تتابع الكنائس المشرقية في كندا باهتمام زيارة البابا فرنسيس إلى كندا للاعتذار عن الأخطاء التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية بحق أبناء الأمم الأُوَل الذين كانوا يرتادون المدارس الداخلية التي أنشأتها الحكومة الكندية الفيدرالية بالتعاون مع جمعيات مسيحية عبر البلاد على امتداد قرن وربع القرن.
أُجبر ما يُقدر بنحو 150.000 طفل من أبناء الأمم الأُوَل في كندا على الالتحاق بمدارس داخلية في كندا بين عامي 1870 و1997. هذه المدارس كانت تمولها الحكومة الكندية الفيدرالية وتديرها جمعيات مسيحية، في معظمها كاثوليكية (بنسبة تفوق الـ 60%). تفّشت في تلك المدارس الإساءة الجسدية والنفسية والروحية والاهمال (نافذة جديدة).
مطلع نيسان / ابريل الماضي، قدم البابا فرنسيس الاعتذار عن أخطاء الماضي في حاضرة الفاتيكان عندما زاره وفد من الأمم الأُوَل وشعوب الإينويت و الخلاسيين في كندا. هؤلاء طلبوا منه أن يقدم الاعتذار لكافة السكان الأصليين على أرضهم، وهكذا تقررت زيارة الحبر الأعظم إلى كندا بين 24 و29 تموز / يوليو الحالي.
طلب السماح إجراء استثنائي في الكنيسة الكاثوليكية
الاعتذار فضيلة يتحلى بها الأقوياء[…] هي الخطوة الأولى في مسيرة الغفران، يعترف الإنسان بأخطائه و بذنوبه ويطلب السماح عنها.
يُذكّر المتحدث بأن البابا يوحنا بولس الثاني (على رأس الكنيسة الكاثوليكية من العام 1978 حتى العام 2005) كان السبّاق في إحراز الخطوة الأولى في مسيرة الاعتذار عندما طلب الغفران من الشعوب عن ’’الإساءات التي اقترفتها الكنيسة الكاثوليكية عبر تاريخها‘‘. وهو دعا الكنيسة الكاثوليكية في بداية الالفية الثالثة إلى ’’الركوع أمام الله وطلب السماح عن كل أخطاء الماضي‘‘،بما في ذلك عنف الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والعبودية والعداء تجاه الأديان الأخرى.
في هذا الإطار يقول المؤرخ جان باتيست نوي (نافذة جديدة) لمذياع هيئة الإذاعة الكندية: ’’ كانت تلك أهم لحظة في العقود الماضية، لحظة مهمة للغاية في حبرية البابا يوحنا بولس الثاني‘‘.
بدورها تقول السيدة فروتو المسؤولة السابقة عن القسم الفرنسي في راديو الفاتيكان: ’’في ذلك الوقت ، لم يكن طلب الصفح عن الماضي جزءًا من ثقافة الكنيسة الكاثوليكية، كانت هناك ممانعة. ووفقًا لها، فقد تساءل البعض عن أهمية طلب الصفح عن الأخطاء التي ارتُكبت في الماضي من قبل أجيال أخرى‘‘. وأوضحت المتحدثة أن البابا يوحنا بولس الثاني لم يقل أنه يمكن طلب الصفح فحسب، بل إنه يجب على الكنيسة طلب المغفرة أيضاً‘‘، على حد تعبيرها.
يوضح مراسل صحيفة ’’’لاكروا‘‘ الفرنسية في الفاتيكان لوب بيسموند دو سينفيل أنه ’’على رغم وجود سوابق في التاريخ، إلا أن طلب الصفح يبقى إجراءً استثنائيا في الكنيسة، ويمكن للبابا تقديم الاعتذارات إذا اعتبر أن اعتذارات الأساقفة غير كافية وإذا راى بأن الحقائق خطيرة بما فيه الكفاية‘‘.
’’لكل ظرف في الكنيسة خطابه‘‘
يؤكد الأسقف ميلاد الجاويش بأن خطاب التجاوزات الجنسية التي ارتكبها أفراد في الاكليروس أخذ حيزا كبيرا أثناء حبرية البابا بنديكتوس السادس عشر (على رأس الكنيسة الكاثوليكية بين عامي 2005 و 2013).
