هشام الحمامي
أرجو أن لا يكون العنوان مثيرا للدهشة وإن كان فيه ما يدعو إلى ذلك في الحقيقة، لكن المسألة إن لم تكن كذلك فهي جزء من ذلك، فالكلمات ما هي إلا جزء من عنوان لكتاب هام كتبته الباحثة والكاتبة الأمريكية كاريل ميرفي وعنوانه (العاطفة الإسلامية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث ـ الخبرة المصرية) الكتاب صدر سنة 2002م ..
يعني من عشرين عاما ولأن الدنيا هي الدنيا والناس هم الناس كما قال عمنا أبو العلاء المعرى (ت 1057م) (الناس كــالناس والأيام واحدة ** والدهر كالدهرِ والدنيا لمن غلبا) فسنجد أن ما كتبته الكاتبة من عشرين عاما لازال يقرأ قراءة مرجعية إلى يومنا هذا .
الكتاب موجود على أمازون، والكاتبة لها كتاب أخر مهم عن المملكة العربية السعودية صدر عام 2013م عنوانه (مستقبل المملكة بعيون الشباب العشريني) كما فهمت من العنوان و(موجود هو أيضا على أمازون)، والكتاب يعتبر هاما بين الكتب الغربية الكثيرة التي كتبت عن المملكة، إذ تناولت فيه الكاتبة أربع موضوعات تتعلق بمستقبل المملكة (السياسة والدين والحريات والتعليم)، وكما نرى فالموضوعات الأربع هي بالفعل مستقبل المملكة وسيتحدد مستقبلها بالفعل بالطريقة التي تدار بها هذه الملفات الأربع .
كاريل التي حصلت على جائزة بوليتزر الشهيرة سنة 1991م.. كانت قد عملت في القاهرة لمدة خمس سنوات في الثمانينيات كمديرة لمكتب جريدة الواشنطن بوست وعملت أيضا في السعودية لمدة مقاربة، ويبدو أن اختيارها للبلدين مركزي ومٌركَز واستخلاصي، فمصر بتعدادها السكاني وتاريخها السياسي والاجتماعي بلد بالغ الأهمية في فهم الكثير مما يتعلق بالشرق كله انتصارا وانكسارا، والسعودية هي البلد التي بها أم القرى والمدينة التي شهدت البزوغ الأول لفجر الحضارة الإنسانية بإسم الإسلام، وبالطبع والأهم أيضا ذلك الشغف الفطري عند المسلمين بهذه البقاع، كما جاء في الدعوة المستجابة لأبي الأنبياء (فاجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم..) الآية 37 من سورة إبراهيم.
كل ذلك يجعلنا نفهم أن الأرضية الدراسية والبحثية التي قامت عليها جهود الكاتبة غنية وثرية فيما يتعلق بخدمة موضوعات دراستها وبحثها.
الجهد الكبير الذي قامت به الكاتبة في كتابها (العاطفة الإسلامية..) يستحق الاهتمام.. ليس فقط بسبب المعلومات الغزيرة التي قدمتها، ولا حتى بسبب المفاهيم المقلوبة عن الإسلام والتي حاولت تصحيحها عن الإسلام، ولكن أيضا وربما الأهم لتناولها مسألة (العنف) من زاوية نظر واسعة وموضوعية للغاية، سواء كان في (صورة نضالية) خالصة كما رأيناه من الشهيد ضياء حمارشة الأسبوع الماضي في (بني براك) أو في صورة (إرهابية خالصة) كما رأيناه أمس الجمعة 2 نيسان (أبريل) من جنود الاحتلال الإسرائيلي في جنين.. وربما يكون لنا مع رؤيتها تلك وقفة أوفى.
تقول الكاتبة (إن العنف السياسي في الشرق الأوسط يجب أن نفهمه في سياق قوى تاريخية ثلاثة: الظاهرة الإسلامية / الحكومات الاستبدادية المتعاقبة / فشل حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي) على مدى سنوات عديدة ساهمت هذه العناصر الثلاثة في إيجاد مناخ متوتر في الشرق الأوسط.
سنفهم ترتيبها (للظاهرة الإسلامية) في المرتبة الأولى حين نعرف أنها بدأت كتابها بقول الحق عزوجل (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم).. والمعنى واضح وضوحا تاما ونهائيا لمن يتأمل ويتدبر ويستغرق في فهم هذه المعاني الثلاث (العبودية / والبراءة من الحول والقوة / والهدى) وما تمثله هذه المعاني في صياغة الوجدان العميق للمسلمين عبر الأزمان والتواريخ ..
والحقيقة أن الكاتبة برهنت بهذا الاستهلال أنها كانت شديدة الفهم لحقائق الواقع التي تبحث فيه وعنه وأيضا له، بل ولمست بأدوات عقلها البحثي عمق الأعماق عند المسلمين حين اختارت ثلاث أيات من (السبع المثاني) التي يقرأها المسلمون يوميا مع حركة النهار والليل في الزمن، تقول: كنت طوال الوقت أسعى للوصول إلى ما يريده (العقل الإسلامي) بكافة أشكاله وتنوعاته، وقد أردت من خلال ذلك أن تصل رسالة إلى أولئك الذين يريدون أن يفهموا الإسلام على وجه صحيح من دون أن يصطدموا به، وإلى الذين يريدون أن يتعرفوا على الإسلام من خلال أصوات المسلمين أنفسهم.
وتضيف: وسرعان ما اكتشفت في مصر أن الدين حاضر أبداً، كنت أسمع الآذان يرتفع عاليا خمس مرات في اليوم والليلة.
