زيارة أخيرة لبيت ترامب الأبيض
بقلم محمد المنشاوي - واشنطن
باحث وكاتب متخصص في الشؤون الأميركية، ظهرت كتاباته في كبريات الصحف الأميركية مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز وفورين بوليسي وغيرهم. عمل المنشاوي في عدد من مراكز الأبحاث بواشنطن
أقضي ساعات بين الحين والآخر داخل البيت الأبيض، وبالطبع يتطلع أي صحفي يعمل في واشنطن لدخول البيت الأشهر في العالم، وحضور المؤتمرات الصحفية والفعاليات، التي يتاح للصحفيين تغطيتها أو المشاركة فيها. ويعد موضوع دخول البيت الأبيض صعبا؛ نظرا لضخامة عدد الصحفيين المعتمدين في واشنطن من مختلف دول العالم، ويقدر البعض أعدادهم بعدة آلاف، ولا تمنع صعوبة دخول البيت الأبيض من دخول الصحفيين بعد اتباع عدة إجراءات روتينية. ومن خلال خبرتي المباشرة، أستطيع القول إن دخول البيت الأبيض خلال سنوات حكم الرئيس دونالد ترامب اختلف تماما عن دخوله خلال عهدي الرئيسين السابقين الجمهوري جورج بوش والديمقراطي باراك أوباما.
اختلف المؤتمر الصحفي للبيت البيض خلال عهد ترامب عنه خلال عهدي بوش وأوباما، ولم يعد يتصف بالملل؛ إذ إن أغلب الأسئلة قبل عهد ترامب كان يتم الرد عليها بطريقة دبلوماسية متوقعة وسطية دون التصريح بأخبار أو أنباء جديدة أو عاجلة، واختلف الأمر مع ترامب؛ إذ أصبح هناك أمام الصحفيين فرص للحصول على إجابات غير معلومة مسبقا لأسئلتهم. أتحدث هنا عن سهولة دخول المركز الصحفي الملحق بالبيت الأبيض، والذي أذهب إليه من حين لآخر، وعلى فترات متقطعة خلال سنوات حكم الإدارتين السابقتين، وبجانب المركز الصحفي يتاح للصحفيين حضور عدة مؤتمرات صحفية للرئيسين بوش وأوباما وأخيرا الرئيس ترامب، داخل الغرفة الشرقية أكبر غرف البيت الأبيض في مناسبات عدة.
ولا يحصل على بطاقة الصحافة الدائمة الخاصة بالبيت الأبيض إلا ممثلو كبار وسائل الإعلام الأميركية المرئية والمكتوبة على غرار “أسوشيتد برس” (Associated Press)، و”نيويورك تايمز” (New York Times)، و”فوكس نيوز” (FOX News)، كذلك يستطيع ممثلو وسائل الإعلام الأجنبية الحصول على هذه البطاقة، إذا تم استيفاء بعض الشروط، التي من أهمها أن يتم تخصيص مراسل متفرغ للبيت الأبيض، يذهب إلى المركز الصحفي يوميا، ويغطي أحداث البيت الأبيض بصورة منتظمة، وهي شروط تتطلب جهة إعلامية ضخمة ذات موارد كبيرة، وإدراكا لأهمية تخصيص صحفي أو أكثر، وتفرغه أو تفرغها لتغطية البيت الأبيض، وهو ما لا تدركه الكثير من الجهات العربية.
اختلف المؤتمر الصحفي للبيت البيض خلال عهد ترامب عنه خلال عهدي بوش وأوباما، ولم يعد يتصف بالملل؛ إذ إن أغلب الأسئلة قبل عهد ترامب كان يتم الرد عليها بطريقة دبلوماسية متوقعة وسطية دون التصريح بأخبار أو أنباء جديدة أو عاجلة، واختلف الأمر مع ترامب؛ إذ أصبح هناك أمام الصحفيين فرص للحصول على إجابات غير معلومة مسبقا لأسئلتهم. وخلال عهدي بوش وأوباما، تعلق الأمر بوجود إدارات منضبطة ومنظمة على قمتها رئيس لا يتحدث إلا بحساب، وبعد أن يستمع لكبار مستشاريه، وتغير الوضع بصورة دراماتيكية مع وصول ترامب للبيت الأبيض، وعدم توقفه عن كتابة تغريدات مثيرة للجدل، ورفضه الانصياع لآراء ونصائح مستشاريه قبل الإدلاء برأيه في القضايا الخلافية المثيرة؛ بل وصل به الحال ليصطدم مباشرة مع الكثير من الصحفيين ممن لم يمانعوا أن يتحدوا رئيس أقوى دولة في العالم على الهواء مباشرة.
