كاتب صحفي وباحث
انطلقت الحركة النسوية في أوروبا والولايات المتحدة، وتعود بداياتها إلى القرن الـ17؛ حينما كانت في شكل مطالب محدودة متفرقة هنا وهناك من بعض النشطاء والأدباء والكتاب (الجزيرة)
نجحت الحركة النسوية العالمية بامتياز في التسلل إلى العديد من مراكز القيادة والتأثير في دول العالم المتقدمة والنامية، وقد وصل هذا النجاح إلى مبتغاه بالضغط على الأمم المتحدة، ودفعها إلى تبني مبادئها وأفكارها وتأسيس هيئة الأمم المتحدة للمرأة وإدراج هدف “المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة” ضمن أهداف التنمية المستدامة، مما مهّد المجال أمام هيئة الأمم المتحدة للمرأة لتعمل ليلا ونهارا على تحقيق أهداف الحركة النسوية العالمية بطرق دستورية قانونية تعتمد على التزامات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالعهود والمواثيق الدولية التي وقّعت عليها.
لم تعد الحركة النسوية مجرد نشاط يهدف إلى مساعدة المرأة الغربية للحصول على حقوقها الأساسية في الانتخاب والتعليم والعمل على قدم المساواة مع الرجل، بل تحولت إلى حركة عالمية ضخمة مهيمنة، تصرّ على تغيير النظام الاجتماعي البشري، وفرض أفكارها على شعوب العالم بصورة تثويرية انقلابية.
موضوع الحركة النسوية العالمية أكبر بكثير من أن نتناوله في مثل هذا المقال، فهو بحاجة إلى مجلدات ضخمة وجهد بحثي هائل للإحاطة به من جميع جوانبه، ولكن ذلك لا يمنع من تسليط الضوء على بعض الجوانب، التي توضح لنا حقيقة حجم الحركة ومدى انتشارها وتجذرها، نفوذها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بدءًا بالتطور التاريخي، ومرورا بحجم انتشارها ونفوذها، وانتهاء بمعرفة المنطلق الفكري لها.
في انتظار الموجة الخامسة
انطلقت الحركة النسوية في أوروبا والولايات المتحدة، وتعود بداياتها إلى القرن الـ17؛ حينما كانت في شكل مطالب محدودة متفرقة هنا وهناك من بعض النشطاء والأدباء والكتاب، تدافع عن المرأة ومكانتها، وترفض الصور النمطية لها، التي تسود في الثقافة الاجتماعية السائدة وامتداداتها الكنسية في ذلك الوقت، والتي تسببت في إعدام نحو 50 ألف امرأة -وفي بعض الروايات 500 ألف امرأة- في أوروبا والولايات المتحدة بين القرنين الـ15 والـ18، بحجة قيامهم بأعمال السحر والشعوذة. وقد جاءت هذه المطالب والدعوات حينها، احتجاجا على فكرة حصر نشاط المرأة في دائرة الأسرة والمنزل والأطفال، في حين يستأثر الرجال بالسياسة والحرب والعمل المأجور في القطاعات المختلفة. ويقف المؤرخون والباحثون عند 4 موجات مر بها التطور التاريخي للحركة النسوية، على النحو التالي:
الموجة الأولى: الحق في الانتخاب
تغطي هذه الموجة الفترة من نهايات القرن الـ19وبدايات القرن الـ20، التي اتسمت بالتوسع الاستعماري، وتقدم الثورة الصناعية، وشهدت الحربين العالميتين الأولى والثانية وما خلفتاه من آثار فادحة على بنية المجتمع الغربي، حيث فُقد ما يزيد على 24 مليون رجل في الحرب العالمية الثانية وحدها، وبدأ النساء يقمن بأعمال الرجال المشاركين في الحروب، وكانت المطالب تتمحور في الغالب حول حق المرأة في الانتخاب، إذ كانت الانتخابات حينها تقتصر على الرجال، وشهدت هذه الموجة بدايات تشكّل العديد من التجمعات والمنتديات والمؤسسات النسوية التي تطالب بحقوق المرأة في الانتخاب والتعليم على وجه الخصوص، وبدأت أفكارها تنتقل من الدول الغربية إلى غيرها من دول العالم في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، خاصة بعد صدور العهد العالمي لحقوق الإنسان عن الأمم المتحدة، وتضمين حقوق المرأة بين بنوده.
الموجة الثانية: المساواة بين الجنسين
انطلقت هذه الموجة في ستينيات القرن الماضي، واتسعت دائرة الاهتمام بها والتجاوب مع مطالبها على المستويين الرسمي والشعبي، كما اتسعت فيها دائرة تشكيل المؤسسات والاتحادات والتجمعات النسوية، والاهتمام بها في الإعلام والأدب والفن، وقد ركّزت هذه الموجة على قضية المساواة بين الجنسين.
الموجة الثالثة: الحرية الجنسية والمثلية
بدأت هذه الموجة في تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2010، مستهدفة معالجة إخفاقات الموجة الثانية، ومواجهة التحديات التي تواجهها في كافة المجالات وعلى جميع المستويات، واتسعت دائرة النشاط لتشمل المجتمعات الفقيرة والفتيات الشابات، ولتدعم الحرية الجنسية، فتبنت المثلية الجنسية، واستقطاب منتسباتها والدفاع عن حقوقهن، إضافة إلى حق المرأة في تحديد النسل، بوصفه ضرورة لتحقيق الاستقلال الاقتصادي عن الرجال، وقد صدر في هذه الفترة عن الأمم المتحدة ما يعرف بـ”منهاج عمل بكين” عام 1995، الذي يمثل المرجع لكافة الأعمال المطلوبة لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة.
