You are currently viewing أزمة أوكرانيا.. قبل أن نضل الطريق لعقولنا!

أزمة أوكرانيا.. قبل أن نضل الطريق لعقولنا!

هشام الحمامي

 

وفي كانون الثاني/ يناير 2019م أعلن البطريرك كيريل الراعي السادس عشر للكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن أوكرانيا ليست في ضواحي كنيستنا، نحن نلقب كييف “أم المدن” الروسية.. “كييف قُدسنا”.. وأضاف الرجل متأثرا ومؤثرا: الأرثوذكسية بدأت هناك ومن المحال أن نتخلى عن هذه العلاقة التاريخية والروحية.

وفي الخطاب الذي ألقاه بوتين يوم 21 شباط/ فبراير 2022م، قبل الغزو بثلاثة أيام، قال: إن أوكرانيا كانت دائما جزءاً لا يتجزأ من العالم الروسي، من روسيا المقدسة، وأن أحد أهدافه هو “إنقاذ الأرثوذكس” التابعين لروسيا وتقوم أوكرانيا باضطهادهم..

نعلم جميعا أن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لـ”بطريركية موسكو” تمثل الأغلبية في شرق أوكرانيا، أما الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية لـ”بطريركية كييف” فتمثل سكان غرب أوكرانيا التي تعترف باستقلالها الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والكرازة المرقسية بالإسكندرية.. واستقلال الكنيسة في الفكر المسيحي شيء هام للغاية.

الحديث عن الأرثوذكسية وما تتعرض له من تهديد عالمي تحدث عنه أيضا وزير الخارجية سيرجي لافروف النجم اللامع في السياسة الدولية، وقال في حديث للقناة الروسية المعروفة “آر تي” إن الأرثوذكسية العالم تتعرض لعملية تخريب من أوروبا الغربية وأمريكا، ليس في أوكرانيا فقط ولكن في دول البحر الأبيض المتوسط (سوريا ولبنان) ودول البلقان، حيث يسكن الكثير من السكان الأرثوذكس وحيث تمارس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أنشطتها.

الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لـ”بطريركية موسكو” تمثل الأغلبية في شرق أوكرانيا، أما الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية لـ”بطريركية كييف” فتمثل سكان غرب أوكرانيا التي تعترف باستقلالها الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والكرازة المرقسية بالإسكندرية.. واستقلال الكنيسة في الفكر المسيحي شيء هام للغاية

سيرجي لافروف (71 سنة) يعتبر في السياسة الخارجية الروسية “المعادل الموضوعي” لأندريه جروميكو (1909 -1989م)، وزير الخارجية السوفييتي الشهير الذي استمر في منصبه 28 سنة وقت ما تم تسويقه للبشرية وقتها باسم الحرب الباردة (1957- 1985م). الحاصل أن السيد لافروف يمثل أحد أهم مفاتيح أسرار مرحلة “ما بعد” الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين (1931-2007م)، والأب الروحي للرئيس الحالي فلاديمير بوتين (70 سنة)، وهي المرحلة التي يتطلع التاريخ الروسي بل والتاريخ الإنساني كله إلى معرفة تطورها وتشكلها وتكونها..

سيكون هاما هنا أن نعرف بأن يلتسين هو من قام بتعيين السيد سيرجي مندوبا دائما لروسيا الاتحادية في الأمم المتحدة سنة 1994م، ومن هناك سيعبُر السيد سيرجي الباب الملكي إلى “العالم الطريف”، عالم الدوس هيكسلي، الروائي الإنجليزي الشهير (1894- 1963م) الذي ترك لنا رواية عالم طريف أو عالم جديد شجاع، وكتبها عام 1932م وتوقع فيها المستقبل المظلم للإنسان والإنسانية في ظل حالة دائمة ومتكررة من الحرب والتحكم الديكتاتوري في البشر. ومعروف أن جورج أورويل، الروائي الإنجليزي الأشهر وصاحب رواية “1984”، تأثر كثيرا بآرائه.

إن يكن من أمر فصاحبنا سيرجي أصبح مع صاحبه فلاديمير أحد أهم الشخصيات الدولية البارزة في دنيا القرن الحادي والعشرين، رغم أنه صاحب حضور وتأثير يفوق كثيرا المخابراتي العتيد بوتين.. لكن الأخير هو من يعد بالطبع “سيد اللعبة” الأول في مرحلة ما بعد يلتسين.. عشر سنوات عاشها سيرجي لافروف في نيويورك وعرف فيها ومنها ما يتحتم عليه له أن يعرفه عن “الأجندة العالمية” الرئيسية.. إلى أن جاء وزيرا للخارجية عام 2004م وحتى الآن.

والى أن تكتمل السردية التاريخية لعالم “ما بعد” الحرب العالمية الثانية أو “العالم الطريف.. سيكون مهما بمكان أن نتذكر أوكرانيا بأنها هي المهد الأول للمسيحية الأرثوذكسية في القرن العاشر الميلادي بعد انشقاق الكنيتسن الرومانية الكاثوليكية والشرقية الأرثوذكسية سنة (1054م)، كما أن أوكرانيا كانت بوابة كارل الثاني عشر ملك السويد (1700م) ونابليون بونابارت (1812م) وهتلر (1941م) إلى غزو روسيا.. 18 في المائة من الأوكرانيين ينتمون إلى العرق الروسي ويمثلون أغلبية في ثماني مقاطعات من أصل 24 مقاطعة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية صغيرة، وهو بالطبع ما تتذرع به روسيا التي كانت وسبق أن ضمت شبه جزيرة القرم 2014م بحجة حماية ذوى الأصول الروسية فيها.