انقسم الإعلام تجاه الرئيس ترامب وأجندته السياسية وتغريداته الإلكترونية، وعلى الرغم من العداء المتبادل بين وسائل الإعلام الأميركية التقليدية من جهة وبين ترامب من جهة أخرى، توجد مئات وربما الآلاف من الصحف والمواقع والمحطات المؤيدة لترامب؛ لكن الجديد هو وصول ودخول بعض ممثلي هذه الصحف والمواقع والمحطات للبيت الأبيض؛ ليزاحموا كبريات وسائل الإعلام الأميركية المعروفة عالميا داخل مركزه الإعلامي. سيطرت أخبار وتصريحات ترامب على وسائل الإعلام منذ ظهوره السياسي وعزمه الترشح للرئاسة في نهايات 2015، ووصولا لهزيمته في انتخابات 2020.
ومع تفشي فيروس كورنا سيطر الرئيس ترامب على الإفادة اليومية بالبيت الأبيض، وأصبح المؤتمر الصحفي اليومي لترامب مادة مهمة للسخرية والتهكم على الرئيس، الذي بدروه لم يتوقف عن هجومه على الصحفيين، إلى أن ألغى ترامب هذه الإفادات اليومية. وخلال كل تلك السنوات أدى الإعلام دورا طاغيا في التأثير على شخصية ترامب وهويته ومواقفه، وتخيل الكثيرون أن خلافات ترامب مع الإعلام ستنتهي بوصوله للبيت الأبيض؛ إلا أنها يبدو كانت فقط البداية، ولا يبدو أن خروجه من البيت الأبيض سيوقفها. ويرى ترامب وأنصاره، وعلى رأسهم أهم محاميه، رودولف جولياني، عمدة مدينة نيويورك الأسبق، الذي غرد قائلا “إن الإعلام فوجئ بانتصار ترامب على عكس كل توقعاتهم، من هنا يحاول الإعلام بشتى الطرق الإيقاع بترامب وإفشال رئاسته”.
سقط الإعلام، عمدا أو جهلا، في فخ ترامب، نعم زادت الاشتراكات والإعلانات في “سي إن إن” (CNN)، ونيويورك تايمز، و”واشنطن بوست” (Washington Post) وغيرهم؛ إلا أن مصداقية وحيادية الإعلام تتلاشي مع مرور الوقت، والتعود على نهج مهاجمة شخصية وسلوكيات ترامب، والابتعاد عن تقييم سياساته بموضوعية، وبهذا يخسر الإعلام بعد خروج ترامب من البيت الأبيض. من ناحية أخرى، يمكننا القول إنه ليس هناك خطورة على حرية الإعلام الأميركي، فتنظيمه يعود للتعديل الأول للدستور الأميركي، الذي حظر على الكونغرس تمرير أية قوانين من شأنها الانتقاص من حرية التعبير أو حرية الصحافة، وتم اعتماد التعديل الأول للدستور واحدا من 10 تعديلات تشكل وثيقة الحقوق في 15 ديسمبر/كانون الأول 1791.
وقبل ذلك بأربعة أعوام، كتب “توماس جيفرسون” أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة لصديق له عام 1787 قائلا “إن كان القرار يرجع لي في الاختيار بين حكومة بلا صحافة، أو صحافة بلا حكومة، سأختار بلا تردد صحافة بلا حكومة”.وبعد 5 سنوات من المعارك التي لم تتوقف بين ترامب والإعلام، والتي شكلت حربا بلا منتصرين وبدون خاسرين، حان الوقت لضرورة عودة العلاقات الندية الصحية بين البيت الأبيض والسلطة الرابعة، تلك العلاقات التي لم تتأثر في الماضي بفضح الرئيس السابق ريتشارد نيكسون وصولا لإخراجه من البيت الأبيض؛ لكنها تأثرت سلبا بعلاقات غير صحية مع بيت ترامب الأبيض.