لكن الحقيقة في مكان آخر..!!

هشام الحمامي

أبو العتاهية، الشاعر العربي الحكيم (ت 628م)، له بيت شعر عميق ومليء بالدلالة ومتصل بفهم الدنيا وناس الدنيا؛ يقول: “أسرع في نقض أمر تمامه”، والمعنى واضح في أن حالة التشبع النهائية لشيء ما تكون عندها النقطة التي يبدأ منها نقصانه وهبوطه ثم اضمحلاله.

كل شيء في الدنيا يؤول إلى هذا المآل، ولا يستطيع مخلوق أن يهرب من هذا المآل ولو كان في برج مشيد حصين.. يقولون إن العقل هو حجة الله على البشر، وبه تُدرك الأشياء وتُعرف.. والعلم أحد أهم ثمرات هذا العقل الغامض في أسراره، كما قال لنا فيلسوف العلم، الفرنسي الشهير “رولان اومنيس”، في كتابه الذي أصدرته مترجما سلسلة “عالم المعرفة” الكويتية سنة 2008م.. وأضاف: هذا العقل قد يخدع نفسه كثيرا ويقع في الخطأ!

في الغرب الحضاري الآن تيار فلسفي وثقافي كبير يعرف بتيار “ما بعد الإنسانية”؛ فيلسوفه الأكبر وأكثر من كتب فيه عالم سويدي شاب اسمه نيك بوستروم (47 سنة).. والذي ينظّر للفكرة باعتبار كونها حلما إنسانيا قديما نشأ مع الأساطير السومرية (1700 ق.م.)، والتي وصفها بأنها كانت تطرح بقلق وضيق أسئلة عن الحياة والموت والخلود.. (يقصد أسطورة جلجامش الشهيرة والتي ستنتهي إلى حقيقة الضعف الإنساني والموت ثم التراب، وأن الخلود يكون بالعمل الصالح وأفكار الحكمة وعمارة الأرض.. لكنه لم يقل ذلك!)..

في الغرب الحضاري الآن تيار فلسفي وثقافي كبير يعرف بتيار “ما بعد الإنسانية”؛ فيلسوفه الأكبر وأكثر من كتب فيه عالم سويدي شاب اسمه نيك بوستروم (47 سنة).. والذي ينظّر للفكرة باعتبار كونها حلما إنسانيا قديما نشأ مع الأساطير السومرية (1700 ق.م.)، والتي وصفها بأنها كانت تطرح بقلق وضيق أسئلة عن الحياة والموت والخلود

كما تناولها أيضا مفكرو العصور الوسطى في أوروبا المسيحية مع هوجة الثورة العلمية على الكنيسة وبروز أفكار التنوير والرغبة في السيطرة على الطبيعة.. مرورا بفرانسيس بيكون ورواية “أطلنطس الجديدة” (1626م).. وإيمانويل كانط بأسئلته الشهيرة (1750م).. وطبعا فرضية التطور التي اقترحها دارون في “أصل الأنواع” (1859م)، وتبلور علم الوراثة والكيمياء الحيوية. ويضيف بوستروم مرحبا ومبشرا بالفكرة: لعلنا نأخذ بعض القدرات الحسية من الحيوانات مثل التوجيه المغناطيسي وحدة البصر وحاسة شم أكثر فعالية أو أجهزة الاستشعار للكهرباء والاهتزاز.. والمثير أيضا أنه يتحدث عن استحضار حالة “بهجة دائمة” تصاحب الإنسان.

ويضيف: “ما بعد الإنسانية” قد تسمح لنا بتجديد إرادتنا الذاتية وطباعنا الشخصية حتى تكون مهام مثل الإقلاع عن التدخين أسهل، مما سيساعدنا على تعديل شخصيتنا بطريقه أكثر سهولة بحيث تكون مطابقة لقيمنا وأخلاقنا.. أفكار ما بعد الإنسانية هي رغبة وسعي الإنسان لتجاوز ذاته.