قبل مجيئي إلى مصر علمت أن كلمة (إسلام) تعني (الخضوع)، لكن عندما عشت في مصر وجدت المعنى مختلفا تماما، وهو أن المسلم يسجد لله في صلاته كدليل على أنه يؤمن بالله وبوحدانيتة وبرحمته التي وسعت في رحابها كل شيء.
تتحدث عن الظاهرة الإسلامية في المشرق العربي وعلاقتها بمصر قائلة: مصر هي ملتقى الشرق والغرب في تاريخ الحضارة الإسلامية، كما قدمت علماء إسلاميين أجلاء، كما أنها مقر جامعة الأزهر ذات الألف عام التي تعد أقدم جامعة في العالم، لكل هذه الأسباب تصبح مصر مركزاً لتفاعلات الظاهرة الإسلامية المعاصرة.
وتضيف (جملة مفتاح) بالغة الأهمية عن الحركات الإسلامية وأفكار الإصلاح الإسلامي (السياسي والاجتماعي) في مصر والشرق قائلة: الظاهرة الإسلامية وجدت لتبقى في مصر وباقي الدول العربية بعيداً عن العنف، كما أن الدين والتدين يجري في عروق المصريين مثلما يجري ماء النيل بطول 900 كم في أرض مصر ويعطيها الحياة.
الظاهرة الإسلامية التي ستبقى (بعيدة عن العنف) وهي إن شاء الله كذلك، ربما لم تنتبه الكاتبة أو لم تتخيل أن التصاق العنف بها (صناعة غربية كاملة) في الفترة الأسوأ والأعقد في تاريخ المنطقة والعالم: السبعينيات.. فعنف الحركة الإسلامية والوطنية في الثلاثينيات والأربعينيات كان في سياق التحرر الوطني من الاحتلال الغربي مهما اختلفت مع هذه الحركات.. وهو بالضبط ما نراه في فلسطين من أهل فلسطين تجاه محتل أجنبى وغريب عن كل التاريخ الاجتماعي والسياسي والحضاري للمنطقة كلها وليس لفلسطين وأهلها فقط .
الظاهرة الإسلامية التي ستبقى (بعيدة عن العنف) وهي إن شاء الله كذلك، ربما لم تنتبه الكاتبة أو لم تتخيل أن التصاق العنف بها (صناعة غربية كاملة) في الفترة الأسوأ والأعقد في تاريخ المنطقة والعالم.
أما عنف السبعينيات التي أقرت الكاتبة بأنه بعيد عن (الدين) في مصر وغيرها من البلاد العربية فقد تم تصنيعه في ثنايا قرار بريجنيف (1906 ـ 1982م) رئيس الاتحاد السوفييتى الأسبق بدخول أفغانستان في ديسمبر 1979م وسارات بعدها المسارات تتعدد وتتوحد وتتلاقى وتتباعد، وأصبحت أرض أفغانستان (المصب) الطبيعي لكل هذه المسارات ولم تكتف بذلك بل أصبحت (المنبع) أيضا، وحين يصبح مكان ما (منبع ومصب) في نفس الوقت فأنت أمام ظاهرة تناقض السنن والقوانين الطبيعية والتاريخية تناقضا مريبا ومنذرا ومخيفا، والتناقض لا يٌنتج إلا تناقض، بل ويٌنتج ما هو أشد وأقسى من التناقض: اختراقات وانحرافات وتنظيمات وتسليحات وتربيطات ونتوءات وتقرحات ونوَع ما تشاء على نفس اللحن النشاز..
تنظر ميرفي إلى الظاهرة الإسلامية باعتبارها ظاهرة تنقسم إلى أربعة مستويات: مستوى التدين المجتمعي، تدين الطمأنينة والأمان ومن يقدمون الإسلام الصحيح الذي يلقي الضوء على النمو التلقائي لجذور الولاء والتقوى التي أدت إلى نشأة تجمعات إسلامية عديدة (ربما تقصد أنصار السنة والجمعية الشرعية ..الخ) وهو كما نرى كلام موضوعي ومحايد وبعيدا عن القصة الأثيرة للبعض عن صناعة الرئيس السادات (ت 1981م) للظاهرة الإسلامية وأيضا قصة الوهابية وخروج الإسلاميين من سجون الزعيم الخالد .
ومستوى التيار السياسي الإسلامي الذى يستخدم الوسائل السلمية لتحديد دور الإسلام على الساحة العامة (الكتاب يتحدث عن ما قبل 25 يناير)، والمستوى الثقافي والاجتماعي الذي يجسد مقاومة الغزو الثقافي الغربي وتثبيت الهوية المستقلة عن طريق تحديد الشخصية الإسلامية.
والمستوى الفكري الذي يظهر محاولات قيمة للمثقفين والمفكرين الإسلاميين في إعادة قراءة التشريعات والنصوص على ضوء الواقع المعاصر (ربما تقصد الراحلين الكبيرين الأستاذ طارق البشري / ت 2021م والدكتور محمد عمارة / ت 2020م) وأيضا الدكتور سليم العوا والأستاذ الكبير فهمى هويدي حفظهم الله ..الخ).
سيلفت نظرنا أن الكاتبة لم تتوقف عند ما يسميه البعض بالمؤسسات الدينية رغم المواقف الهامة لفضيلة الإمام الطيب شيخ الجامع الأزهر حفظه الله.
وأخيرا.. يقول أحد الحكماء: لقد سبق وقيل كل شيء، ولكن، وبما أنه لا أحد يريد أن يستمع أو يفهم، فعلينا تكرار كل شيء من البداية.. وهكذا كان.