غير بغي ولا عدوان على القضية الفلسطينية، ومحاولتهم تشبه محاولات مشايخ السلطة بحيث يتلاشى الفارق بين شيخ السلطة في الإمارات وشيخ السلطة في المغرب؛ لأن كليهما يجتهد في الترقيع لقرار سياسي اتُّخذ بمعزل عن أي اجتهاد في التأسيس له شرعيا قبل اتخاذه.
تحيلنا هذه الاعتبارات إلى زاوية جديدة لموضوع تدبير الإسلامي للشأن السياسي، الذي عالجته في مقال سابق، ويُفترض أن تدبير السياسي الإسلامي مفارق لتدبير السياسي غير الإسلامي، وهذا الاختلاف والتمايز لا نفرضه نحن على الإسلامي؛ بل هو الذي يؤسس شرعيته بناء عليه؛ لأنه إنما يطلب السلطة من أجل إعادة صياغتها بما يتوافق مع أيديولوجيته التي يُفترض أنها تقود إلى إقامة دولة إسلامية؛ خصوصا أنه يزعم أن خلافه مع أنظمة الحكم القائمة إنما هو خلاف لأجل المضمون غير الإسلامي.
يمكن للتطبيع مع إسرائيل أن يشكل قضية نموذجية ومدخلا لمساءلة التدبير السياسي عند الإسلاميين؛ لأن فلسطين قضية مركزية في خطابهم، وقد جعلها الإسلام السياسي قضيته الكبرى لاعتبارات دينية وأيديولوجية، فمن جهة الدين القدس أولى القبلتين، ومن جهة الأيديولوجيا لا يمكن لحركات تسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية أن تقر بشرعية دولة صهيونية على أرض فلسطين العربية الإسلامية. ويمكن أن نميز هنا بين مرحلتين: مرحلة إسلاميي المعارضة ومرحلة إسلاميي السلطة. لطالما تزعم إسلاميو المعارضة حركات الاحتجاج ضد العداون الإسرائيلي وضد محاولات الأنظمة العربية التطبيع مع إسرائيل؛ لكن إسلاميي السلطة طرأت عليهم تغيرات عدة تتصل بأيديولوجيتهم نفسها، فقد تراجعت أولوية تطبيق الشريعة، وشهدت العلاقة مع إسرائيل بعض المرونة، وخاصة في حالتي تونس والمغرب؛ بل إن حماس السلطة أعادت صياغة رؤيتها في وثيقة 2017 بشكل مخالف لميثاقها عام 1988، حيث تضمنت وثيقتها القبول بدولة في حدود 1967، وهو ما لم تكن حماس ما قبل السلطة تقبل به. وقد تُعزى هذه التغيرات إلى تطور ونضج في التجربة فيما لو رافق تلك التحولات لدى الإسلاميين تنظيرات على مستوى الخطاب الفكري؛ لكن هذه التحولات هي أقرب إلى البرغماتية السياسية التي تقربهم جدا من السياسيين غير الإسلاميين في تدبيرهم للشأن السياسي بحيث تتلاشى الفوارق الجوهرية بين السياسي الإسلامي والسياسي غير الإسلامي ليبقى التدبير السياسي هو التدبير السياسي.
تمركز الإسلاميون لعقود مضت حول فكرة الوصول إلى السلطة لإقامة الدولة التي تطبق الشريعة؛ ليكتمل إيمان المرء في اعتقادهم، وقد قال لي الشيخ راشد الغنوشي مرة إن من لا يؤمن بأن الإسلام دين ودولة إيمانه منقوص؛ ولو أتى بأركان الإيمان والإسلام كاملة.
