لكنهم اخترعوها بالفعل..!

هشام الحمامي

الرئيس الأمريكي جو بايدن صرح خلال لقائه الرئيس الإسرائيلي الأربعاء الماضي (26 تشرين الأول/ أكتوبر) بأنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراعها.. وأوضح أن كلمة “علينا” مقصود بها الحضارة الغربية التي يمثل الرئيس الأمريكي فيها الرمز والأيقونة والدال والمدلول في وقت واحد، وقال إن ذلك يرجع إلى القيم والدوافع والمبادئ المشتركة بينهما، وإلى العلاقة البنيوية بين المسيحية الإنجيلية الأصولية وقيام إسرائيل.. على نحو ما سنفهمه في آخر المقال.

والمؤكد أن الرئيس الأمريكي لم يهبط على سقف البيت الأبيض ذات مساء خريفي غائم؛ فوجد نفسه يتعامل مع واقع استراتيجي غامض تتحرك فيه الأطراف الدولية بما يعنّ لها وبما يفاجئها من أحداث.

طلاب التاريخ والسياسة في الجامعات بل والمدارس الثانوية يعلمون أنه من بدايات القرن الماضي والحضارة الغربية تبحث عن كل السبل التي تمنع قيام دولة عربية متحدة تشمل كل جغرافيا الشرق، كما كان الواقع الحضاري والتاريخي للمنطقة من بداية الحركة بالإسلام في ربوع الدنيا منذ القرن الخامس الميلادي. إن هذه المنطقة هي الأخطر في العالم الأرضي كله، وإنها لمهد الديانات السماوية والحضارات، وإنها تتحكم في مواصلات واتصالات البشرية عبر البسيطة، كما وأنها مليئة بالثروات والغنى المادي والطبيعي.

هذه المنطقة يجمعها دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد وآمال واحدة، وليس هناك أي حاجز طبيعي يعزل الناس عن بعضهم، ولو حدث واتحدت هذه الأمة في يوم من الأيام لتحكمت في مصير العالم ولعزلت أوروبا عنه. وهو ما يتحتم معه “زرع جسم غريب” في قلب هذه الأمة، يكون عازلا من التقاء جناحيها، ويشتت قواها في حروب مستمرة، ورأس جسر ينفذ إليه الغرب لتحقيق مطامحه

إن هذه المنطقة يجمعها دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد وآمال واحدة، وليس هناك أي حاجز طبيعي يعزل الناس عن بعضهم، ولو حدث واتحدت هذه الأمة في يوم من الأيام لتحكمت في مصير العالم ولعزلت أوروبا عنه. وهو ما يتحتم معه “زرع جسم غريب” في قلب هذه الأمة، يكون عازلا من التقاء جناحيها، ويشتت قواها في حروب مستمرة، ورأس جسر ينفذ إليه الغرب لتحقيق مطامحه.. هذا ما قاله رئيس الوزراء البريطاني كامبل بانرمان (ت: 1908) سنة 1902م، كما ذكر المفكر البحريني الكبير د. محمد جابر الأنصاري (83 عاما) حفظه الله، في كتابه المهم “تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930- 1970م” (عالم المعرفة العدد 35، تشرين الثاني/ نوفمبر 1980م).

* * *

وبالفعل وفي العام 1905 م سيدعو حزب المحافظين البريطاني (الذي يحكم الآن وانتخب ريشي سوناك من أيام!) الدول الاستعمارية الكبرى في العالم (بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا) إلى مؤتمر في لندن برعاية رئيس الوزراء البريطاني.

إن ذلك من جانب بريطانيا إيذان ببدء مرحلة تغيرات سياسية مهمة، وإنها ستتخلى بذلك عن عزلتها الكبيرة، ذلك أنها قبل ذلك كانت قوة عالمية عظمى بلا حلفاء، غير أن الظروف السياسية الأوروبية في نهاية عام 1890م أجبرت بريطانيا على الدخول في تحالف مع فرنسا أولا، ثم مع روسيا.. ودخولها في نظام تحالف وتفاهم مع الأقوياء الأقربين ضد الضعفاء الأبعدين.

