صرحت روائية مصرية معروفة بانتمائها التاريخي إلى اليسار السياسي والفكري خلال الأسبوع الماضي في لقاء تلفزيوني.. بأنها تقف ضد “تحفيظ القرآن للأطفال” في سن مبكرة لأن ذلك “سرقة” لطفولتهم وقهرهم على فعل عمل لم يختاروه لأنهم لم ينضجوا.. قالت: “ليه طفل في ابتدائي تديله آيات مش فاهمها، وليه نعمل مقرأة للقرآن ونصبغ الطفل بهذا الاختيار، إديله حرية الاختيار واستنى لما ينضج شوية عقليا ويستطيع الاستيعاب؛ لأن دي سرقة لطفولته”.
يقولون إن شر الكلام ما ناقض بعضه بعضا.. كيف سنمنحهم حق الاختيار وهم لا يستطيعونه كما تفضلت بوصفهم، وذلك لأنهم خارج دائرة النضج، والاختيار صفة أصيلة للإنسان الناضج كما تقول “المعلومات العامة”، والإنسان الذي لم يكتمل نضجه هو أصلا إنسان غير مكلف أمام الشرع والقانون، لعدم قدرته على الاختيار بين الصواب والخطأ..
* * *
المتخصصون يعرفون جيدا أن الطفل العربي وحتى دخوله المدرسة (6- 7 سنوات) لا تزيد حصيلته اللغوية على ثلاثة آلاف كلمة، في حين أن الطفل الأجنبي تكون حصيلته في سن ثلاث سنوات 16 ألف كلمة..
طفلنا العربي المنشود كان نظيره قديما يحفظ القرآن الكريم كله (50 ألف كلمة من التنزيل الكريم) قبل السنة الثامنة من عمره.
كما أن المتخصصين يعرفون أيضا أن النقطة الحرجة في علاقة التفكير باللغة تحدث عندما يبلغ الطفل السنتين من عمره، ففي هذا العمر سيلتقي “منحنى التفكير” الذي يسبق اللغة و”منحنى اللغة” الذي يسبق التفكير ويترابطان ليصبح فيه التفكير لفظيا.. ولنا أن نتخيل الصورة الفكرية والفكرة اللفظية في التفاعل والتجاوب مع حياة مليئة بالحيوية والعاطفة والحركة والتعلم و.. إلخ.
ما هو الهدف المقصود والمراد من وراء هذا التصريح ومن روائية نصف مشهورة في قناة فضائية يتابعها بسطاء الناس؟ ثم ما هي أولوية ذلك في جدول الضعف والحرمان والمعاناة لدى الطفل العربي، إذا كان الحفظ المبكر يشكل معاناة أصلا؟ أين الصحة والتغذية واللعب الذي يصفونه بأنه “التعلم الجدي عند الأطفال”
* * *
بغض النظر هنا عن منهجية ما ذكرته الروائية الكريمة.. ما هو الهدف المقصود والمراد من وراء هذا التصريح ومن روائية نصف مشهورة في قناة فضائية يتابعها بسطاء الناس؟
ثم ما هي أولوية ذلك في جدول الضعف والحرمان والمعاناة لدى الطفل العربي، إذا كان الحفظ المبكر يشكل معاناة أصلا؟ أين الصحة والتغذية واللعب الذي يصفونه بأنه “التعلم الجدي عند الأطفال”.
وبغض النظر -للمرة الثانية- ما هو نصيب علوم التربوية وعلوم الأعصاب والنمو العضوي وعلوم الاجتماعيات والتنشئة فيما ذكرته الروائية الكريمة؟!
* * *
لنزداد اقترابا أكثر من مغزى تصريحاتها واستضافتها، هل الكلام هنا سياسي باعتبار أنها يسارية ومناضلة قديمة في صفوف اليسار الخصم العتيد للتيار الديني السياسي؟.. وجيل الأستاذ الروائية أصلا (السبعينيات) صاحب خصومة ثأرية عنيفة ومتجددة مع هذا التيار تحديدا لأنه طوى صفحته لاعتبارات كثيرة؛ تتعلق بالتماسك الفكري والتنظيمي لليسار من جانب والتحولات السياسية والاجتماعية التي جرى مجراها في المجتمع العربي بعد أم الهزائم (1967م)؟..