تميز البابا الألماني بطلب العفو من ضحايا الاعتداء الجنسي الذي ارتكبه رجال الدين، ولا سيما في ايرلندا والولايات المتحدة وأستراليا. ’’لذلك نقول إن هناك ظروفا تسمح بأن يطلب البابا المغفرة عن هذه النقطة في هذا الوقت بالذات‘‘ قال المطران الجاويش.
ويتمنى الأسقف اللبناني ’’لو تحتذي كل المؤسسات الموجودة على الأرض مثال الفاتيكان فلا تغفل عما ارتكبته من إساءات عبر التاريخ، بل تقرّ وتعترف بها وتطلب الصفح، ليعيش ابناء الارض قاطبة وئاما وسلاما ‘‘.
الانسان المليء بروح الله يعرف أن يقف ويقول أنا أخطأت […] لعل أسوأ ما يمكن أن يواجه الضحية هو التجاهل، عندما يتجاهل الجاني فعلته، فهذا شر عميم، أما عندما يقف الجاني، كائنا من كان ومهما كان نوع الفعل الشنيع الذي ارتكبه، ليقول: أنا أخطأت، أنا أتحمل مسؤولية أفعالي وأطلب الغفران. عندها ينزل سيل من الرحمة والطراوة والعزاء في قلب الضحية. لو كل الأخطاء التي ارتكبها الإنسان على مدى تاريخه تنتهي بطلب الصفح والمغفرة لكنا وفرنا الكثير من المشاكل.
’’الاعتذار ليس فقط كلاما شفوياً يقال اليوم في الهواء وغدا يتبخر‘‘
تساءل المتحدث الذي لم يمض أكثر من ثمانية شهور على وصوله إلى كندا لأول مرة في حياته: ’’أنا لا أعلم تاريخ كندا، ولكنني أتساءل: هل كان بيد الكنيسة الكاثوليكية وحدها تقرير مصير أبناء السكان الأصليين في المدارس الداخلية. أم كانت مسؤولية مشتركة مع الحكومة الكندية؟ لكي نحكم على مسألة تاريخية معينة، يجب علينا دراستها بكامل واقعها‘‘. واستدرك المتحدث قائلا: ’’إن هذا لا يلغي مطلقا مسؤولية الكنيسة عن تلك التجاوزات التي ارتكبها رجالها‘‘.
بلسمة الجراح تحتاج إلى وقت، إلى قناعة وإلى نضوج عند الجاني والضحية في آن معا. وقد أخذت الكنيسة على عاتقها طلب السماح لشفاء الجروح. الاعتذار ليس شفهيا وجدانيا فحسب، إنما أيضا تضاف إليه التعويضات المالية للضحايا من السكان الأصليين وذويهم التي تجمع من كافة الكنائس الكاثوليكية في كندا. ويشير المطران الجاويش إلى أن كنيسته ساهمت بدورها بمبلغ رمزي، بحكم انتمائها إلى الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، ولتشارك أيضا الكنديين الذين تعيش على أرضهم ’’بهذه الالتفاتة والمحبة‘‘.
مع أنه لا ناقة لنا ولا جمل في هذه المسألة ولكن لا يمكن لنا أن نعيش في كندا من دون أن نتشارك مع اخوتنا المسيحيين في أفراحهم وفي أحزانهم. نشاركهم في رفع الصلوات من أجل أن تشكل هذه الزيارة مدماكا إضافيا في السلام والوفاق والوئام والعزاء.
وشدد المتحدث على أن طلب الصفح والغفران لا يمكن أن يقتصر على موقف واحد أو مرحلة زمنية بعينها، بل هو يندرج في مسيرة طويلة ويترتب على ذلك مواقف مستقبلية وطريقة عيش معينة و تعامل مختلف مع موضوع السكان الأصليين. ’’لا تخص هذه المسيرة الكنيسة فحسب، بل إنما على المجتمع الكندي برمته أن يعيد القراءة والتعامل مع هذا الملف. هناك جروح ارتكبها أيضا المستعمر والعسكر وأهل السياسة، الا يتطلب كل ذلك إعادة قراءة ومغفرة؟‘‘ تساءل المطران ميلاد الجاويش.
يُشار هنا إلى أنّ رئيس الحكومة الكندية السابق ستيفن هاربر قدّم، في حزيران (يونيو) 2008، اعتذاراً كاملاً باسم الكنديين (نافذة جديدة) عن نظام المدارس الداخلية للسكان الأصليين.