* * *

هذا المؤتمر استمر يتداول ويتناقش عامين كاملين حتى عام 1907م، وقال كامبل في افتتاحية المؤتمر: إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى، ثم تستقر إلى حد ما، ثم تنحل رويداً رويداً، ثم تزول. والتاريخ مليء بمثل هذه التطورات وهو لا يتغير.. فهل لديكم وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره أو تؤخر مصيره؟

إن المؤتمر سيخرج بتوصيات بالغة الأهمية عرفت تاريخيا باسم “وثيقة كامبل”، وإن هذه الوثيقة ستختفي تماما ومعها سيخفت أيضا اسم كامبل في التاريخ الحديث، رغم أن هذه الوثيقة ووفقا لما نعيشه في حاضرنا الحالي أو نعرفه من تاريخنا القريب أو مما صرح به بايدن الأسبوع الماضي بعد 125 سنة مما قاله كامبل؛ تعد “إنجيل الحضارة الغربية”..

يذكر أن الأستاذ هيكل (ت: 2016م) أورد هذه الوثيقة في كتابه الشهير “المفاوضات السرية وإسرائيل” بعنوان “وصية بنرمان”..

لم يكتف الغرب باختراع إسرائيل، ولكنه اخترع إلى جوارها أنظمة حاكمة تمنع أي تطور وتقدم حقيقي في المنطقة الأوفر حظا في العالم كله، وتلبي تحديات التنمية والبناء وتواجه الخطر الصهيوني المشار إليه.. وهو ما عاشته وتعيشه المنطقة في القرن الجديد

كان كامبل رجلا مثقفا واسع العقل والمعرفة، وواحدا من كبار من أسسوا لمفهوم الإمبراطورية والاستراتيجية المفتوحة للاستعمار البريطاني. ومثل أي رجل دولة جاد، وحقيقي كان شديد الاهتمام بدراسة فلسفة التاريخ وكان معنياً بأن تبقي بريطانيا على إمبراطورتيها أطول فترة ممكنة.

وستتأكد من قوته المعرفية كرجل دولة وسياسي عتيد حين تعلم أنه دعا إلى هذا المؤتمر كبار الفلاسفة والمؤرخين وعلماء الاستشراق والاجتماع والجغرافيا والاقتصاد، إضافة إلى خبراء في شؤون النفط والزراعة.

* * *

لم يكتف الغرب باختراع إسرائيل، ولكنه اخترع إلى جوارها أنظمة حاكمة تمنع أي تطور وتقدم حقيقي في المنطقة الأوفر حظا في العالم كله، وتلبي تحديات التنمية والبناء وتواجه الخطر الصهيوني المشار إليه.. وهو ما عاشته وتعيشه المنطقة في القرن الجديد.. خواء شامل، فقر عميم، انحدار ثقافي وأخلاقي مريع.

وهذا شكل الأرضية الفعلية لقيام دولة الرعب والتسلط التي سدت منافذ التطور الديمقراطي والانفتاح الواسع على التنمية والتقدم.. وهو ما يحقق للغرب هدفيه في آن: الحفاظ على قوة “حارس المصالح”.. وتعميق الضعف والتردي في الشرق اللدود.. وكما نرى.. فالاثنان يدوران معا في دائرة بالغة الخبث.

وهو ما أشار إليه د. الأنصاري في المصدر السابق قائلا: “هناك جدل دقيق وحساس (لاحظ الوصف القلق المهذب من د. الأنصاري) في الفكر السياسي العربي حول ما إذا كانت الثورات العسكرية قامت لتجهض الثورات العربية الشعبية التي كانت في طور الاختمار.. وذلك بإيحاء من قوى دولية استطاعت التفاهم مع العسكريين وتوجيههم”.

* * *

الأسطورة تقوم على وحدة الانتماء العرقي لليهود، وهذا غير صحيح، وتتعامل مع التوراة بوصفها نصا تاريخيا وهذا غير صحيح، والصحيح أنها نص مرجعي ديني.. هكذا تحدث شلومو!

