كتب د.هشام الحمامي
حين قال الرئيس الأمريكي بايدن للعالم من أيام قليلة تعليق على ما يحدث في غزة: “إننا في لحظة فارقة في التاريخ” فقد كان يعنى ما يقول حرفيا وفعليا، والأغلب أن هذه الجملة أُمليت عليه، من مراكز “التفكير” التي تدير المعركة الآن على نطاقها التاريخي الأوسع.. ويعرفون جيدا “حماس” التي قد يكون توصيفها الميداني كحركة مسلحة هو آخر توصيف لها.. فحماس هي امتداد وتطور للحركة الإصلاحية في المشرق العربي من القرن الثامن عشر..
ويصح القول هنا بأن 7 تشرين الأول/ أكتوبر كان “الزلزلة العظيمة” التي أتت على أرضية كل شيء فأظهرت فيه “الحقيقة” كلها على أبين ما يكون ظهورها ومظهرها، فكأنها وُلدت من جديد، وبكل ما تحمله كلمة الحقيقة من حمولات.. هل نقول الإيمان والاعتقاد؟ هل نقول المفاهيم والأفكار؟ هل نقول الفرضيات والوقائع؟ هل نقول الفهم والتصور؟ هل نقول النظرية والمعادلة؟ هل نقول التاريخ وإرادة الإنسان فيه؟ والإنسان والتاريخ اللذان حيرا الفيلسوف الألماني هيجل (ت: 1831م) هما بالفعل الحقيقة الناصعة، التي لا يختلف عليها اثنان.. إنهما يجسدانها تجسيدا أمام أعيننا.
أحد العسكريين المخضرمين قال: ما حدث وجرى تنفيذه في 7 تشرين الأول/ أكتوبر مع فرقة غزة (لواءين).. يتجاوز النوع البشرى في مثل هذه الأحوال..
وسيحلله لنا الكاتب الإسرائيلي الشهير جدعون ليفي (71 سنة) وصاحب كتاب “منطقة الشفق.. الحياة والموت في ظل الاحتلال الإسرائيلي.. معاقبة غزة” وسيقول لنا في مقال له في جريدة هآرتس يوم 9 تشرين الأول/ أكتوبر: “أين الجيش وجهاز الأمن الشاباك بكل وسائلهما، وطائراتهما المسيرة، وتنصتهما، وذكائهما البشري والاصطناعي، وابتزازهما للمصادر البشرية (يقصد العملاء)، وعباقرة وحدة النخبة 8200؟.. ألم يكن لدى أي أحد منهم أدنى فكرة؟ إن نجاح حماس حدث استراتيجي رهيبا”..
* * *
لكن المهم هنا على ذكر هذا “الرجل الخطير”.. أنه كان قد كتب مقالا في 30 أيار/ مايو الماضي في جريدة “هآرتس” وأنذر فيه بما يحدث الآن!!..
ويبدو أن المعلومات الذي توفرت لديه وبنى عليها رأيه هذا، قد وصلت إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتفسر لنا بعقلانية شديدة، وبحس إيماني ووطني بالغ القوة، في القرار والتنفيذ، ما حدث في “سبتهم الأسود”، ماذا قال جدعون ليفي؟
قال إن من بين الإنجازات التي يمكن أن يضيفها نتنياهو إلى رصيده، قدرته على “إلغاء حل الدولتين” بشكل دائم وإزالة القضية الفلسطينية برمتها من جدول الأعمال العام.
وقال إن الاهتمام بحل الدولتين لم يعد موجودا داخل وخارج إسرائيل (عباس يا عباس.. أين أنا يا عباس).. وأضاف أن هذا تطور كارثي لأي طرف آخر، وأن التعامل معه باللا مبالاة “كارثة أخرى”.. وحذر من حدوث “نكبة ثانية”، حرفيا ذكر ذلك في أيار/ مايو الماضي..!!
واختتم مقاله بالتأكيد على حتمية الوصول إلى تلك النقطة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى بعد فترة طويلة، وقال إن ذلك اليوم سيأتي، عندما يوجه السلاح إلى رؤوسنا..!!
* * *
لم تمض فترة طويلة.. فقد تم توجيه السلاح إلى رؤوسهم بالفعل، كما توقع الرجل الخطير.. لكن الأخطر، كيف حصلت “حماس” على هذه المعلومات المرعبة..؟ إذا بنينا تصورنا على أن 7 تشرين الأول/ أكتوبر كان “الغداء بهم قبل العشاء بنا”.. فهذا مما قد يفسر لنا حالة الهرولة الغربية الهلوعة إلى هذا التدخل المثير.
