بقلم محمد عادل - كاتب و محلل سياسي كندي مصري
ليس هناك أدنى شك أن تغييرا جوهريا حدث في سياسات البيت الأبيض وفي الكتل البرلمانية خاصة مجلس الشيوخ الذي تحولت الأغلبية فيه للحزب الديمقراطي الذي اصبح متغلبا في الكونجرس بغرفتيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ . لا يجب أن نسرف في التفاؤل بأن الولايات المتحدة بين عشية وضحاها تحولت إلى راعي السلام الدولي الذي يسعى لإحتواء مشاكل الأرض وما عليها . نعم تغييرا جوهريا حدث لكن في طريقة تناول القضايا أي الدبلوماسية التي عادت لساكن البيت الأبيض بعد أربعة سنوات من سياسة المطرقة التي أستخدمت ضد الأصدقاء والحلفاء قبل الأعداء لكن هذا التغيير لم يحدث خللا في موازين السياسة الأمريكية بشكل ملموس حتى كتابة هذا المقال , وليس من المتوقع إحداث طفرات إلا في حيز ضيق كما سنبين .
العشوائية وافتقار الحنكة السياسية قادت الرئيس السابق دونالد ترامب إلى إساءة علاقات الولايات المتحدة بالحلفاء في القارة الأوروبية وحلف الناتو والتي وصلت به لمحاصرة تركيا وتوقيع عقوبات عليها وهي صاحبة أقوى جيش في الناتو بعد الجيش الأمريكي وهو الأمر الذي دفع تركيا للتحالف مع روسيا واستيراد منظومة الدفاع الجوي المتطورة إس إس 400 . الإدارة السابقة في البيت الأبيض أساءت لكندا أكبر إساءة بإلغاء مشروع خط الأنابيب الذي كان مزمعا تنفيذه لنقل البترول الكندي للولايات المتحدة التي كانت من قبل المستورد الكبر للنفط الكندي وقراره الكارثي بإلغاء إتفاقية التجارة الحرة بين كندا والولايات المتحده والمكسيك والتي كان الرئيس الأسبق بيل كلينتون كان قد عقدها بين الدول الثلاث عام 1994 .
ترامب وصف هذه الإتفاقية الملقبة بالنافتا بأنها كارثية , وكانت هذه أيضا الطريق التي وصف بها إنسحاب امريكا من إتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي والتي شملت 12 دولة وحوت حوالي 40 % من الاقتصاد العالمي . إدارة ترامب بذلت كل الجهود لعزل الإقتصاد الأمريكي عن أي شراكات دولية فأحدث خللا للاقتصاد العالمي لارتباط معظم الاقتصاديات العالمية بالاقتصاد الذي هو الأضخم كأكبر مصدر للسلع والخدمات وفي نفس الوقت أكبر مستورد للمواد الخام والسلع والخدمات أيضا . لسنا بصدد تقييم القرارات السياسية والاقتصادية خلال السنوات الأربع لحكم دونالد ترامب ولا حصر توترعلاقات أمريكا بدول العالم واستمرار إستفزازاته للصين وروسيا والمانيا في الوقت الذي تعامل فيه بنعومة غريبة مع النظام في كوريا الشمالية . الذي يهمنا هنا هو التغييرات الكبيرة التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط والتي رسمت طبيعة السياسة الأمريكية والتي بمقتضاها تحول الرئيس الأمريكي الى سكرتير في مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي بينامين ناتانياهو .
الرئيس الأمريكي أصبح ناطقا بإسم الكيان الصهيوني يصدر قرارا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس إعترافا بها عاصمة لإسرائيل وأعقب ذلك سلسلة قرارت بضم مرتفعات الجولان والإعتراف بها كجزء من الدوله العبرية ثم الإعتراف بحق إسرائيل بمصادرة أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية وشرعية المستوطنات المقامة عليها . في الوقت الذي كان كل تركيز الإدارة الأمريكية لقضايا الشرق الأوسط قام الرئيس الأمريكي بإعطاء إسرائيل كل ما كانت تحلم به طوال عقود طويلة مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة والتي لم تبخل عن تسليح ودعم المحتل ولكن بقدر يحدث توازن نسبي بين ما يسمى بدولة إسرائيل ومحيطها من الدول العربية المجاورة وغيرها من الدول الغير مجاورة . لم يكتفي ترامب بما أعطى للدولة العبرية ما يرغبون بل ختم ذلك بخطة كاملة أسماها هو خطة السلام وأسماها خبثاء المعارضة العرب بصفقة القرن .