سبق لي أن أوضحت في بعض كتاباتي أن تضخم الدولة وتغولها في عالمنا منحها قوة فائقة قادرة على ابتلاع واستيعاب جميع المنضوين ضمن جهازها وإخضاعهم لمنطقها؛ بحيث تتلاشى الفوارق بينهم، ولا يعود ثمة اعتبار لاختلاف مرجعياتهم وخلفياتهم، وبهذا تصبح الخصومة بين الإسلاميين والأنظمة القائمة -في المحصلة- صراعا حول (من) يمارس السلطة، لا على (مضمون) السلطة وكيفية ممارستها؛ وذلك أن السلطة -في الواقع- لا تتم ممارستها بإرادة فردية حرة وبمعزل عن أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولا بمعزل عن الدول الكبرى والجغرافيا السياسية؛ لذلك يصبح هامش الحركة والمناورة ضاغطا ويفرض تسويات وتنازلات ومواءمات قد تضحي بالأيديولوجيا السابقة لممارسة السلطة، ومن ثم تصبح عُرضة للتلون والتبدل والتناقضات أيضا، وهذا شأن العمل السياسي؛ لأنه يفارق العمل الفكري والأيديولوجي لجهة الآليات، ولجهة المنطق الذي يحكمه. فالأيديولوجيا تتطلب التأسيس النظري والحِجَاج الفكري والاتساق النظري، أما السياسة فهي مفتوحة على توازنات وتسويات وفق موازين القوى من جهة، ووفق الظروف الضاغطة والممكن والمتاح من جهة أخرى، وبناء على كفاءة اللاعبين السياسيين من جهة ثالثة.
تمركز الإسلاميون لعقود مضت حول فكرة الوصول إلى السلطة لإقامة الدولة التي تطبق الشريعة؛ ليكتمل إيمان المرء في اعتقادهم، وقد قال لي الشيخ راشد الغنوشي مرة إن من لا يؤمن بأن الإسلام دين ودولة إيمانه منقوص؛ ولو أتى بأركان الإيمان والإسلام كاملة. لكن مقصد الوصول إلى السلطة لم يَعنِ -بالضرورة- القدرة أو الكفاءة في إدارة الشأن العام، أو القدرة على الموازنة بين تصورات مرحلة المعارضة ومقتضيات مرحلة السلطة (ثنائية الواجب والواقع)، ولهذا فقد اصطدموا بالتعقيدات التي تحيط بواقع مشروعية السلطة في عالم اليوم. فالسلطة في عالم اليوم لا تتشكل وفق الأيديولوجيا والعقائد؛ إنما وفق موازين القوى المتحكمة بالمشهد الدولي والإقليمي، بل والداخلي أيضا، وخاصة من خلال مؤسسات الجيش والمعارضة والمنظمات غير الحكومية وغيرها؛ أي إن الدولة ليست مسألة بسيطة تتمثل في صراع داخلي على كيفية الوصول إليها، ولا في التأسيس لخطاب معتدل يتلاءم مع قيم الغرب الليبرالي ويُرضي القوى الكبرى، كما أن الدولة لا يتحدد وزنها بالأيديولوجيا ومدى صلابة أو أحقية معتقداتها التي تتبناها، وإنما بمقاييس محددة تتوزع بين القوتين الناعمة والصلبة.
وبناء على هذا، فإن أي سلطة لن يكون بمقدورها العيش منفردة بمعزل عن المحيطين الإقليمي والدولي، وغزة بعد سيطرة حماس عليها مثال حي لذلك، كما أن تجربة حكم الإخوان في مصر مثال آخر قاس ومؤلم، وقد شطح الخيال بفريق من حماس، فتوهموا أن بإمكانهم أن يجعلوا من غزة نواة للدولة الإسلامية الموعودة، كما شطح الخيال بإخوان مصر، فتوهموا أنه يمكن أن يستتب لهم حكم مصر؛ لكن هذه الخيالات لم تلبث أن تحطمت على أرض الواقع. لا يمكن لأي سلطة اليوم أن تكتسب مشروعية ويستقر لها قرار بدون توفر وضع إقليمي مساند لها، وبدون بناء تحالفات سياسية رافعة لها، ووجود ذكاء سياسي قادر بالفعل على اقتناص الفرص واستثمارها من جهة، وتحييد التهديدات التي تحيط بالدولة وتحويلها إلى فرص من جهة أخرى؛ لأن منطق الدولة يقوم -باستمرار- على مواجهة الأخطار والتحديات وإدارة الأزمات وسد الاحتياجات وبناء الخطط والإستراتيجيات اللازمة لبقاء الدولة وصون مصالحها الحيوية.