أول زيارة منذ عقدين لرئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى كندا
يُعوّل مجتمع السكان الأصليين في البلاد على زيارة البابا فرنسيس، الأولى من نوعها لحبر أعظم منذ عشرين عاما. وكانت آخر زيارة لرئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى كندا تلك التي قام بها البابا يوحنا بولس الثاني عام 2002، عندما شارك في مثل هذا الشهر (نافذة جديدة) ايضا، تموز / يوليو، في النسخة الـ 17 ليوم الشباب العالمي في تورونتو، عاصمة مقاطعة أونتاريو وكبرى مدن كندا.
ينتظر الأمم الأُوَل و الخلاسيون والإينويت في كندا (نافذة جديدة) أن يلتزم البابا فرنسيس بتغييرات ملموسة. وتتوقع زعيمة شعب الكري (Cree – Cris) من السكان الأصليين ماندي جول ماستي، موقفاً قوياً من رئيس الكنيسة الكاثوليكية. تقول المتحدثة: ’’ آمل في أن يتحدث بوضوح عما حدث في المدارس الداخلية. أود أيضاً أن أرى أن لديه خطة آجلة، فالزيارة والاعتذار ليسا سوى الخطوة الأولى‘‘، على حدّ تعبيرها.
من جهتها، تقول رئيسة المجلس الوطني للخلاسيين كاسيدي كارون ’’إنها تريد اعتذاراً أقوى حتى من ذلك الاعتذار في حاضرة الفاتيكان، حيث اعتذر البابا فرنسيس عن الأفعال التي ارتكبها أعضاء في الكنيسة، من دون الإتيان على ذكر مسؤولية الكنيسة ككل‘‘.
يجب أن يكرر البابا اعتذاره في كل مناسبة خلال الفعاليات التي سيشارك فيها في كندا، لأن الناجين من المدارس الداخلية لن يكونوا جميعاً في حفل واحد في آن معاً. نريد أيضاً من البابا أن يتعهد بالتزام حقيقي بتغيير الأشياء وموقف الكنيسة […] إن دوي الأفعال أكثر جللا ووقعا من الكلمات.
تضيف المتحدثة: ’’قيل لنا إن زيارة البابا فرنسيس ستكون رحلة مصالحة ’’وتكفير عن الذنوب‘‘، تهدف إلى تعريف كافة أبناء الكنيسة الكاثوليكية في العالم على التاريخ وعلى ما حدث في المدارس الداخلية‘‘.
ويشير كافة هؤلاء المتحدثين من أبناء الأمم الأُوَل إلى أن ما سيعقب زيارة البابا (نافذة جديدة)ستكون له أهميته، خصوصا لجهة اتخاذ إجراءات ملموسة في طريق المصالحة والتعافي للسكان الأصليين.
’’أريدُ رحمةً لا ذبيحة‘‘
يقول الاختصاصي في لاهوت الكتاب المقدس المطران ميلاد جاويش (خريج الجامعة الكاثوليكية في لوفين (Louvain) في بلجيكا وجامعة الروح القدس (الكسليك) في لبنان والجامعة الغريغورية في روما) إنّ ’’الانجيل مفعم بالآيات التي تشدد على الصفح والغفران والمسامحة، وهي ركائز أساسية في المسيحية‘‘ وإنّ ’’يسوع بذكائه وروعته عرف الطبيعة البشرية غير المثالية وغير الملائكية. يتقاتل البشر ويتباغضون ويحقدون، من هنا كان للمغفرة، التي هي من التعابير الأساسية في العهد الجديد، مكانة كبرى. حتى أن السيد المسيح فضلها على الذبيحة عندما قال أريد رحمة لا ذبيحة، إذا كان لأخيك عليك شيء وأنت تقرب قربانك، فاترك قربانك على المذبح واذهب وصالح أخاك. إنّ هذا باعتقادي هو قمة الروحانية المسيحية‘‘.
عندما يصلي المسيحيون صلاة الأبانا، يرفعون أيضا طلب المغفرة والصفح، لقد ربط يسوع التصالح الأخوي مع المصالحة الإلهية. يقول: كما يغفر لك الله اذهب أنت أيضا واغفر لأخيك، اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا، يرددها المسيحي المؤمن[…] الأقوياء هم من يطلبون السماح وليس الضعفاء، الضعيف يقتل، يكره ويراكم في قلبه الحقد. تحتاج المغفرة إلى قوة والأقوياء وحدهم يستطيعون طلب المغفرة وقبولها.
