You are currently viewing القيادة السياسية والوعي بالهوية والتاريخ.. رجب طيب أردوغان نموذجا

القيادة السياسية والوعي بالهوية والتاريخ.. رجب طيب أردوغان نموذجا

سليمان صالح

الرئيس التركي أردوغان يلقي خطابًا بالجلسة الافتتاحية لقمة الشراكة التركية الأفريقية الثالثة بإسطنبول (وكالات)

يبدأ الشخص رحلته نحو القيادة عندما يتخذ بوعي قرارا بأن يكافح لتحقيق أهداف عظيمة مثل العدل والحرية، ويضحي من أجل مبادئه وقيمه.

لذلك فإن هناك علاقة قوية بين القيادة والسياسة، فالقائد يعمل للتأثير على شعبه لتحقيق التغيير، والكفاح ضد الوضع الراهن.

والسياسي يحتاج إلى هدف عظيم يكافح لتحقيقه، وهو يغير حياته من أجل هذا الهدف، لكن كيف يمكن أن يتوصل القائد السياسي إلى صياغة هدف يستحق أن يضحي من أجله بحياته وكيف يمكن أن نتوصل إلى مقاييس لتقييم حياة السياسيين، وقدراتهم على قيادة شعوبهم، والتعبير عن آمال هذه الشعوب وطموحاتها؟

كيف تكتشف نفسك؟

لكي يؤهل الإنسان نفسه للقيادة والسياسة لابد أن يكتشف نفسه أولا، لكن هذا الأمر ليس سهلا، فهو يحتاج لرحلة كفاح يقوم فيها بالكثير من الأنشطة الثقافية والسياسية، ويتحمل المسؤولية، ويتمكن من التعبير عن أشواقه لتحقيق العدل، ولاكتشاف هويته وانتمائه والمبادئ التي تستحق الحياة من أجلها، إنه باختصار يحتاج إلى عقل وقلب ومبادئ وهوية وتاريخ.

التزام بالمسؤولية

إن الوعي بالذات يزيد القدرة على تحمل المسؤولية، ويجعل السياسي يلتزم بخدمة الآخرين، ويكافح لبناء نظام عادل كقضية سياسية، لذلك يدخل عالم السياسة بالتزام حقيقي بالمسؤولية، وهذا الالتزام ينبع من داخل نفس الإنسان وضميره، ويرتبط بالعقيدة والهوية والثقافة.

في ضوء ذلك، يمكن أن نقيم صلاحية السياسي للقيادة، ونطور قدرات السياسيين ونؤهلهم ليصبحوا قادة لشعوبهم.

أردوغان قائد سياسي.. لماذا؟

حين كنت أعمل على تطوير علم القيادة السياسية وجدت كتابا للباحث التركي والأستاذ المشارك يالشين أكدوجان عنوانه “القيادة السياسية وأردوغان ” الذي نشره عام 2018، يقول فيه: إن أردوغان وهب نفسه لتحقيق هدف شعر أنه يستطيع أن يقوم به، لذلك انطلق من واجب أخلاقي انبثق من ضميره. وشعر أردوغان بمسؤوليته كعضو في مجتمع، وهذا الشعور جعله يلتزم أخلاقيا بهذه المسؤولية.

هذا يعني أن أردوغان يشكل نموذجا مهما في العصر الحديث للقيادة السياسية المرتبطة بالأخلاق، ولذلك يمكن أن تساهم دراسة سيرة حياته في تطوير نظريات جديدة للقيادة السياسية.

الهوية وقيادة التغيير

لذلك تتبع الباحث التركي حياة أردوغان منذ أن كان طالبا، فاكتشف أنه عمل لتطوير نفسه عن طريق المشاركة في مناقشات نظرية لاكتشاف هويته، وساهم هذا الاكتشاف في تشكيل حلمه بتغيير الواقع، وأن يصبح قائدا للتغيير. وتوضح ملاحظة أكدوجان أهمية الربط بين جهود القائد لاكتشاف هويته وقيادة التغيير. فلقد بدأت تجربة أردوغان منذ أن كان طالبا في مدرسة “إمام خطيب” التي ساهمت في تشكيل شخصيته ووعيه بهويته.

نقطة الانطلاق نحو قيادة المجتمع أن يغير الإنسان نفسه أولا، حيث يقول أكدوجان إن الفرد الذي لا يستطيع أن يصحح سلوكه، أو يتحكم في نفسه، لا يستطيع أن يلهم الآخرين أو أن يقود شعبه لتحقيق التغيير.

هدف التعليم إعداد القادة

يتضح من ذلك صحة ما ناديت به خلال عشرات السنين التي عملت فيها بالجامعات العربية، فالتعليم يجب أن يتم طبقا لفلسفة تقوم على إعداد الخريجين ليصبحوا قادة وعلماء وخطباء وأدباء، وليس بهدف إعدادهم ليكونوا موظفين.

