بقلم د.هشام الحمامي
خمس سنوات مرت هذا الشهر على وفاة الروائي النبيل د. أحمد خالد توفيق (ت 2 نيسان/ أبريل 2018م)، أحد أكثر الظواهر الجميلة إدهاشا في السنوات الأخيرة.. سنوات قلة كل شيء، من أي شيء.. لكن ظهور خالد فيها ومن بينها بكل ما تمثله ظاهرة ظهوره من معنى وقيمة، ليس فقط لموهبته وغزارة إنتاجه.. ولكن لأنها تبدت لنا من خلال أحمد وصدق أحمد.. وعقل أحمد وإبداع أحمد.. بائع الأحلام والآمال واليقين والصفاء.
ستثبت لنا الأيام كل يوم أن الصدق هو فعلا شيء عظيم وقيمته خالدة.. وأنت لا تستطيع أن تحكم على شخص بالصدق هكذا من أول طلة كما يقولون.. فعليه وعلينا أن نخوض اختبار الزمن الطويل ونخوضه معه.. بأيامه ولياليه، شروقا وغروبا، إظلاما وإصباحا، صعودا وهبوطا، قياما وقعودا.. وقل ما شئت في تلك المتقابلات وما بينها من متشابهات ومختلفات.. وفيها كلها سترفرف هنا عاليا وعاليا جدا رايات الصدق التي ترتفع من نفسها فوق سيرته الكبيرة..
يرتبط الصدق/ الكذب في الحضور داخل المجال العام والحركة فيه وبه، ارتباطا وثيقا.. ولم تحدثنا الأحاديث عن كذاب أو مدع، سواء طالت أكاذيبه وادعاءاته أم قصرت، إلا وكانت فضيحته فوق رؤوس الأشهاد..
الحقيقة تأبى الاختفاء طويلا كما يقولون.. وكذلك الكذب أيضا، يأبى الاختفاء قصيرا وطويلا. وصندوق التاريخ مليء بنماذج الصدق والكذب التي تعطينا العبرة والمثال.. لكن الحياة هي الحياة والبشر هم البشر.
إذ يؤمن البعض غالبا بنظرية “الشرب من كأس السم للتجربة” كما يقولون.. والسم لا يُشرب للتجربة كما يعرف الناس.. فيكفي أن ترى من شربه وفي ذلك ما يغنيك عن التجربة.. لكنها الدنيا وناس الدنيا.. التي سيكرر فيها الكاذبون لزاجتهم وبجاحتهم..
تبقى العبرة ويبقى الاعتبار ولتسير الحياة كما هي ولنسير معها كما نحن، لكن في النهاية، وبأكثر العبارات يسرا، يبقى الصدق، وتبقى قيمته الخالدة وتلك الأحاسيس الرائعة المتدفقة منه والتي تعيننا على العيش بسلام وراحة
وقديما قالوا:
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى ولا نحن إلا كالقرون الأوائل
وتبقى العبرة ويبقى الاعتبار ولتسير الحياة كما هي ولنسير معها كما نحن، لكن في النهاية، وبأكثر العبارات يسرا، يبقى الصدق، وتبقى قيمته الخالدة وتلك الأحاسيس الرائعة المتدفقة منه والتي تعيننا على العيش بسلام وراحة.
* * *
على قلة ما قرأت للدكتور أحمد خالد توفيق، والقلة هنا قياسا إلى قرائه من ملايين الشباب الطاهر النبيل، وإلا فقد استفدت واستمتعت كثيرا بكتاباته، أدبا وفكرا، لكن “المعاصرة حجاب” كما يقولون، وخالد رحمه الله يكبرني بعام واحد..
أيا ما كان الأمر.. ففي كل ما ستقرأه له سيصاحبك دائما ظلال الصدق والتجرد.. حاضرا زاهيا حول اسمه وحول قلمه، خاصة في مقالاته وما كان يكتبه على مدونته..
سيكون علينا أن نتأكد كل يوم ونزداد تأكدا ونعرف كل يوم ونزداد معرفة أن “الإنسان كلٌ واحدٌ لا يتجزأ”.. وما من حياة إلا وكان صاحبها هو خير وجه تطل به هذه الحياة علينا وعلى الدنيا كلها.. سيكون أحمد خالد توفيق هو.. هو، كاتبا كان أم طبيبا، زوجا كان أم أبا، صديقا كان أم قريبا.. وسيكون في كل ذلك ضوء غامرا.
* * *
سيكون علينا أن نتأكد كل يوم ونزداد تأكدا ونعرف كل يوم ونزداد معرفة أن “الإنسان كلٌ واحدٌ لا يتجزأ”.. وما من حياة إلا وكان صاحبها هو خير وجه تطل به هذه الحياة علينا وعلى الدنيا كلها.. سيكون أحمد خالد توفيق هو.. هو، كاتبا كان أم طبيبا، زوجا كان أم أبا، صديقا كان أم قريبا
لكن أحمد كان ممن أدركوا جوهر الأمر فعاش السمو والوفاء والنبل والحب والمجد وانتقل وهو بعيد -بإرادته واختياره- عن شبكة العلاقات ومناورات الكواليس وأشباح الصفوة المغلقة.. وهو ما جعل لحياته كل هذا المعنى الذي كان لها.
