كتب د.سليمان صالح
ظهرت النتيجة عام 1981، وكنت الأول على الدفعة. ها هو الأمل قد تحقق بعد كفاح مرير، وسوف تبتسم الحياة، وأعود إلى أهلي فخورا بإنجازي العلمي.
لكن بعد شهور قليلة أخبرني أستاذ بالكلية بأن الأمن يعترض على تعييني بسبب عملي في جريدة الشعب، وتحقيقاتي التي أغضبت الرئيس السادات. وأضاف: لقد ضاع مستقبلك بسبب عنادك.
قلت بعزة: لكن أنا الأول على الدفعة، والقانون واضح، ويجب أن يتم تعييني بحكم القانون.
قال ساخرا: دع القانون ينفعك.. ولن يتم تعيين أحد بسببك هذا العام.
قررت أن أبحث عن محام ليرفع قضية أمام القضاء، وأن أبحث عن صحيفة للعمل فيها، فوجدت فرصة للعمل في جريدة الأخبار. لكن بعد اغتيال السادات في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، تم تعييني في الكلية بعد أن زالت الأسباب وتغيرت الظروف.
رأس البدوي العنيد لا يفكر بمنطق المصلحة والفوائد المادية، وظلت هذه السمة الموروثة تشكل الاختيارات والقرارات طوال الحياة.
مكانك في الصحافة وليس في الجامعة!
بعد أن تم تعييني في الجامعة، ذهبت لمقابلة موسى صبري رئيس تحرير الأخبار الذي بذل جهدا كبيرا لإقناعي بأن مكاني في الصحافة التي يمكن أن أحقق فيها إنجازات أكبر، وأنه ليس من الحكمة أن يضيع العمر في البحث العلمي والحصول على الماجستير والدكتوراه لأقوم في النهاية بتدريس مجموعة قليلة من الطلاب.
استخدم الرجل كل قدراته في التأثير، قائلا: إنك يمكن أن تحصل على فرص النجاح والشهرة وتحصل على المناصب في الصحافة والحكومة، لكن عليك أن تفهم الواقع، وتتعايش معه، وتعرف كيف تنتهز الفرص، وأن تنسى تجربتك في جريدة الشعب.
وفهمت جيدا رسالة الرجل، وبعد تفكير طويل قررت أن أستمر في الجامعة مهما كانت التضحيات، فهذا هو حلمي الذي حققته بعد كفاح طويل، وحقي الذي حصلت عليه بفضل الله وحده.
أنا أعرف جيدا صعوبة الطريق، وأن التجربة التي سأقدم عليها ستكون مرّة، وأعرف جيدا ما في الصحافة ووسائل الإعلام من فرص.
لكنّ رأس البدوي العنيد لا يفكر بمنطق المصلحة والفوائد المادية، وظلت تلك السمة الموروثة تشكل الاختيارات والقرارات طوال الحياة.
الآن بعد مرور كل تلك السنين أسأل نفسي: هل كان موسى صبري على حق، وهل قدم نصيحة مخلصة كان يجب التفكير فيها، وهل كان يجب أن أتخلي عن طباع البداوة الحادة.. ما رأيكم؟!
تعرّضت للكثير من الظلم والاضطهاد، ومحاولات عرقلة تقدمي العلمي.. فهل كنت أستحق ما عانيته من ظلم بسبب هذا الرأس البدوي العنيد؟!
أين الحرية الأكاديمية؟!
وكما دافعت عن حرية الصحافة في جريدة الشعب، قمت بعملي داخل الجامعة، وأنا أعتز بحريتي الأكاديمية التي عشت أدافع عنها، وأرفض أية مساومة حولها وأنا أعتقد حتى الآن أن أستاذ الجامعة لا يمكن أن يبدع وينتج أفكارا جديدة تشكل حلولا لمشاكل الوطن دون أن يتمتع بالحرية الأكاديمية، وظل رأس البدوي العنيد يرفض الخضوع للواقع مهما كانت المخاطر والإغراءات.
لذلك تعرّضت للكثير من الظلم والاضطهاد، ومحاولات عرقلة تقدمي العلمي.. فهل كنت أستحق ما عانيته من ظلم بسبب هذا الرأس البدوي العنيد.. ما رأيكم؟!