فالتعامل مع إسرائيل أحد تلك القضايا، التي شهدت تغيرا وارتباكا لدى إسلاميي السلطة، وقد بدأت بوادر هذا الارتباك في 2011 حين حل الغنوشي ضيفا على “معهد سياسات الشرق الأدنى” معقل المحافظين الجدد والداعمين لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، وما تردد عن اتصاله بمنظمة “أيباك” (AIPAC) الداعمة لإسرائيل بعد أن كان ممنوعا من دخول أميركا، وكذلك إدلاؤه هو ورئيس الوزراء المغربي في حينه عبد الإله بن كيران بتصريحات لإذاعة “صوت إسرائيل” على هامش منتدى دافوس 2012؛ لنصل إلى قرار التطبيع وبتأييد من حكومة العثماني؛ رغم رفضها التطبيع. فالعلاقة مع إسرائيل (أيا كان شكلها) لم تكن متصورة لدى إسلاميي المعارضة؛ لكن السلطة تفرض مقتضياتها، إذ تبدو إسرائيل ثمنا واجب الدفع للحصول على أي شرعية، وهو ما لا يمكن تجاهله لمن أراد أن يحقق مقاصده في الحفاظ على السلطة والاستمرار فيها، خصوصا أن التطبيع اليوم يبدو أقرب طريق لحل المشاكل العالقة أو هكذا يعتقد عدد من زعماء منطقتنا اليوم.
إن أحد أسباب التغيرات التي طرأت على إسلاميي السلطة هي اكتشافهم أن أولويات السلطة غير أولويات المعارضة، وأن إظهار الاعتدال على مستوى الخطاب (كالموقف من حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية وغيرها) لا يشكل أولوية فعلية في مرحلة السلطة؛ لأن ما يحكم السلطة اعتبارات أخرى تتصل بما ذكرناه سابقا، وليس بينها القيم الليبرالية الغربية، التي قضوا زمنا في التواؤم معها لإقناع الغرب باعتدالهم وقربهم منه. فإسرائيل ومصالح الدول الغربية التي لا صلة لها بحقوق الإنسان ولا بالديمقراطية هي الأولوية، وقد شهدنا في السنوات العشر الماضية وقائع عديدة تؤكد هذه الفكرة؛ بدءا من الموقف من نظام الأسد وصولا إلى التقارب بين ماكرون والسيسي، ومرورا بتصريحات الغنوشي نفسه بخصوص العلاقة مع فرنسا، وأن أزمة الرسوم الكاريكاتيرية ثانوية لا تؤثر على العلاقة بين الدولتين، وقد ناقشت هذه الجزئية في مقال سابق. أما على الجانب المغربي، فقد وجد حزب العدالة والتنمية نفسه في مأزق إدارة العلاقة بينه بوصفه سلطة وبين المؤسسة الملكية، وبين الشأن الإسلامي (فلسطين) والشأن الوطني (قضية الصحراء)، ويبدو أنه حسم أمره في المواءمة، فجعل بيان الحزب القضية الفلسطينية “في مرتبة قضية الصحراء المغربية”؛ أي إنه ساوى بين القضيتين وتصرف كحزب مغربي يعطي الأولوية للاعتبارات الوطنية الداخلية، فهو إنما أراد أن يرفع من شأن القضية الفلسطينية، وفق منظوره، حين ساواها بالقضية الوطنية، فوقع في إشكال يعود على أيديولوجيته الإسلامية بالإشكال.
محور هذه الإشكالات هو تحويل الإسلاميين السلطة إلى ضرورة، والحكم إلى جزء من صميم الإيمان، وهذا أحد تجليات فكرة الحاكمية السياسية (لا التشريعية) التي أرساها أبو الأعلى المودودي وسيد قطب رحمهما الله. وضروري السلطة الذي يتشبه بضروريات الشريعة الخمسة (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) صار محور الموازنات ومصدر التسويغات السياسية والشرعية لديهم، ولهذا يبررون لأنفسهم ما قد لا يبررون لغيرهم؛ كالتطبيع مثلا، وهذه الازدواجية المصلحية القائمة على ضرورة السلطة نفسها والحفاظ عليها تجعل الفارق المؤثر بين حكمهم وحكم غيرهم فارقا لجهة من يحكم لا لجهة آليات الحكم والخضوع للضرورات؛ وإلا فالضرورة من حيث المبدأ ستشكل مسوغا لأي عملية تطبيع تتوفر فيها الحسابات والظروف ذاتها التي توفرت للمغاربة، وعنوانها العريض هو المصلحة الوطنية، وأنه لا يمكن أن تأتي المصلحة الإسلامية على حساب المصلحة الوطنية، أو لنقل أولوية المصلحة الوطنية على المصلحة الإسلامية في أدنى تقدير؛ تحت حجج ومسوغات عدة.