وقد أوضحت في رسالتي للماجستير أن الذي حدد هدف التعليم وحصره في تخريج موظفين للحكومة هو مستر دنلوب (المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف المصرية بداية القرن العشرين) لأنه أراد إضعاف مصر، وإخضاعها بشكل دائم للاحتلال الإنجليزي، لذلك أراد أن يقتصر التعليم على تطوير مهارات الفرد التي تؤهله ليصبح موظفا يتقاضى راتبا يكفيه ذل السؤال، لكنه لا يطمح ليكون قائدا، ولا يمتلك القدرات ليصبح عالما، أو ليقود كفاح شعبه من أجل تحقيق الاستقلال الشامل.

التعليم وتشكيل الحلم

لذلك جاءت الملاحظة الذكية للباحث التركي أكدوجان لتوضح ضرورة الربط بين أهداف التعليم وتأهيل القادة، فالتعليم يجب أن يساهم في اكتشاف الإنسان لهويته وبناء حلمه وتحديد أهدافه وتأهيل نفسه للقيادة.

كيف يغيّر نفسه أولا؟

نقطة الانطلاق نحو قيادة المجتمع أن يغير الإنسان نفسه أولا، حيث يقول أكدوجان إن الفرد الذي لا يستطيع أن يصحح سلوكه، أو يتحكم في نفسه، لا يستطيع أن يلهم الآخرين، أو أن يقود شعبه لتحقيق التغيير.

ويضيف الأستاذ المشارك أن أردوغان منذ شبابه كان يعمل لقيادة الحياة داخل حدود أخلاقية، وأن يتحكم في نفسه، ويبرهن أكدوجان على أهمية التحكم في النفس، والتزامها بالأخلاق بآية في سورة الشمس {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ﴿10﴾.

فالعمل لتزكية النفس نقطة انطلاق الإنسان نحو النجاح والفلاح، أما فساد النفس وعدم الالتزام بالأخلاق فهو سبب الخيبة التي تعني الفشل وإحباط العمل وعدم القدرة على تحقيق الأهداف. ومن الواضح أن أردوغان كافح لتزكية نفسه لكي يعدها للقيادة، وساهم التعليم الذي حصل عليه في مدرسة “إمام خطيب” في هذا الإعداد.

علّم نفسك أولا

يقول أكدوجان “إن القائد يجب أن يعلم نفسه أولا قبل أن يعلم الآخرين، كما أن القائد السياسي يجب أن يلتزم بالمبادئ التي يدعو الآخرين لتطبيقها، فسلوك القائد وكفاحه للالتزام بمبادئه وأخلاقه يلهم الآخرين، وكل عمل يقوم به القائد السياسي يجب أن يكون تطبيقا لما يؤمن به”.

دراسة سيرة الطيب أردوغان تبرهن على صحة تلك النتيجة، فبعد أن تعلم أردوغان، وشارك في المناقشات، قرر أن يدخل المجال العام ليقود التغيير بالمبادئ والقيم التي اقتنع بها، وأدى ذلك إلى زيادة قدرته على بناء تجربة ديمقراطية متميزة، وتحقيق التقدم الاقتصادي، كما أدى التزامه بالمبادئ التي يؤمن بها إلى زيادة مصداقيته وثقة شعبه فيه. هذه التجربة توضح أن القرار بدخول مجال السياسة يكون بهدف تطبيق المبادئ والقيم في الواقع، وقيادة الشعب لتحقيق أهداف عظيمة.

الإصلاح السياسي بداية

عملية التغيير تبدأ بالعمل لتحقيق الإصلاح السياسي لبناء واقع أفضل، وليفتح المجال للشعب لاختيار المشروع الحضاري الذي يبني على أساسه مستقبله، وفرض إرادته الحرة، ويشكل ذلك أهم إنجازات القيادة السياسية، وتجربة أردوغان توضح ذلك، وتبرهن على صحة تلك النتيجة.

يرى أكدوجان أن أهم الأهداف التي عمل أردوغان لتحقيقها هي مقاومة الظلم وتحقيق العدل، واحترام حقوق الإنسان، ومقاومة العنصرية، وأدى ذلك إلى زيادة احترام الجميع لدوره وكفاحه.

يوضح ذلك أهمية دراسة نموذج أردوغان لتطوير علم القيادة السياسية، فاحترام الشعب للقائد السياسي يقوم على الثقة فيه، وفي مصداقيته لتطبيق المبادئ التي يطالب هو الآخرين بالالتزام بها. وهذا يمكن أن يساهم في تفسير التضحيات التي قدمها الشعب التركي في مواجهة انقلاب عام 2016، ووقوفه في مواجهة الدبابات.

ساهم عمل أردوغان في الحركة الطلابية وانتماؤه للحركة الإسلامية في زيادة قدرته على استخدام الكلمات القوية في خطابه السياسي، وهذه الكلمات أثارت خيال الشباب التركي، فلقد ظل أردوغان قريبا من الشباب، حيث اعتبرهم القوة الدافعة وجمهوره المستهدف.