أعتقد أن العلم هو أهم ثروة يحصل عليها الإنسان في حياته، فإنه يجب أن يكافح لصيانة هذه النعمة، وأن يعظم قيمة العلم، فلا يستخدمه في الحصول على مكاسب مادية بوسائل غير أخلاقية
صورة أستاذ الجامعة!
كنت أحتفظ في خيالي منذ اليوم الأول لدخولي كلية الإعلام بجامعة القاهرة بصورة رومانسية لأستاذ الجامعة، ساهم كثير من الأساتذة في الإصرار على الاعتزاز والتمسك بها.
ولأنني أعتقد أن العلم هو أهم ثروة يحصل عليها الإنسان في حياته، فإنه يجب أن يكافح لصيانة هذه النعمة، وأن يعظّم قيمة العلم، فلا يستخدمه في الحصول على مكاسب مادية بوسائل غير أخلاقية مثل النفاق الذي يشين المرء وينقص قيمته، ولا يليق بكرامة الإنسان.
لذلك أصابتني الكثير من الصدمات التي عرّضت تلك الصورة الجميلة للاهتزاز؛ فرأيت أساتذة ينافقون الحكام طمعا في منصب، ويبررون الدكتاتورية، ويتعالون على شعوبهم بعلمهم.
أما الأخطر من ذلك، فقد رأيت أساتذة يشاركون في اضطهاد زملائهم، ويشاركون في ظلمهم وفصلهم تنفيذا لأوامر أجهزة الأمن.
وربما يكون تشويه تلك الصورة الجميلة لأستاذ الجامعة أخطر ما تعرّضت له في حياتي من صدمات، لكنني كنت أصرّ على الدفاع عن حقوق أي زميل، وأرفض أن يتعرض لأي ظلم مهما كان اختلافي معه في الرأي. كانت تجربة مهمة في حياتي كنت أطمح فيها لتحويل كلية الإعلام إلى مركز للحركة الوطنية المصرية، يتم فيه إدارة الحوار بين كل الاتجاهات السياسية والفكرية للاتفاق على احترام الديمقراطية وحرية الصحافة
عندما تكون الجامعة بخير
أعتقد أن الدولة التي تكون الجامعات فيه قوية يمكن أن تحقق التقدم في كل المجالات، وقوة الجامعة ترتبط بالمحافظة على كرامة أساتذتها، وحقوقهم، وأن يتم تحقيق العدل بينهم.
لذلك يجب أن يقود العلماء عالم مثلهم يعرف قيمة العلم، ويكرّم العلماء، ويرفض أن يتعرض أستاذ الجامعة للاضطهاد، ويكافح لحماية كرامة الأساتذة وحقوقهم.
ولأن الجميع كانوا يعرفون اعتزازي بهذه المبادئ، وكفاحي لحماية الحرية الأكاديمية وكرامة الأساتذة وحقوقهم حصلت على شبه إجماع في انتخابات رئيس قسم الصحافة عام 2011، لأصبح أول وآخر رئيس قسم منتخب، ولقد حرصت على أن أقوم بواجبي، وأتحمل المسؤولية في الدفاع عن حقوق زملائي، مهما كانت التضحيات.
كانت تجربة مهمة في حياتي كنت أطمح فيها لتحويل كلية الإعلام إلى مركز للحركة الوطنية المصرية، يتم فيه إدارة الحوار بين كل الاتجاهات السياسية والفكرية للاتفاق على احترام الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ومن أهمها حرية الصحافة.
لكن كان من الواضح أن رأس البدوي العنيد يصرّ على أن يتحدى الواقع، ويرفض الخضوع لشروط الدكتاتورية.. فهل كانت النتيجة الطبيعية لذلك الكفاح هو إرغامي على الحياة في المنفى محروما من مدرجات الجامعة التي كافحت لأن أكون أستاذا بها.. ما رأيكم؟!
بعد سنوات طويلة ما زلت أعيش بعقلية البدوي الحالم الذي يتحدى الواقع، ويصرّ على أن يكون عبدا لله وحده.. وهكذا مضت سنوات العمر، وهذا البدوي العنيد يرفض أن يتغير!