الموجة الرابعة: التمكّن والتمكين
ظهرت هذه الموجة عام 2012، بعد إطلاق هيئة الأمم المتحدة للمرأة عام 2010، وكان تركيزها على قضية تمكين المرأة في كافة مجالات الحياة، بالتساوي مع الرجل، من دون تمييز بين مجال وآخر، أو مستوى وآخر، إضافة إلى تحقيق التغيّر الشامل ومحاربة التمييز. وقد ساعد ظهور منصات التواصل الاجتماعي، وانتشار منتديات مقاومة التحرش على تحقيق نشر القيم والأفكار والسلوكيات، وتوسيع دائرة التأييد على كافة المستويات وفي جميع دول العالم؛ فقد نظمت الحركة النسوية في لندن عام 2013 تظاهرة مليونية احتجاجا على تقرير أصدرته الأمم المتحدة ذكر أن واحدة من بين كل 3 نساء معرضة للتحرش والضرب في العالم، وقد تمكن المنظمون من تحويلها إلى تظاهرة مليارية عالمية عن طريق الإنترنت شارك فيها مؤيدون من 207 دول.
الموجة القادمة
تهيمن الحركة النسوية العالمية الآن على الأمم المتحدة بشكل كامل، وقد استطاعت -عن طريق العديد من وسائل وأساليب الضغط- إجبار الأمم المتحدة على تبني أفكارها ومبادئها، وتحويلها إلى قرارات وخطط واتفاقيات تتبناها الأمم المتحدة، وتراجع سنويا مستوى التقدم المتحقق فيها مع ممثلي الدول الأعضاء، وتنتظر الحركة النسوية العالمية الآن تحقق أهدافها فعليا بصورة كاملة بحلول عام 2030 ضمن أهداف التنمية المستدامة، بل إن “منتدى جيل المساواة” (Generation Equality Forum) الذي ينعقد سنويا في المكسيك وفرنسا بتنظيم هيئة الأمم المتحدة للمرأة، وضع خطة تسريع أكثر تفاؤلا لتحقيق المساواة بين الجنسين، والتمكين الكامل للمرأة بحلول عام 2026، بتمويل وصل إلى نحو 40 مليار دولار.
وللأهمية والتدليل، أقتبس هنا عبارة المنتدى للعالم “بصفتها نصيرة عالمية للنساء والفتيات، تقف هيئة الأمم المتحدة للمرأة في قلب تعبئة الحكومات والمجتمع المدني، للوفاء بوعود منهاج عمل بكين للمجتمع بأسره. يقدم منتدى جيل المساواة الفرصة للجمع بين صانعي التغيير من جميع الأعمار والأجناس، من جميع أنحاء العالم، لمعالجة الأعمال غير المكتملة المتمثلة في تمكين المرأة، وعدم ترك أي شخص يتخلف عن الركب”.
الدول الأعضاء والمجتمع المدني والقطاع الخاص وكيانات الأمم المتحدة مدعوة للانضمام إلى الجهود مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة والإسهام في هذه اللحظة التاريخية. وتسخّر الأمم المتحدة إمكاناتها عن طريق جميع وكالاتها -وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة للمرأة- لتسريع تحقيق الأهداف والوصول إلى هذه اللحظة التاريخية. وعلى مدار الساعة، تحقق الهيئة العديد من الإنجازات في هذا الصدد، ونشير -على سبيل المثال- إلى الحملة التي أطلقتها سبتمبر/أيلول 2014 تحت شعار “هو من أجلها” (HeForShe) الساعية إلى توسيع نطاقات التأييد وتغيير الفكر الاجتماعي والقيمي والسلوكي ليس على مستوى الفتيات والنساء فحسب، بل على مستوى الشباب والرجال أيضا، فقد بلغ عدد الناشطين الملتزمين معها نحو 3 ملايين ناشط حول العالم، إضافة إلى 600 مليون يمثلون شركاء للهيئة في العالم، وملياري محادثة نقاشية حول الموضوع سنويا عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وسواء أكانت هذه اللحظة التاريخية المنتظرة عام 2026 أم عام 2030، فإنها ستمثل علامة فارقة في تاريخ المجتمع البشري، قد تبدأ معها الموجة الخامسة للحركة النسوية العالمية، التي ستكون أكثر تمكنا وسلطة ونفوذا عبر تاريخها، فكيف ستكون ملامح هذه الموجة؟ وماذا ستكون أولوياتها؟
لم تعد الحركة النسوية مجرد نشاط حقوقي يساعد المرأة الغربية في الحصول على حقوقها الأساسية في الانتخاب والتعليم والعمل على قدم المساواة مع الرجل، بل تحولت إلى حركة عالمية ضخمة مهيمنة، تصرّ على تغيير النظام الاجتماعي البشري، وفرض أفكارها على شعوب العالم، بصورة تثويرية انقلابية. فمن وراء هذه الحركة؟ ومن أين أتت بهذه الأفكار؟ وماذا تريد من ورائها؟