رجل دولة وقائد للشباب

يوضح تاريخ الطيب أردوغان كفاحه للمحافظة على دولته ومؤسساتها، والعمل على زيادة قوتها، وهذا يوضح أن القائد السياسي رجل دولة يعمل لتحقيق مصالحها، وحماية أمنها القومي، وبناء مكانتها الدولية.

كما تميز أردوغان كقائد سياسي بقدرته على تحفيز الشباب التركي للعمل والابتكار والإبداع خاصة في مجال الصناعة، وهذا يشكل مصدر قوة القائد السياسي، ومن الواضح أنه طور هذه القدرة من خلال كفاحه في الجامعة، ومشاركته في العمل الطلابي.

رجل قضية لا يتوقف عن العمل

من أهم مميزات أردوغان أنه -كما يقول أكدوجان- رجل قضية يعبر عنها كشاعر، فهو يستخدم الكلمات التي تعبر بوضوح عن مبادئه، وتحقق أهدافه، وتؤكد على قوته، وتساهم في كسب العقول والقلوب. كما أنه يستخدم الكلمات لتعبئة الشباب التركي لتحقيق أهداف عظيمة، ويرى الباحث أنه يستخدم الكلمات المعبرة عن المعاني التي تستحق الحياة من أجلها.

أثار خيال الشباب

ساهم عمل أردوغان في الحركة الطلابية وانتماؤه للحركة الإسلامية في زيادة قدرته على استخدام الكلمات القوية في خطابه السياسي، وهذه الكلمات أثارت خيال الشباب التركي، فلقد ظل أردوغان قريبا من الشباب، حيث اعتبرهم القوة الدافعة، وجمهوره المستهدف.

ولأن الشباب هم الأكثر قدرة على تحقيق التغيير، فقد كان أردوغان هو القائد الذي دفع الشباب التركي ليطلق لخياله العنان لتحقيق الحلم العظيم: تركيا القوية الديمقراطية المتقدمة ذات المكانة العالمية والتي ترتبط بتاريخها وهويتها.

التجربة توضح أهمية الجامعات والمدارس

من الواضح أن أكدوجان كان يبحث عن مصادر القوة السياسية، ومن أهمها القدرة على مخاطبة الشباب، وتحفيزهم وتعبئتهم وتحويلهم إلى قوة للمجتمع والعمل الطلابي يمكن -كما توضح تجربة أردوغان- أن يساهم في زيادة فهم القائد لطموحات الشباب وآمالهم، وهذا يؤهله لتحقيق أهداف عظيمة، واستثمار طاقتهم لتحقيق تقدم الدولة.

إن القائد الذي انطلق من العمل الطلابي في المدارس والجامعات هو الذي يستطيع أن يكون أكثر قربا من الشباب، وأن يكسب عقولهم وقلوبهم. لذلك كنت أدعو من عشرات السنين لإطلاق الحرية للاتحادات والأسر الطلابية لأنها تساهم في اعداد قادة المستقبل.

القيادة السياسية وقوة الخطاب

إن القدرة على مخاطبة الشباب أدت -كما يقول الأستاذ المشارك- إلى زيادة قدرة أردوغان على بناء خطاب سياسي يجذب الجماهير بشكل عام ويؤثر فيها، وبذلك أصبح الخطاب السياسي لأردوغان مصدر قوة لدولته ولشعبه، فهو يمتلك القدرة على مخاطبة الجماهير من منظور جديد.

لذلك يرى الأستاذ المشارك أن أردوغان يمتلك شخصية كاريزمية أهلته ليكون قائدا سياسيا يستطيع أن يعبر عن شعبه، وأن يصبح خطابه مصدر قوة لتركيا وشعبها.

عقلية ديمقراطية

يشير الباحث التركي إلى أن أردوغان عقلية ديمقراطية ومنظم للمجتمع، وقائد يمتلك الكثير من الإنجازات على المستوى الاقتصادي والسياسي، وكان من أهم تلك الإنجازات تطبيع العلاقات بين الجيش والمجتمع، وتطوير النموذج الديمقراطي التركي، وبناء اقتصاد قوي.

في ضوء ذلك، يتضح أن القيادة السياسية يمكن أن تكون مصدر قوة للدولة عندما تمتلك القدرة على التعبير عن آمال الشعب وحلمه، ويكافح لبناء المكانة العالمية لدولته.

وكل دولة تحتاج إلى قيادة سياسية تكافح من أجل بناء نموذج ديمقراطي يعيش فيه الشعب بكرامة ليبدع ويبتكر ويبني المستقبل، لذلك يستحق نموذج أردوغان دراسة أكثر عمقا لتطوير نظرية جديدة للقيادة السياسية.

اترك تعليقاً