د. هشام الحمامي
لا يهم كيف يبدأون.. بل كيف ينتهون؟
لا أدرى من صاحب مقولة من(صلحت بدايته صلحت نهايته) وأظن أن هذه الجملة كان لها رواجا واسعا فى وقت من الأوقات وكان الأصدقاء من فئة(الكتاب الواحد) يمضغوها مضغا مع غيرها من زخارف الكلمات التى تبهر البسطاء وتعطى شعورا وهميا بالمعرفة.. وفئة الكتاب الواحد هذه فئة ليست قليلة تمتلىء بها التنظيمات الايديولوجية خاصة من اليسار الماركسى.. وللمفارقة فإن روسيا هى أصل هذا المثل الذى يُحذرممن (قرأ كتابا واحدا فقط ).. هذا طبعا وقت أن كانت روسيا تهدى العالم تولستوى وتشيكوف وجوجول قبل أن تتجرع سموم (الماركسية)على يد لينين وستالين ثم تستدير لتهدى العالم القهر والاستبداد والحرمان ..
الحاصل أن واقع الحال التاريخى يشير إشارات شريرة إلى بدايات صالحة (جدا جدا)..ثم لا تلبث أن تنتهى نهايات سيئة(جدا جدا).. والأصل أن يكون المؤمن شديد الإنتباه إلى كل مما يمكن أن يؤدى به الى الميل والانحراف فى التفكير والسلوك..
وفى هذا كانت التوصية بالدعاء القرآنى فى سورة آل عمران( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب..) بل إن فى سورة التوبة إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى تاب على المهاجرين والأنصارمن بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم .. وقف عند(كاد)..وأمسك قلبك بكلتا يديك وليكن _ إن شاء الله _ منا الدعاء الدائم ما حيينا بدعاء آل عمران..جملة بن عطاء الله السكندرى رحمه الله (ت 1309م) عن إشراق البدايات وإشراق النهايات تحلق فى أفق مختلف تماما فى عالم السلوك والطريق إلى الله وألفاظ السادة الصوفية دائما لها تخريجات خاصة.. (عمر) وما أدراك من عمر كان يلح على حذيفة بن اليمان في السؤال عما إذا كان من المنافقين..؟ وكلنا نعلم كيف كان نفوره الشديد من التظاهر والإدعاء..ومع ذلك فقد كان على خوف حذر.
****
الحواريون الذين قالوا لسيدنا عيسى عليه السلام(آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون)كان لهم موقفهم المعروف الذى ورد فى سورة المائدة والذى يبدوا من رد سيدنا عيسى عليهم أنه لم يكن يريد لهم هذا الموقف.. فأمرهم بتقوى الله سبحانه وتعالى والوقوف عند حدوده فقال لهم:(اتقوا الله إن كنتم مؤمنين)ويا سبحان الله على مستوى الخطاب الذي كان عليه الحواريون ومستوى الدعاء الذي توجه به سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام إلى الخالق العظيم.. هم يقولون(هل يستطيع ربك)..وهو يقول(اللهم ربنا)..وشيخ الإسلام الفخرالرازى(ت1206م) له فى هذا(الفارق) وقفات وتأملات مضيئة ورائعة فى تفسيره المعروف(مفاتيح الغيب) .. وسبحانه وتعالى(علام الغيوب ) كما قال سيدنا عيسى فى الأيات التالية ..الحاصل أن السياق العام للأيات يجعل المؤمن ينتبه الى أن يسير فى طريقه الى الأخرة وهو شديد الحذرمن النهاية ..
****
لكن أسوأ تحول فى قصة البدايات والنهايات هو تحول الثوار والمناضلين ومن قاموا على أمشاط أصابعهم كي يحرروا البائسين من بؤسهم ويحملوا مشاعل الحرية لأوطانهم ..ثم ما لبثوا أن تحولوا إلى بغاة.. قساة..طغاة.
ليس هذا فقط بل ويستبدلون شظف (خبزهم الثورى)باللذائذ اللذوذة من كل ما (طب ولاذ)..الكاتب الفرنسى الشهير جول رومان (ت1972 م)حاول أن يغوص فى عمق هذا التحول المثير فى نفسية البطل الثائر سابقا.. فى مسرحيته الشهيرة (الديكتاتور) المنشوره سنه 1926م..تحكى المسرحية عن نظام ملكى دستورى يثور عليه حزب ثوري..الثورة لم تكن على الملك لأنه كان محبوبا من الشعب إنما كانت على الحكومة الفاسدة.. فيقوم الملك بتعيين زعيم الثورة(دينس) رئيسا للحكومة الذى تفتنه السلطة ووسرعان ما تتبخر مثله العليا وأول شيء يفعله كانت الخطوات التى اتخذها ضد رفاقه أنفسهم ! وضد الإضراب الذي كان قد أعلنه الحزب الثوري وينطلق التنين القابع بداخله فيقضى على رفيق طفولته ونضاله (فيريول)المأخوذ بالمثل العليا وبفكره العدالة المطلقة.. والذي كان قد بدا يتزعم المعارضة ضده ..هل كان دينيس ينتبه إلى حقيقة المتغيرات التي كانت تحدث له ؟..ألف مليون نعم وليس أعرف بنفس الإنسان من الإنسان نفسه..الصداقة التى انهارت على مذبح السلطة والحكم ..ليس هذا فقط بل وما هو أبشع: خيانة المرء لذاته ويا بئسها من خيانة .. وما هوأفظع :تنكره لأحلامه ومثله..وتخليه عن أفكاره التى جعلت منه رمز وقدوة للناس..كل شىء إجتُث من جذوره إجتثاثا..وأصبح دخانا فى الهواء.