يعتبر المتحدث أن الخطيئة في التاريخ البشري ليست استثنائية، لأنها في عمق الطبيعة البشرية، ولكن ما يشكل الاستثناء هي المصالحة والمغفرة.
’’الكهنة الفقراء هم كهنة على شفير القداسة‘‘
تنظم كنيسة طائفة الروم الملكيين الكاثوليك في مونتريال رحلة حج إلى مدينة سانت آن دو بوبرييه (Sainte-Anne-de-Beaupré) يوم غد الخميس 28 يوليو للمشاركة في القداس الذي سيحييه البابا فرنسيس في الكنيسة التي تحمل اسم المدينة ذاته. ينطلق الباص وعلى متنه نحو 60 شخصا، من أبناء رعايا الكنائس كلها التابعة لطائفة الروم الملكيين في مقاطعة كيبيك، في الثالثة والنصف فجرا للوصول عند السادسة والنصف إلى باحة الكنيسة، علما أن رتبة القداس الإلهي تبدأ عند العاشرة. ولكن اللجنة المنظمة لزيارة البابا أعطت التعليمات اللوجستية في هذا الإطار. 21 مكانا خصص لهؤلاء داخل الكنيسة أما الباقون فيجلسون في الهواء الطلق. ويشارك المطران الذي يصل الليلة إلى كيبيك، في مراسم القداس غداً على المذبح مع باقي الأساقفة و الكرادلة يتوسطهم الحبر الأعظم.
يجد المطران الجاويش أن من مميزات الكنيسة المشرقية أنها حاضنة لأبنائها وتلقى منهم كل الاحترام، علما أن هذا لا يعني أنهم لا ينتقدونها، بشدة في بعض الأحيان أو من دون أي داعٍ. ’’ولكن لا يعيش أبناء الشرق في مجتمع ملحد أو شديد العلمانية، وهم لا يزالون متدينين و مرتبطين ارتباطا وثيقا بكنيستهم‘‘.
وأردف المتحدث ’’هذا لا يُلغي ضرورة أن تُراجع الكنيسة المشرقية بكافة كنائسها، طريقة عملها وطريقة اقترابها من شعبها سواء في الخطاب الكنسي وسواء في عمل المؤسسات الكنسية العاملة على الأرض. لا بد من مراجعة الذات في هذا المضمار والإتيان بخطاب جديد، بطريقة عمل جديدة تحتاج إليها كنيستنا‘‘.
’’في الشرق هناك أفراد كهنة ومؤسسات صغيرة تجرأت وفعلت هذا الخطاب الجديد وحققت قربا إيجابيا من الناس‘‘.
نحن في الشرق ليس لدينا ترف الوقت نتيجة الضغوطات والحروب والصراعات الإقليمية المستمرة في المنطقة. نحن كنيسة مجاهدة والحمدلله انها كذلك […] متى تخطئ الكنيسة؟ عندما تعيش الترف والبطر، ولكن عندما تكون مجاهدة فقيرة معذبة مضطهدة فهي كنيسة قليلة الأخطاء، تصبح كنيسة كثيرة الأخطاء إذا عاشت الترف.
ويسرد المتحدث أنه سمع مؤخرا خلال زيارة قام بها إلى بيروت بعض الكهنة يعبرون عن ضيق الحال الذي يمرون به بسبب ظروف العيش الصعبة على كافة الأصعدة في لبنان. ’’قلت لهم في حديث من القلب للقلب: إن الكهنة الفقراء هم كهنة يعيشون على شفير القداسة، فلا تخافوا من الفقر والعوز والاضطهاد، لأننا بها نصبح كنيسة شاهدة وقليلة الأخطاء‘‘.
غالبا ما يجهل المسيحيون حقيقة كهنتهم، هم يرونهم أيام الآحاد على المذبح، مُلتحفين رداء المجد، بيد أن حياتهم ليست كلها مجدا بمجد.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف، المصدر: Radio-Canada/Espaces Autochtones، راديو كندا الدولي، هيئة الإذاعة الكندية، الصحافة الكندية)