في هذه الخطة تحول دونالد ترامب إلى مقدم في إحدى برامج التوك شو يعرض الخرائط التي أحضرها له ناتانياهو ويرفق بها بنود الإتفاقية التي تم حبكها وتفصيلها في إسرائيل . لم يكتف ترامب بالإغداق على إسرائيل بما لا يملك من أرض الشعب الفلسطيني بل ضيق على شعب فلسطين البطل وسلبه أي حقوق حتى منظمة الأنروا التي تعني بشئون اللاجئين في قطاع غزة والتي بالكاد تعطي الفتات لهؤلاء اللاجئين وتضمن لهم فتح المدارس منع عنها المعونة المقررة وقام بإغلاق مكتب السلطة الفلسطينبة في واشنطن . كانت كل إنجازات الحقبة الترامبية منحصرة في إعطاء الدولة العبرية ما تريد ومن أجل ذلك أحدث تغييرا كبيرا في تغيير سلوك الأنظمة الحاكمة في معظم الدول العربية وعين لهم مندوبا ساميا يعيد للمنطقة تاريخ الجاسوس الأنجليزي الشهير لورانس الذي لعب دورا كبيرا في تجنيد الشريف حسين أمير مكة وقبائل جزيرة العرب للإنقلاب على السلطان العثماني وانتهى الأمر بسيطرة بريطانيا على جزيرة العرب والأردن والعراق . إستطاع جاري كوشنر صهر الرئيس ترامب أن يجر عددا من الدول العربية لعقد إتفاقيات أسماها إبراهام ليسود السلام بين هذه الدول وإسرائيل مع أنها لم تكن جميعا في حالة حرب معها يوما ولا تشترك معها في الحدود . مازلنا في محيط الشرق الوسط الذي لم ينفض ترامب يده عنه يوما واحدا خلال اربعة سنوات قضاها في البيت البيض .
تم تنفيذ خطة خبيثة لإدخال السعودية في حرب فاشلة تستنزف ثرواتها والتي كانت قد بدأت مع حكم الزائر الجديد في البيت البيض بدفع جزية ضخمة حوالي نصف تريليون دولار لشراء ولاء ودعم أمريكي لتثبيت النظام الملكي الجديد لأبن الملك . تم التخطيط الجيد لإيصال عشيرة الحوثي للإستيلاء على الحكم في اليمن وذلك بواسطة مندوب الأمم المتحده آنذاك جمال بن عمر , بعدها تم تسخين عقول حكام الخليج بواسطة جاري كوشنر الذي أصبح المايسترو الذي يشير بعصاه فيهب حكام الخليج لتنفيذ التوجيهات وكانت الحرب وإمدادات السلاح ليس فقط من الإدارة الأمريكية بل من دول الإتحاد الأوروبي وخاصة إنجلترا وفرنسا والمانيا . إستطاعت السياسة الأمريكية إحداث تغيير جغرافي بتقسيم اليمن الى شمال تحت سيطرة الحوثي وجنوب تحت سيطرة مايسمى بالمجلس الإنتقالي الجنوبي ومنطقة مأرب تحت سيطرة مايسمى بقوات الشرعيه وإنتزاع جزيرة سقطرى المشرفة على المحيط الهندي لتحتلها الإمارات لإقامة قاعدة عسكرية إسرائيلية عليها .
الحرب في اليمن كانت خطة إسرائيلية لتدمير هذا البلد حتى تضمن السيطرة على مضيق باب المندب والذي يمثل المنفذ الوحيد للسفن الإسرائيلية من البحر الأحمر للمياه الدولية والذي من أجله تقيم إسرائيل قواعد عسكرية في كل من إريتريا وجيبوتي . كما أن هذه الحرب تجعل حكومة الرياض في حاجة دائمة للدعم الأمريكي للحماية والتأمين . أمريكا تدعم الحوثي في معاركه ضد المملكة السعودية وذلك بغض الطرف عن الدعم الإيراني الواسع ماليا وعسكريا حتى أن الحوثيين الآن لهم اليد العليا في هذه الحرب وإذا أرادوا إحتلال الجزيرة العربية فهم مؤهلون لذلك وفي أغلب الظن أن تقسيم مملكة آل سعود وارد في التخطيط الأمريكي والحوثيين سيكون لهم دور كبير في تحضير وتهيئة الظروف لذلك . أيضا مازلنا بصدد إثبات الدور الأساسي في أحداث منطقة الشرق الأوسط والمندوب السامي الأمريكي جاري كوشنر الذي كان له الدور الأعظم في التحريض على محاصرة قطر والتي كان ثمة نزاع تاريخي بين أمرائها وبين آل سعود الذين مالبث أميرهم أن يرى الضوء الأخضر يأتي من كلام كوشنر فيقود حصارا إشتركت فيه كل دول الخليج عدا سلطنة عمان .
الشيء المضحك في هذه المهزلة أن دول الإتحاد الخليجي هي التي تأثرت سلبا من هذا الحصار في الوقت الذي تفوق فيه الإقتصاد القطري . كان الدور الأخطر الذي الحق العار بالبيت السعودي هو وشاية جاري كوشنر بالصحفي جمال خاشقجي والذي كان يقيم في الولايات المتحدة ويعمل صحفيا في جريدة الواشنطون بوست وهي من أكبر الصحف الأمريكية . كان الصحفي المسكين قد تلقى رسالة من أمراء السلطة الحاكمة يطلبون فيها من الرئيس ترامب أن يخلصهم من الأمير بن سلمان الذي إستولى على ولاية العهد ويخطط للوصول إلى مقعد الحكم وهو غير مؤهل ويتصف بالتهور والطيش . لسوء حظ هؤلاء الأمراء ومعهم خاشقجي وقعت الرسالة في يد كوشنر والذي لم يؤخر ثانية في إستغلاها للإيقاع بالأسرة السعودية في خلافات ستؤدي إلى هلاكهم جميعا , وصلت الرسالة ليد إبن سلمان ومعها المقترح بالتمثيل بهؤلاء وسلب أموالهم وتم بالفعل القبض عليهم وسجنهم وتعذيبهم حتى رضخوا ودفعوا المليارات لينجون بأرواحهم وأعقب ذلك واقعة إستدراج الصحفي جمال خاشقجي للقنصلية السعودية في إستانبول وقصة مقتله المريرة .