كذا يظهر حجم السذاجة في بعض التسويغات الفقهية التي سعت إلى إضفاء شرعية على قرار التطبيع، سواء كان إماراتيا أم مغربيا، وسواء كان من مدخل صلاحيات ولي الأمر أم من مدخل الضرورات؛ لأن هذه الضرورات والإكراهات لا تنفك عن الفعل السياسي نفسه من موقع السلطة، ويتساوى فيه الإسلامي وغيره، كما أن هذه التسويغات الفقهية توهم أن الفعل السياسي محكوم بمعايير فقهية أو مبدئية، وهو ليس كذلك ولا مدخل لها في بنائه أصلا
وإن ذهبنا نقارن بين التطبيعين الإماراتي والمغربي سنجد أن التطبيع مسألة مركبة ذات أوجه، بعضها سياسي وبعضها ثقافي واجتماعي، والمغرب سلك المسلكين السياسي والثقافي، فقد نشرت صفحة إسرائيل بالعربية أن المغرب سيدرس التاريخ والتراث اليهودي في المدارس، كما أن وزير الخارجية المغربي صرح لـ”فرانس 24″ (france24) بأن “دستور المغرب يقول إن أحد روافد الهوية المغربية هو الرافد العبري… والمغرب اعترف بإسرائيل منذ التسعينيات”، كما أنه قال في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت “نحن لا نتحدث عن تطبيع؛ لأن العلاقات كانت أصلا طبيعية. نحن نتحدث عن استئناف للعلاقات بين البلدين كما كانت سابقا؛ لأن العلاقة كانت قائمة دائما”. وقد يقال إن ثمة فارقا بين التطبيع المغربي والإماراتي من حيث إن الإماراتي انتقل من التطبيع إلى الترويج له شعبيا ودعائيا؛ لكن اعتبار “الرافد العبري” جزءا من الهوية المغربية في هذا السياق السياسي الملغوم وتدريسه في المدارس هو نوع من الترويج للتطبيع الثقافي والاجتماعي أيضا؛ لأن الفصل بين الموروث اليهودي الأندلسي والبعد السياسي اليهودي الحالي شديد الصعوبة، كما أنه لا بد من رعاية أن الحسابات السياسية المغربية الداخلية تختلف عن الحسابات الإماراتية الداخلية؛ فثمة رفض شعبي مغربي تاريخي للتطبيع، بينما لا يمكن الحديث عن إرادة شعبية داخلية في مجتمع إماراتي هو خليط من جنسيات كثيرة يشكل الإماراتيون فيها أقلية.
تفرض مركزية السلطة ومنطقها الخاص الذي أشرت إليه أوجه تشابه بين من في السلطة سواء كانوا إسلاميين أم غير إسلاميين، وبين من يؤيدون من في السلطة سواء كانوا إسلاميين أم غير إسلاميين. فعلى سبيل المثال لجأ الشيخ عبد الله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء إلى تسويغ التطبيع الإماراتي بأن هذا من صلاحيات ولي الأمر واختصاصاته التي قررتها له الشريعة، في حين أن بيان حزب العدالة والتنمية المغربي طافح بمغازلة الملك، وتأييد جهوده الداعمة للقضية الفلسطينية في بيان كان يُفترض به أن يوضح موقفه من التطبيع ومن القرار وتأثيراته على القضية الفلسطينية، وفق رؤية سياسية محددة ومقنعة لجمهوره على الأقل.