تعبير “اختراع” الذي ذكره بايدن كان قد سبقه إليه د. شلومو ساند، وهو الذي نحته في الأدبيات الفكرية والاستراتيجية المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي.. د. شلومو (76 سنة) أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب وهو بولندي الأصل، هاجر إلى إسرائيل عام 1948م، وأكمل دراساته الأكاديمية من فرنسا وحصل على الماجستير في التاريخ الفرنسي والدكتوراه عن الماركسية.

وله ثلاثية هامة “اختراع الشعب اليهودي” و”اختراع أرض إسرائيل” و”كيف لم أعد يهوديا”. وكلها مترجمة إلى العربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.

في الكتاب الأول (اختراع الشعب اليهودي) سيقوم شلومو بتفكيك أسطورة بدأ نسجها منذ منتصف القرن الـ19 على يد الحركة الصهيونية، وهي أن الشعب اليهودي هامَ على وجهه في بقاع الأرض لمدة ألفي عام ليعود إلى وطنه التاريخي في فلسطين. الأسطورة تقوم على وحدة الانتماء العرقي لليهود، وهذا غير صحيح، وتتعامل مع التوراة بوصفها نصا تاريخيا وهذا غير صحيح، والصحيح أنها نص مرجعي ديني.. هكذا تحدث شلومو!

* * *

سنعرف أن الحركة البيوراتانية/ الطُهرانية (حركة انبثقت عن البروتستانتية في بريطانيا خلال القرنين 16 و17 الميلادي ومن أوائل المهاجرين إلى أمريكا) هي أول من قرأت التوراة باعتبارها كتابا تاريخيا، ذلك أن أتباع الحركة بطبيعتهم كانوا متعطشين إلى الخلاص ومن زاوية دينية صرفة، لأنهم عانوا من الاضطهاد الديني في أوروبا معاناة هائلة، فقاموا بربط خلاصهم النفسي والديني بنهضة شعب إسرائيل في أرضه..

هذه الرابطة لم تكن ناتجة عن حرصٍ زائد على اليهود (الذين أذاقتهم أوروبا الويلات في ذلك الزمن)، وإنما اعتقاداً منهم بأن الخلاص المسيحي لن يتم إلا بعد عودة اليهود إلى صهيون

هذه الرابطة لم تكن ناتجة عن حرصٍ زائد على اليهود (الذين أذاقتهم أوروبا الويلات في ذلك الزمن)، وإنما اعتقاداً منهم بأن الخلاص المسيحي لن يتم إلا بعد عودة اليهود إلى صهيون.

من الذي قام بهذا الربط الخبيث؟ لا تذكر المصادر التاريخية الكثير حول ذلك، لكن ما سيكون حاضرا بقوة في الوعي التاريخي هو كراهية أوروبا الشديدة لليهود، وهو ما سيتم “توظيفه” لما هو أهم في الوعي الاستعماري الغربي بالشرق الإسلامي، كما ذكرت وثيقة كامبل من بدايات القرن العشرين.. وسيتم جمع هذا الجمع المزعج هناك بعيدا في مكان واحد، وسيتم ترويج هذا كله ضمن رؤي دينية وتاريخية تبعث على الهيبة والجلال والاحترام والتعاطف وسيتم وضع ذلك كله في إطار من العظمة الغربية الباهرة.. وهكذا تسير الأمور دائما:

وحين تكشف الغطاء عن الإناء ستخرج كل الروائح العفنة وتملأ من حولك كل المكان.. إذ ليس هناك ثمة شعب هائم يعود.. وليس هناك إلهام ديني يقول ويحض.. وليس هناك ثمة ثمة على الإطلاق! هناك فقط الثروات والمصالح الكبرى والقوة والنفوذ والسيطرة على الشعوب ومنعها من العيش الهانئ السعيد.

شكرا للرئيس بايدن أن ذكرنا بحقيقتين هما بالأساس وببساطة شديدة للغاية السبب في كل ما يراه الشرق الأوسط من اهتزاز وتردٍّ طوال القرنين الماضيين.. الحقيقة الأولى معنى إسرائيل.. والحقيقة الثانية معنى النظام السياسي العربي!

اترك تعليقاً