خصومة ثأرية عنيفة ومتجددة مع هذا التيار تحديدا لأنه طوى صفحته لاعتبارات كثيرة؛ تتعلق بالتماسك الفكري والتنظيمي لليسار من جانب والتحولات السياسية والاجتماعية التي جرى مجراها في المجتمع العربي بعد أم الهزائم (1967م)
وإذا كان ذلك كذلك وهو بالفعل كذلك كما يعرف كل المراقبين والمتابعين، فهل يليق أن نتحول من الخصومة مع الساسة والسياسية إلى الخصومة مع الحضارة والتاريخ؟ والمفترض أن حضارة الأمة وتاريخها ملك للجميع والمفترض أكثر أن محترفي الأدب أكثر قربا وإحساسا باللغة التي يبدعون بها وينتجون بها إبداعاتهم!
* * *
سيكون مفيدا ومهما أن نتوقف هنا برهة للإشارة الى أن الكاتبة لها سابقة في عمل روائي بعنوان “البشموري” صدرت سنة 2004م؛ يتناول فترة تاريخية مجهولة ولم يهتم بها أصحابها (الأقباط) كثيرا، وجرت أحداثها في القرن العاشر الميلادي (932م)! تتناول ثورة المصريين الأقباط في الدلتا بمصر على الدولة العباسية..
قد لا يعدو الموضوع هنا رغبة في الشهرة والاختلاف والانتماء إلى طائفة ما يُطلق عليهم “السادة الجدد” أو “المسودون الجدد” كما يقولون.. وهم بالمناسبة داعمو “الشواذ والأقليات والمرأة”.
أمام موقف يتعلق بالأمن القومي وتماسك الجبهة الداخلية وصلابة ووحدة الجماعة الوطنية.. واستدعاء صدام تاريخي قديم اختفت تماما كل سياقاته التاريخية وبيئته الاجتماعية، والعمل على إحيائه في الذاكرة الوطنية للحاضر المعاصر المعاش أمر غير مفهوم ومدعاة للتشكك والسؤال..
قد لا يعدو الأمر ذلك، لكننا في النهاية أمام موقف يتعلق بالأمن القومي وتماسك الجبهة الداخلية وصلابة ووحدة الجماعة الوطنية.. واستدعاء صدام تاريخي قديم اختفت تماما كل سياقاته التاريخية وبيئته الاجتماعية، والعمل على إحيائه في الذاكرة الوطنية للحاضر المعاصر المعاش أمر غير مفهوم ومدعاة للتشكك والسؤال..
* * *
نحن هنا أمام موقفين لشخص واحد يشيران بإصبع مريب إلى ما لا نقبله من اليسار العربي والمصري خاصة. كلنا نعلم بالطبع أن هناك أزمة كبيرة يعيشها اليسار.. القديم الجديد -على فكرة- وفي العالم كله، وليس لدينا فقط.. وكما هي أزمات الدنيا وكما هم الناس.. سيكون لذلك كله أثره المثير على الفرد وحالة ومحياه وحاضره وحضوره الذاتي في المجال العام، وهو ما يعنى الكثير للبعض بل ويشغلهم كثيرا خاصة ممن كانت رهاناتهم في بورصة المجد والنجومية بالغة التفاؤل.. وهي فئة كبيرة وموجودة في كل التيارات السياسية والفكرية ونماذجها متكررة بيننا في الحاضر كثيرا كما كانت في الماضي أكثر.. إنها الطائفة المعروفة تاريخيا وأخلاقيا بأنهم الذين قد “أهمتهم أنفسهم”.
المفكر الإيطالي الشهير جرامشي (ت 1937م) كان يدعو إلى تجاوز الأيديولوجيا في المراحل التاريخية الحرجة، والالتفاف حول الوطن وحضارة الوطن وأوجاع الوطن ومستقبل الوطن.
لكن اليسار المصري وصفته المناضلة اليسارية الراحلة أروى صالح (ت 1997م) بعجزه العميق عن بلوغ نقطة التقاء مع الواقع، وللأسف.. هو بالفعل والممارسة كذلك.. فقد هوى في فراغ ضخم.