وسيلفت انتباهك هنا أن فئة إعلامية معينة جاءتها صدمة صدومة مليئة بالمرارة الممرورة من حجم جنازة الراحل (والذي كان أغلب حضورها من الشباب الذين انصرفوا عن الحياة السياسية)، وغيظ أشد وأنكى من حجم الحفاوة والحزن على الصفحات الإلكترونية التي بكاها شباب عشريني وثلاثيني دمعا ورثاء..
كانت صدمتهم بقدر خيبتهم في عدم قدرتهم على إحداث أي قدر من التأثير في أضيق دوائر حضورهم.. “مين أحمد خالد توفيق.. ده.. أنا ما اعرفوش”، هكذا قال أحدهم، أما الآخر فتساءل عن موضوع انتحاره.. والجميع يعلم أين ومتى انتقل الراحل الكريم وظروف انتقاله.. صاحبنا لاحظ أن محبي د. أحمد نسبة كبيرة منهم متدينون أو قريبون من هذه المساحة، فأخذ يهيل قاذوراته على اسم الرجل.
* * *
وأتصور هنا أن قيمة أحمد خالد توفيق وقامته التي نصّبه فيها الشباب عاليا تتصل بأفكاره وآرائه ومواقفه وأخلاقه، أكثر مما تتصل بإبداعه وتفرده في كتابات بعينها رغم هذا الإبداع وهذا التفرد غير العادي..
فعلى الجانب الآخر هناك الكثير من الكتاب المبدعين، لم تحتضنهم القلوب والعقول كما احتضنت أحمد خالد.. فمن ينسى نجيب محفوظ، “بلزاك الرواية العربية ومؤسس مجدها” كما وصفوه، ومن ينسى د. يوسف إدريس تشيكوف العرب كما كانوا يلقبونه والذي كان “بارق الموهبة كما النجوم تمضي ويظل ضوءها يأتينا ليؤنس وحشتنا في الليل.. كل ليل..”، كما قال عنه الأديب الطبيب محمد المخزنجي.. وغيرهم كثيرون جدا بامتداد مصر والعالم العربي.
لكن كلهم ومع كل الاحترام لهم ولذكراهم، لم تتكون لهم حالة أحمد خالد توفيق الجهد والدأب والموهبة والإنتاج الغزير موجود مع كل هذه الأسماء وغيرها.. لكن هناك “شيئا آخر..” كما يقولون في الإنجليزية كان لدى الراحل الكريم د. أحمد.. هذا “الشيء الآخر” هو “الصدق”..
لمعنى هنا يتسع ليتجاوز بالطبع مسألة كذب الحديث وصدقه بالشكل اليومي المعتاد.. فلم نعرف عن محفوظ أو إدريس أنهم كانوا كاذبين في أحاديثهم ومواقفهم اليومية.. لكن الصدق المقصود هنا صدق آخر يتجاوز الظاهر وينفذ إلى الأعماق البعيدة
والمعنى هنا يتسع ليتجاوز بالطبع مسألة كذب الحديث وصدقه بالشكل اليومي المعتاد.. فلم نعرف عن محفوظ أو إدريس أنهم كانوا كاذبين في أحاديثهم ومواقفهم اليومية.. لكن الصدق المقصود هنا صدق آخر يتجاوز الظاهر وينفذ إلى الأعماق البعيدة..
فضيلة الشيخ الشعراوي رحمه الله مثلا، من أكثر نماذج البرهان على ذلك.. فكل القياسات المنطقية للعلم والتحصيل والجهد والإنتاج المكتوب والمنطوق؛ “عادية” حين توضع في سياقها ومقارنتها بعشرات الأسماء في ذات التخصص، لكن عليك أن تفسح المجال هنا إفساحا واسعا لما هو “غير عادي..” تفسحه لـ”الشيء الآخر..”. كما قلنا أولا، وهو ذاك الذي امتد بين الرجل وبين الملايين إلى يوم الناس هذا.
رحم الله د. أحمد خالد توفيق الكاتب والإنسان ذا السمات التي لا تُنسى، والذي جاء وعبر وترك ألف أثر وأثر.. ولنا أن نقول مثل ما قال الشاعر اللبناني وديع سعادة (75 سنة): قل للعابر أن يعود فقد نسي هنا ظله.. مر في الحدائق، فصار فيها زهور.. مر في الشوارع فصار فيها ناس.. مر في الليالي فصار فيها قمر.
ولا زال محبو خالد من قراء العربية في كل مكان.. يمسكون زهوره ويستضيئون بقمره.