الاستدعاء الديني كأحد مكونات “خطاب الذرائع” السابق للغزو الروسي لأوكرانيا ليس أمرا جديدا، فهو صديق دائم لكل الغزاة عبر التاريخ الطويل لغزو البشر لإخوانهم البشر.. وهو هنا فيما نراه اليوم من أحداث مثيرة في القارة العجوز يعد خطابا مخمليا جميلا معتقا بعبق التاريخ وروائحه المحملة بتيجان الأباطرة والقياصرة والباباوات والكرادلة

الاستدعاء الديني كأحد مكونات “خطاب الذرائع” السابق للغزو الروسي لأوكرانيا ليس أمرا جديدا، فهو صديق دائم لكل الغزاة عبر التاريخ الطويل لغزو البشر لإخوانهم البشر.. وهو هنا في ما نراه اليوم من أحداث مثيرة في القارة العجوز يعد خطابا مخمليا جميلا معتقا بعبق التاريخ وروائحه المحملة بتيجان الأباطرة والقياصرة والباباوات والكرادلة.. لا بأس بكل ذلك! لكن المثير أنه مصحوب في الوقت نفسه بحالة خواء روحي وحضاري واضح تشهدها الحضارة الغربية كلها، شرقها وغربها..

على أية حال ها هي الحرب تدخل أسبوعها الثاني، وكالعادة وكما يحدث دائما سيقوم “البشر المساكين” بتسديد الثمن كاملا وافيا لكل هذه الهواجس الاستراتيجية التي لن تحدث أبدا؛ لأن الهلاك فيها لن يستثنى أحدا وهو ما يعلمه الجميع.. لكن الشيء لزوم الشيء، كما يقول الراحل نجيب الريحاني (ت 1949م) في الفيلم الشهير “أبو حلموس” (أنتج عام 1947م) في أول درس تلقاه من رئيسه الأعلى في أصول الانتهازية وقواعد الاختلاس وخراب الذمة..

لكن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أعلن عن مقتل 331 مدنيا وإصابة 675 منذ بدء الغزو الروسي، ونعلم جميعا أن الحصيلة الفعلية أكبر من ذلك بكثير. مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قال أيضا إن مليونا ونصف المليون شخص فروا من أوكرانيا خلال الأسبوع الأول فقط من بدء العملية العسكرية، في ما يوصف بأسرع أزمة لاجئين تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. مفوضة الشؤون الداخلية بالاتحاد الأوروبي قالت إن المفوضية تتوقع موافقة الاتحاد الأوروبي على “توجه خاص” بشأن مسألة قبول اللاجئين الأوكرانيين.

الحرب تدخل أسبوعها الثاني، وكالعادة وكما يحدث دائما سيقوم “البشر المساكين” بتسديد الثمن كاملا وافيا لكل هذه الهواجس الاستراتيجية التي لن تحدث أبدا؛ لأن الهلاك فيها لن يستثنى أحدا وهو ما يعلمه الجميع

سنضع ألف خط تحت عبارة “توجه خاص” هذه، والتي تخفي في تلابيبها كل ما هو حقيقي وجوهري وغير حضاري في نظرة الأوروبي لنفسه وللآخرين، في عملية كشف وتعرية تامة لطبيعة البيئة الثقافية العميقة الحاضنة لـ”الرجل الأبيض”، صاحب الدور الحضاري الشهير! وهي الثقافة التي تحتقر القوميات والأعراق الأخرى وتعتبر أصحابها مجرد شاغلي أماكن في الكوكب الأرضي.

مراسلة “إن بي سي” الأمريكية قالت إن اللاجئين من أوكرانيا يختلفون عن القادمين من سوريا لأنهم “بيض ومسيحيون”! ومراسلة أخرى قالت إن أوكرانيا ليست دولة من دول العالم الثالث.. هذه أوروبا!.. مذيع الأخبار في “بي بي سي” الإنجليزية “روس أتكنز” لم يعلق هو الآخر على ضيف في برنامجه قال إنه حزين لرؤية “أوروبيين بيض بعيون زرقاء” يُقتلون.. فيما يشير إلى قبوله بذلك التصنيف غير الحضارى في حقيقة الأمر.. الطبيعي أن يحزن الإنسان لمجرد سماع كلمة “قتل”! حتى لو كانت للزواحف والحيوانات..!

ولا دهشة في ذلك، فتاريخ الأوروبي مع العالم الجديد (الأمريكتين) والقديم (المستعمرات) كان تاريخا طويلا من القتل المباح ضد الآخر.. غير الأوروبي!

لكن الأكثر إيلاما بالفعل هو ما قاله السياسي المخضرم ألكسندر نازاروف (71 سنة)، الحاكم السابق لمقاطعة “تشوكوتكا” الروسية من أن ما يحدث ما هو إلا حرب أهلية بين شعبين شقيقين، ما هما في الحقيقة إلا شعب واحد، وستبقى المرارة في القلوب لجيلين على الأقل.

twitter.com/helhamamy

 

اترك تعليقاً