من أسوأ أنواع الغدرغدرالإنسان بأصدقائه وأفكاره ومبادئه .. وفعلها (دينس) الذى صلحت بدايته ويا أسوأها نهايته.
****
يحكى لنا الصحفى الراحل موسى صبرى(ت1992) فى مذكراته (50 عاما فى قطار الصحافة)عن صداقة نشأت بين أميرة من الأسرة المالكة التى أنهت حركة الضباط حكمها وأحد قادة الحركة.. وكان موسى صبرى قريبا من هذا الضابط .. يقولون أن كل صحفى بحث له عن ثائر من حركة الضباط ..وكل ثائر بحث له عن صحفى والحكايات طويلات فى ذلك.. الحاصل أنه حكى عن حالة تحول ثورية من الطرازالرفيع بالغ الشياكة إذ تحولت الصداقة إلى حب عنيف وكان الثائريذهب للقاء الأميرة فى شاليه بمنطقة الهرم بسيارة العمل..المشكلة حين وصلت..لم تكن مشكلة العلاقة التى لا ينبغى لثائرأن يتورط فيها خاصة أنه زوج وأب وصاحب رسالة كبرى.. بل كانت كيف يستمر فى ذلك دون أن يعرف أحد ؟؟.. فقال له أحد رفاقه لا داعى أن تذهب فى سيارة العمل ربما يراك أحد معها فى هذه السيارة وستكون فضيحة خد سيارتى(الأوستن الخاصة)عندما تكون على موعد بها.. وبالفعل هذا ما حدث..ولم يبادر زميله هذا ويأخذ بيده بعيدا عن هذا المنزلق الأخلاقى..بل أعطاه سيارته الخاصة إذ يبدو أن زميله كان يستعد بدوره إلى عمليه تحول ثورى لاحقة ولكن فى إتجاه أخر.
الحكايات عن(الطهارة الثورية) التى بدأ بها بورقيبة وبوميدين وصدام حسين والقذافى أكثرمن حكايات ألف ليلة وتأمل كيف كانت نهاياتهم وماذا فعلوا بشعوبهم؟
****
ميشيل سيرفيه أحد رجال الاصلاح الدينى فى القرن السادس عشر..وكان قد حضر اجتماع (اوجسبورج) الشهيرالذى صيغت فيه البنود الـ 38 للعقيدة البروتستانتية لكن سرفيه كان له رأى أخر فى عمليه الإصلاح العقائدي برمتها إذ كان يرى أن عقيدة التثليث التى أقرها مجمع نيقيه وجعل منها أساسا للمسيحية خطأ .. ونشر سنة 1531م كتابه الأول(غلطة التثليث) وبنشرهذا الكتاب ثارت ثائرة رجال الدين البروتستانت والكاثوليك معا وطالبوا بإعدامه وحرقه فغير اسمه ورحل هاربا إلى باريس .
وفى فترة هروبه ألف كتابه الكبير(المسيحية الجديدة)وأرسل نسخة منه إلى جون كلفن(ت 1564) أحد كبار رجال الإصلاح البروتستانتى ورفيق درب مارتن لوثر طالبا رأية ..فلم يرد علية!واحتفظ بالنسخة معه كدليل إدانة..! لكن ما أن ظهر الكتاب بين الناس حتى ثارت ثائرة كلفن واعتبر الكتاب تحديا صارخا له بل وهدما لكل ما ورد فى كتابه الشهير(نظم الدين المسيحى).. يقولون أن تدخل كلفن بهذه القوه الباطشة فى المحاكمة التى أجريت لسيرفيه له سبب (نفسى)بحت..!! ذلك أن محكمة كانت قد سبق وبرأت خصم أخر لكلفن كان يرى أن الإنسان حرالإرادة وهكذا خلقه الله.. وكانت هذه البراءة مما أثر فى (مكانة ونفوذ)كلفن ومركزه السياسي ولم يكن الموقف يتحمل براءة جديدة تنصر خصما جديدا لكافن وهومعلم المدينة وسيدها المطاع والمنبع والمصب لكل الأفكار فيها .. وفى 27/10/1553م تقرر إعدام سرفيه حرقا وفى يده نسخه من كتابه.
كيف تحول كلفن من ثائر ومصلح إلى قاتل وطاغية يحرق مخالفيه فى الرأى..أهل جنيف بعدها ندموا بشدة على سكوتهم وقتها وأقاموا لسرفيه نصبا تذكاريا فى مكان حرقه باق إلى الآن.. والرجل له أتباع كثيرون فى أمريكا وبريطانيا تجمعهم كنيسة باسم(الكنيسة الموحدة) ولدت من رماد سرفييه.
****
يقولون أن قوة الأفكار العظمى ليست هى التى تصنع العظماء ولكن( مدتها) .. إلى أى مدى صدقوا فى حملهم لهذه الأفكار سنة ..؟عشرة..؟ عشرين..؟ أم عمرهم كله ؟.
كلما كان الإنسان مستمرا وقائما فى وفائه لمبادئه وأفكاره كلما كان عظيما بحق .. وإلا فما أكثر أولئك الذين كانوا يملكون أعظم الأفكار والمبادىء ولكن..كم من وقت عاشت داخلهم هذه المبادىء؟ وإلى مدى احتفظوا فى داخلهم بقوتها ولم يلينوا لمغريات ويذعنوا لشهوات ..؟ ما أكثرها أصلا فى طريق الإنسان وهو يسير إلى الأخرة ..
بلى الإنسان بأربعة وجدوا لعنائه.. إبليس والدنيا ونفسه والهوى ..كلهم أعدائه…المشوار خطير .