* * *

لكن الإنسان يبقى إنسانا بل وتتجلى فيه عظمة كونه إنسانا وهو يسمو على نفسه، وهو يجاهد الخطأ، ونزعات الشر بداخله، وهو كفاح نبيل ويبعث على الرضى والثقة بل ويمنح السعادة (أمل البشر المنشود في كل الأزمان).

والأهم أنه يتجاوز ذاته بتحقيق إمكانيات جديدة داخل طبيعته الإنسانية التي يعيش بها في سلام ورضا وطمأنينة، بعيدا عن هذه التدخلات المريبة.

ثم أي بهجة تلك التي لا تتخللها بعض الأحزان حتى تعرف أنك تعيش أصلا في بهجة؟! وما قيمة التركيز على إطالة مدة الحياة بدلا من إعطاء هذه الحياة مادة ومعنى وغاية عليا..؟! وما قيمة التركيز على منحنا المزيد من الإدراك الحسي بدلا من الاستفادة بشكل أفضل من الحواس التي لدينا؟! ثم إن البشر يجتمعون معا على أساس التعاون المتبادل بينهم، وتغطية احتياجات ونقص بعضهم البعض، مما يضع قواعد وتنظيم وأسس للسلوك الاجتماعي بينهم.

ما قيمة التركيز على منحنا المزيد من الإدراك الحسي بدلا من الاستفادة بشكل أفضل من الحواس التي لدينا؟! ثم إن البشر يجتمعون معا على أساس التعاون المتبادل بينهم، وتغطية احتياجات ونقص بعضهم البعض، مما يضع قواعد وتنظيم وأسس للسلوك الاجتماعي بينهم

وبالفعل.. أخطر الناس هم الذين يظنوا أنهم لا يحتاجون إلى أحد.. ولعل الآية الكريمة في سورة العلق “كلا أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” تشير إلى ذلك بوضوح.. فالاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان، أي إنسان.

ويقول أصحاب المعرفة هنا أيضا إن من أهم ما يتميز به الإنسان هو “وعيه بضعفه”، ذلك الوعي الذي يشكل حدا فاصلا بينه وبين الآلة الميكانيكية، ذلك الوعي الذي هو ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري، فالبشر يتواصلون مع بعضهم لأنهم في الأصل يحتاجون لبعضهم، أما الحديث عن إنسانية “الاستغناء التام” الخالي من النقصان والعيوب فإنها ستكون إنسانية مغلقة على نفسها، وعندها لا يعود من معنى للكلام عن الإنسان أصلا.

* * *

سنقرأ أيضا في سورة الرحمن “والسماء رفعها ووضع الْمِيزان، أَلا تطغوا فِي الميزانِ، وأَقِيموا الوزن بِالْقسط ولا تٌخسِروا الْمِيزان”.. التحذير من طغيان وخسران الميزان كما ورد في الآيات واضح وصارم، خاصة إذا تحدثنا عن التدخل والتلاعب بقدرات وإمكانات البشر، وبالأخص في مجال “الجينات البشرية” والتي قد تكون خطوة هائلة إلى المجهول، ويمكن أن تؤدي الأخطاء فيها إلى كوارث مرعبة.. يكفي ما نراه من كوارث طغيان الميزان في البيئة التي تحيط بحياة البشر.

عمنا هابرماس (91 سنة) آخر الفلاسفة الكبار في أوروبا وصاحب نظرية مجتمعات “ما بعد العلمانية”؛ قدم كثيرا من الانتقادات لهذه التدخلات، فهو يعترض تماما على إضفاء الطابع الآلي على البشر، ويرفض تماما فكرة فرض رأي شخصي حول الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الوضع الأمثل للبشر وما يترتب على ذلك من انتهاك للاستقلال الذاتي.

