You are currently viewing الأستاذ هيكل.. والأنانية الشامخة

الأستاذ هيكل.. والأنانية الشامخة

هشام الحمامي

 

وصفت التايمز هيكل بأنه كان “صوت سيده”

احتفل معرض الكتاب الدولي بالقاهرة في دورته الـ54 يوم الخميس الماضي بمئوية ميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل، المولود في 23 أيلول/ سبتمبر 1923م. والأستاذ هيكل بلا منازع هو أحد أهم الصحفيين المصريين الذين ظهروا في القرن العشرين وقد عاش حياة واسعة.. بل بالغة الاتساع طولا وعرضا ليس بمقاييس الزمن فقط (توفي عن 93 سنة)، بل بكل المقاييس التي يمكن أن يقاس بها (المجد والمكانة)؛ حياة لم يعش حتى مثلها من أجمع الناس على أنه فعليا وحرفيا “ملأ الدنيا وشغل الناس”، وكان يعزف “نغمات كلماته” للملوك والقادة بكل ما يريدون سماعه من أسماع تبقيهم على صفحة الزمن طويلا.. إذا كان هناك من يهتم بصفحات الزمن وما على صفحات الزمن أو أن هناك من يبقى طويلا.. وأقصد بالطبع أبو الطيب المتنبي (ت: 965م).

وقد اجتمع الاثنان فيما يمكن تسميته بـ”الأنانية الشامخة” التي لا قلب لها ولا إحساس فيها.. كلاهما كان يؤمن أشد الإيمان بأنه من طينة رفيعة غير الطينة التي خلق منها العامة من الناس وليعاذ بالله.. إنجازاتهما كلها دفعها حب الأنا.. وليس الصراع من أجل الحق.

ولسان الحال ينطق دائما:

وسعت دنياي ولم تسعني     أزيد عنها وتضيق عني

وإذا كانت الدنيا بالفعل قد ضاقت عن المتنبي الذي أنهى حياته مطاردا من خصومه حتى مات قتيلا في الصحراء.. إلا أنها لم تضق على الأستاذ هيكل الذي عاش فيها “حياة رائعة” كما قال هو واصفا حياته رحمه الله.

* * *

الدكتور سيار الجميل، أستاذ التاريخ في جامعة الموصل والحاصل على الدكتوراة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط من جامعة سانت أندروز البريطانية العريقة عام 1982، والذي يعمل الآن أستاذ باحثا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة.. كتب عام 1999 كتابا هاما عنوانه “تفكيك هيكل” سيتبعه بكتاب آخر “بقايا هيكل” عام 2008م؛ يناقش ويفند كل ما يعتمد عليه أ. هيكل في وثائقه ومستنداته وبعض مقالاته وتصريحاته.

يقول د. سيار: “هيكل بارع في اللف والدوران.. يستطيع أن يجعل من اللون الأبيض أسود ومن الأسود أبيض.. لكنه يفر من الميدان حين يرى أن هناك من سيجادله أو يعلّمه أسلوب الكشف عن الحقيقة”. ويضيف: “هيكل يلعب دورا خطيرا عندما يتلقف الناس كتبه أو يجلسون للاستماع إلى حكاياه.. من دون أن ينبههم أحد إلى طبيعة ما يكتبه أو ما يقول”..

* * *

كان للأستاذ هيكل دور كبير ومشاركة عريضة في كل حروب مصر الحديثة، لن نتحدث عن 1948 او 1956 إذ أنه لم يكن وقتها في بؤرة الأحداث، فقط كان صحفيا يقترب من الحدث في بؤبؤ عينه كما يقال.. يشاهد ويسمع ويكتب.

لكن الأمر اختلف كثيرا في 1967 و1973، لقد كان الرجل في بؤرة البؤرة نفسها، فغير مشاركاته الفعلية في شأن الحربين إلى جوار رئيسي البلاد وقتها، فهو نفسه كتب وقال، وكانت كتاباته قبلها وأثناءها وبعدها مما شغل الناس كثيرا.. نخبة الناس وعامة الناس.

يكفي أن نشير هنا إلى ما كتبه بعد الهزيمة مباشرة في الأهرام يوم 16 حزيران/ يونيو 1967م بعنوان “أقصى درجات العنف”.

وقال: “ماذا حدث تماماً؟ وما هو معنى العاصفة العاتية التي هبت على العالم العربي ابتداء من اليوم الخامس من حزيران/ يونيو 1967 ثم توقفت في اليوم العاشر من هذا الشهر بعد أن تركت أجزاءً عديدة من وطن الأمة العربية حطاماً وركاماً وأشلاءً كثيرة؟ كيف؟.. ولماذا؟ وإلى أين بعد الآن؟

نقول وبالحق إن ما رأيناه خلال هذه الأيام الخمسة الرهيبة هو أقصى درجات العنف في الصدام الذي احتدم بين الأمة العربية وبين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح التي تمثلها وسياسات السيطرة والقوة التي تمارسها.. هذا هو الموضوع نفسه وأي شيء غيره ظواهر عارضة تعبر عن الشكل الخارجي للحوادث ولا تعبر عن صلب الحقيقة فيه..”.