هكذا يظهر حجم السذاجة في بعض التسويغات الفقهية التي سعت إلى إضفاء شرعية على قرار التطبيع، سواء كان إماراتيا أم مغربيا، وسواء كان من مدخل صلاحيات ولي الأمر أم من مدخل الضرورات؛ لأن هذه الضرورات والإكراهات لا تنفك عن الفعل السياسي نفسه من موقع السلطة، ويتساوى فيه الإسلامي وغيره، كما أن هذه التسويغات الفقهية توهم أن الفعل السياسي محكوم بمعايير فقهية أو مبدئية، وهو ليس كذلك ولا مدخل لها في بنائه أصلا. أضف إلى ذلك أن هذه التسويغات تتقاطع مع مشايخ السلطة، فتقع في مفارقة عدم الاتساق؛ لأنها تقع فيما تنتقده على خصومها، والضرورة التي تحكم هذا المجال ليست هي الضرورة الشرعية؛ بل هي ضرورة الحركات الإسلامية، وهي كرسي السلطة الذي صار هو المصلحة الضرورية، التي يجب الحفاظ عليها بالنسبة لهذه الحركات. وقد يقال إن هذه الضرورة مؤقتة فقط؛ لكن سيعيش هؤلاء زمنا ليكتشفوا مجددا أنها دائمة بحكم الإلف والعادة من جهة، وبحكم تعقيدات منطق السلطة والدولة من جهة أخرى؛ لأن منطق السلطة يظل يخلق تحديات وإكراهات لن يكون بمقدور الإسلامي تجاوزها للتأسيس لما يتوهم أنه قادر عليه؛ لأنه مع الوقت سيتغير كليا ليتواءم هو مع السلطة.
سيلجأ بعض الإسلاميين إلى القول إن من يده في النار ليس كمن يده في الماء، فالمنخرط في السلطة يبدو له ما لا يبدو لمن هو بعيد عنها، وهذه الحجة هي نفسها التي يستعملها مشايخ السلطة باستمرار لتسويغ سياسات الأنظمة القائمة وصلاحيات ولي الأمر، كما أن من هو في السلطة هو من سعى إليها ولم تأت إليه راغمة حتى تُستعمل مسوغا لإضفاء بعد استثنائي على أفعاله وتصرفاته، التي ألزم نفسه فيها بموافقة أيديولوجيته التي بناها لعقود، فضلا عن أنه كما أعطى لنفسه حق نقد الأنظمة القائمة، فعليه أن يعطي غيره حق نقده وهو في السلطة سواء بسواء.
لدينا اليوم نماذج عدة في التدبير السياسي المنتسب إلى الإسلام، إيران التي تخوض معركة كسر عظم مع الغرب، وتركيا التي تختلف جذريا عن الإسلام السياسي العربي لجهات عدة (منها هامشية تطبيق الشريعة وأسلمة الدولة وبناء العلاقات والتحالفات)، وتونس والمغرب اللذان يعبران عن نموذج المهادنة والتكيف المستمر، ومصر حيث الجميع يعلم مآلات تلك التجربة ومصير أصحابها بين السجون والمنافي، فضلا عن أنهم تسببوا في عداء الإمارات، التي سخرت كل إمكاناتها لتبني سياسة خارجية تقوم على مكون رئيس ومركزي، وهو العداء للإخوان والسعي لاستئصالهم وبناء مسجد ضرار لهم في كل مكان: عربيا ودوليا؛ بما في ذلك تزعم قطار التطبيع نفسه، الذي تورط فيه بعض الإسلاميين تبعا.
ربما تعيدنا كل هذه التعقيدات التي تحيط بتدبير الشأن السياسي إلى فكرة طه عبد الرحمن ونقده لمنظور الإسلاميين في هذا الشأن، حيث غلبوا التسييس على التأنيس، فأعطوا الأولوية للدولة على المجتمع، وللسياسة على الأخلاق، ومن ثم تورط بعضهم في إعادة قراءة الإسلام كله من منظور مركزية السلطة، وهي فكرة استشراقية أساسا تحاول أن تعيد قراءة مسار الإسلام من منظور السلطة والهيمنة، على اعتبار أن السلطة هي الفاعل المركزي والرئيس مع تجاهل تام للفوارق التاريخية بين ما قبل الدولة الحديثة والدولة الحديثة. وقد سبق لي أن أوضحت في كتابي “العنف المستباح” أوجه حداثة هذه الحركات الإسلامية سواء السلمية منها أم العنيفة، وإشكالات تحويل الشريعة إلى قانون تفرضه الدولة، والزعم بأن الإيمان لا يكتمل إلا بالوصول إلى السلطة.