التحذير من طغيان وخسران الميزان كما ورد في الآيات واضح وصارم، خاصة إذا تحدثنا عن التدخل والتلاعب بقدرات وإمكانات البشر، وبالأخص في مجال “الجينات البشرية” والتي قد تكون خطوة هائلة إلى المجهول، ويمكن أن تؤدي الأخطاء فيها إلى كوارث مرعبة

أفكار هابرماس حول انتهاك “الاستقلال الذاتي” وإضفاء الصفة الآلية والتلاعب بـ”الإرادة الحرة” للبشر بها قدر كبير من الحضور الديني والإنساني الراقي.

* * *

أغلبنا قرأ روايات تتناول هذه الأفكار، والحقيقة أنها كانت مستقيمة في عرضها للموضوع مثل “دكتور جيكل ومستر هايد” للروائى الكبير روبرت ستيفنسون (1886م) والتي رأينا فيها عدم قدرة العلم على التحكم في جرعات الدواء الذي يتحكم في كون الإنسان صالحا أم شريرا! ودخوله في باب لم يستطع الخروج منه.

ورواية “عالم جديد شجاع” لألدوس لهيكسلى (1931م) الذي تنبأ برؤية مظلمة لمستقبل “الإرادة الحرة” للإنسان والدافع البشري، والحرية التي ستحاصرها التكنولوجيا والممارسات القمعية والانغماس في الجنس والمخدرات.

ورواية “1984” لجورج أورويل (1948م) التي قدمت حالة مخيفة عن إمكانية إساءة استخدام العلم والتكنولوجيا في استعباد الجماهير، وهو ما حدث.

* * *

اللاهثون خلف هذه الأفكار متابعة ودعما كلهم من أصحاب الشركات الرأسمالية الشرسة، ويسيطر عليهم حلم أسود كابوسي النزعة سادي التأثير؛ يحلمون فيه بسيادة العالم وتوجيهه الوجهة التي يريدونها، وذلك باقتحام مجال لم يسبق اقتحامه وهو “الجسد البشرى”

عدد من أصحاب أفكار “ما بعد الإنسانية” يقولون لنا: خطأ أن نختزل نظرية ما بعد الإنسانية في فكرة العيش إلى الأبد (الخلود)، ويرون أن هذا غير صحيح بل وغير مطلوب، فأقصى عذاب للإنسان أن يعيش للأبد داخل الزمن!! ما نريده هو الاهتمام بزيادة العمر وتحسين القدرات الإنسانية من خلال تطوير التقنيات التي لها القدرة على فعل ذلك، في إطار مجموعة من الأفكار الإنسانية والمعرفية والأخلاقية والسياسية وأخلاقيات التدخل البيولوجي. وهذا كلام جيد ومحكوم بضوابط واضحة، فهو يضع حدا فاصلا لإيقاف طغيان العلم بطغيان الإنسان به وبتطبيقاته.

اللاهثون خلف هذه الأفكار متابعة ودعما كلهم من أصحاب الشركات الرأسمالية الشرسة، ويسيطر عليهم حلم أسود كابوسي النزعة سادي التأثير؛ يحلمون فيه بسيادة العالم وتوجيهه الوجهة التي يريدونها، وذلك باقتحام مجال لم يسبق اقتحامه وهو “الجسد البشرى”، ومعهم أيضا في ذلك عدد من المفكرين والفلاسفة ويلتقون في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس؛ يمولون ويشرفون ويُنظِرون لمشروع تحول الإنسان من “الإنسان العاقل” إلى “ما بعد الإنسان”، حيث “الانتصار على الشيخوخة وزيادة الذكاء وتغيير الشخصية وإلغاء المعاناة وفي النهاية ينتصر على الموت..”.. لكن هذا مخالف للحقيقة.

والحقيقة.. هي أن “الحقيقة” في مكان آخر تماما، ليست بين أيديهم ولن تكون، لسبب بسيط هو أن الحياة والموت يستحيل وجود أحدهما في غياب الآخر.

 

اترك تعليقاً