كانت أكبر أخطاء ترامب تغاضيه عن هذه الجريمة رغم إستماعه للتسجيل الصوتي للواقعة وعزوفه عن مشاهدة الفيديو الذي حصلت عليه السيدة كاسبر مديرة المخابرات المركزية الأمريكية والتي أخبرت ترامب بفظاعة تقطيع جسد الصحفي وهو مازال على قيد الحياة . كان لإسرائيل دور كبير في عدم تدخل الرئيس الأمريكي في هذه القضية وإقناعه بأنهم أوقعوا بهذا الأمير في فخ يجعلونه فريسة في أيديهم يتحكمون فيه وفي كل مملكته بكل سهولة . أيضا لا يمكننا التغاضي عن إنصياع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتوجه الإسرائيلي بالإنسحاب المنفرد من اتفاقية خمسة زائد واحد والتي بمقتضاها تم تقييد إيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة لا تتجاوز الخمسة بالمائة وهو ما يفي بأحتياجاتها لتوليد الطاقة ويضمن الإستخدام السلمي للطاقة النووية بعيدا عن القدرة على إنتاج سلاح نووي والذي تنفيه إيران تكرارا وتؤكده إسرائيل مرارا وتكرارا . كان الإنسحاب الأمريكي حماقة كبيرة أتاحت لإيران حق إختراق بنود المعاهدة وزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم والتي وصلت إلى عشرين بالمائة طبقا للبرلمان في طهران وأيضا أوقفوا زيارة خبراء الهيئة الدولية للطاقة النووية بغرض التفتيش .
كان كل ماعرضنا كما يقول المصطلح العربي غيض من فيض أي القليل من الكثير . والآن تغيرت الإدارة في واشنطن وجاء جوزيف بايدن بعد معركة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي من عناد الرئيس السابق وإصراره بدون سند أنه هو الفائز وأن الإنتخابات قد سرقت منه إلى أن إنتهت الأمور واستقر الحال بالضيف الجديد في البيت الأبيض . إستطاع بايدن وفي خلال مدة قصيرة أن يعيد الدبلوماسية للوجهة الأمريكية وأن يحسن علاقاته بالحلفاء خاصة كندا والمانيا . أيضا أعاد بايدن عضوية أمريكا في مؤتمر المناخ في باريس والعلاقات الاقتصادية لدول النافتا كندا والمكسيك . لكن يبرز هنا سؤال هام .. هل يقوم بايدن والذي بين يديه أغلبية ديمقراطية في الكونجرس بغرفتيه النواب والشيوخ بدور الساحر الذي سيقوم بحل مشاكل الكرة الأرضية سياسيا وإقتصاديا وجغرافيا ..
الجواب هنا من وجهة نظرنا بأن التفاؤل بهذه النظرة هو درب من الخيال . كل ما نستطيع القول بأن بايدن فقط أعاد الدبلوماسية المتعقلة في إدارة الأزمات وأنه يقوم كل يوم بحل أزمة بدلا من أختلاقها كما كان يفعل ترامب لكن لابد من التأكيد أن حل هذه الأزمات بما يناسب الإستراتيجية الأمريكية وليس ما يتمناه من يعانون من هذه الأزمات . أمريكا والتي تعهدت على نفسها حماية إسرائيل وضمان تفوقها على دول المنطقة ويضيفون إلى ذلك إيران وتركيا لن تسمح بأي تغييرات في هذه الاستراتيجية بل ستعمل في ظل إدارة بايدن على إعطاء مزيد من الإمتيازات لإسرائيل بضم مزيد من الدول العربية للحاضنة الصهيونية وقد لا نستغرب أن نجد جميع الدول العربية وبلا استثناء جزءا من اتفاقيات ابراهام . بقي لنا أن ننوه بأن السيدة هاريس نائبة الرئيس سيكون لها دورا كبيرا في دعم الكيان الصهيوني وهي التي وصفت نفسها بأنها صهيونية . هذه السيدة يتم تأهبلها لصنع القرار حيث أن الرئيس بايدن الذي يعاني من الشيخوخة ويحتاج الى مساعدة قريبة وهذه المساعدة ستكون هي العامل الرئيسي لترسيخ السياسة الأمريكية لأحداث تغيير كبير في وجه الشرق الوسط والعلاقات الدولية بين الولاليات المتحدة والقوى العالمية مثل الصين وروسيا .