الأستاذ هيكل هنا وفي أخطر حدث تاريخي مر بالأمة المصرية والعالم العربي كله في النصف الثاني من القرن العشرين.. لا يقول صدقا.. لم يكن هناك غزو لسوريا ولا غيره.. فقط كان هناك على رأس الجيش “قائد عسكري بوهيمي” كما قال عنه. وتفاصيل قصة الصراع الشخصي بين الزعيم والمشير التي أدت إلى كارثة “أم الهزائم”؛ كثيرة ومعروفة وتحدث عنها الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ المعروف (58 سنة)، في عدة حلقات على قناته الخاصة بعنوان “الهزيمة المستمرة”.. ليس في الموضوع أمريكا ولا الإمبريالية العالمية ولا حتى خيال لظلهما في صنع تلك المأساة المخزية.. لكن لا بد للحديث عن الموضوعات التافهة بلغة عميقة كما يقولون كي تكتمل الحيلة.

* * *
ليس هذا موضوعنا على أي حال، فالحاصل أن أ. هيكل هنا كان يبحث عن “مجده الشخصي” إلى جوار الحاكم لا “مجد الوطن”.. فأطال أحابيل الكذب حول حقائق تلك الكارثة، وتغيير لأدوار الأبطال والأوغاد، بغرض حماية “الزعيم” من أي اتهام، وحين نصحه بالخروج الى الناس يستأذنهم في التنحي كتب له سطرا بالغ المخاتلة قال فيه: “وأقول لكم بصدق، وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً..”.

وصدق د. خالد فهمى حين وصف هذه الكلمات بأنها أخطر ما كتبه هيكل طوال تاريخه كله!!.. لأنها بالفعل أحدثت أثرها المطلوب تماما وبدقة بالغة في حماية الزعيم من انقلاب المشير ورجاله، إذ تم إحضار أهم رقم في معادلة ذاك الصراع.. الجماهير.. وتكفل التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي بباقي المهمة.

* * *

الدكتور يوحاي سيلع، المتخصص بشئون الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب والأستاذ الزائر في أوكسفورد وهارفارد وصاحب كتاب “49 عاما على هزيمة العرب”؛ يقول في كتابه: الدروس التي كان ينبغي على هيكل أن يتعلمها من أحداث حرب 1948 التي شاهدها بنفسه، نسيها تماما بعد ذلك وهو يقوم بتشكيل الرأي العام العربي وإعداده للحرب ضد إسرائيل في السنوات التي سبقت حرب يونيو..

ويستشهد بمقتطفات من مقالات هيكل التي كتبها قبل حزيران/ يونيو 1967 لإظهار كيف تطورت فكرة أن الحرب ضد إسرائيل ليست ممكنة وحسب، وإنما هي ضرورة يحتمها الواقع، وأنه لا يقل عن ذلك أهمية أن العالم العربي بقيادة عبد الناصر سيهزم إسرائيل في نهاية الأمر..

كتابات تضمنت تضليلاً كبيراً للرأي العام العربي -هكذا قال سيلع- حين تعمد بعد ذلك خلال الخمسينات والستينات أن يعمق الشعور بالاستهتار لدى الشارع العربي بقدرات إسرائيل، في حين كان يتعمد التضخيم من قدرات مصر وقواتها ورئيسها جمال عبد الناصر، حتى أنه وصف “التورط المصري في اليمن” بأنه فرصة جيدة للتدريب العسكري، وإفراز قادة جدد للعسكرية المصرية التي بلغ وصفها بأنها خارقة..!! مع تشديد على أن النصر لن يتحقق للعرب رغم كل ذلك إلا تحت قيادة عبد الناصر..

بل إن هيكل استغرق في الأمر لدرجة جعلت الناس وهو معهم أيضا يتمنون اندلاع الحرب، حتى أنه كتب في 2 حزيران/ يونيو 1967 يقول: “أيا ما سيكون ودون محاولة توقع الأحداث قبل وقوعها، فلا شك أن إسرائيل تقف على حافة الانهيار سواء من الداخل أو الخارج”.. هذا ما كتبه الأستاذ هيكل قبل وأثناء وبعد أم الهزائم..

لم يكن أ. هيكل كما وصفته “التايمز” البريطانية كثر من “صوت سيده”.

* * *
سيكتب في 12 آذار/ مارس 1971 مقالا أقل ما يقال فيه أنه مريب؛ بعنوان “تحية للرجال”، وهو مقال مشهور اعتبره قادة القوات المسلحة وقتها تعجيزا وإحباطا وزرعا لليأس في قلوب المقاتلين والجيش العظيم، وما كان قد بدأه فخر العسكرية المصرية في العصر الحديث عبد المنعم رياض (بعد 1967م) من إعادة بناء حقيقي لجيش حقيقي.

وكان في هذا المقال أيضا كما قالت التايمز “صوت سيده”.. وسيده هذه المرة السادات الذي أخذ ما قاله هيكل ودفع به الى أقصى مدى ممكن وقال قولته الشهيرة “99 في المئة من أوراق اللعبة بيد أمريكا”.

اختزل الأستاذ هيكل في سيرته جانبا كبيرا من مأساة مصر والعرب.. مكث فيها طويلا يقول لنا ولقرائه كم هو القمر مضيئا.. في حين كان ينبغي أن يسلط ولو وميضا واحدا من الضوء على الزجاج المحطم.. لكنه لم يفعل.

 

اترك تعليقاً