الحصول على المعلومات المؤكدة، بدقة مؤكدة، والإعداد والتنفيذ الفوري بثقة مؤكدة ونجاح كبير.. كيف حدث كل هذا.. وماذا وراءه؟ ومن وراءه؟.. والذي سيجعل د. يوري يوسف، أستاذ العلاقات الدولية في كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا، يقول تعليقا على ما جرى: إن هناك انفجارا سياسيا جوهريا سيلازمنا لوقت طويل.. دولة إسرائيل ستكون في حاجة إلى قائد بحجم “دافيد بن جوريون” يُعلن أن هدفه هو إقامة دولة إسرائيل مجددا!!
ماذا سيفعل هذا القائد في إسرائيل المجددة؟ يقول: يحدد أهدافا واقعية، ستسود حالة من الشعور بانعدام الأمن لفترة طويلة، غير أن مثل هذا القائد سيكون ملزما بإدراك حقيقة أن الأمن لن يتحقق بطائرات إف 15، وإنما بتسوية تستجيب للاحتياجات والتطلعات الفلسطينية (احتياجات وتطلعات؟!).. لقد فات الوقت أيها البرفيسور الكبير، هذا كان قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر..
لكن الرجل لم يقل لنا مَن في الشعب الإسرائيلي سيبقى ويقبل العيش في “حالة من الشعور بانعدام الأمن لفترة طويلة” كما قال.. وأمامه بدائل أخرى في العودة إلى وطنه الأم؟ والأخطر، مَن في الشرق الأوسط سيقبل بأن تكون “الكلمة الأخيرة” في هذا الصراع هي “كلمة حماس”..؟
* * *
مرة ثانية سيقول لنا “جدعون ليفى” في هآرتس، في 16 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي: إسرائيل ستدفع الثمن، وسيكون أثقل مما يبدو لها الآن.. إسرائيل على وشك الدخول في حرب كارثية، أوهي دخلتها فع لا.. (ألم أقل لكم إنه رجل خطير).
“الفيت كونج” و”حماس”.. وما بينهما
في سنة 1969م بلغ عدد الجنود الأمريكيين في غزو فيتنام (من 1964م) نصف مليون عسكري، كان عليهم أن يواجهوا قوات “الفيت كونج” التي كانت طليعة وطنية مقاتلة تهدف إلى طرد الأمريكيين من وطنها.. الحاصل أنه في هذه المعركة استعانت قوات “الفيت كونغ” بفكرة حفر الأنفاق تحت الأرض، لشن الهجمات، متسببة في خسائر فادحة للقوات الأمريكية، فما كان من الولايات المتحدة إلا الاعتماد على عمليات القصف الوحشي المكثفة بالطيران لتكبيد “الفيت كونج” خسائر فادحة، لكنها أثبتت فشلها، واضطرت أمريكا في نهاية الأمر إلى الخروج من فيتنام.. وخرجت كما تقول قوانين الحياة والتاريخ “لم يسبق في التاريخ أن هزم محتلٌ حركةَ مقاومة وتحرر”.
كل هذا أصبح جزءا من التاريخ.. لكنه يتكرر اليوم في غزة.. إنها “حماس والأنفاق والاحتلال” مفردات ثلاث تتشابه تماما مع فيتنام، وتختلف في مفردة واحدة.. مفردة أبناء الأرض وأهلها، في الأولى كانت “الفيت كونج” وفى الثانية كانت “حماس”.. وفلسطين.
* * *
وهذ التشابه يتطابق مع التاريخ في وقائعه المعروفة والموثقة.. لكننا سنسمع تصريحات إسرائيلية وأمريكية تقارن بإلحاح مريب بين حماس و”داعش” في أحداث “طوفان الأقصى”، الهجوم النوعي الأكبر في تاريخ المواجهة العربية الإسرائيلية على الإطلاق.
كل هذا أصبح جزءا من التاريخ.. لكنه يتكرر اليوم في غزة.. إنها “حماس والأنفاق والاحتلال” مفردات ثلاث تتشابه تماما مع فيتنام، وتختلف في مفردة واحدة.. مفردة أبناء الأرض وأهلها، في الأولى كانت “الفيت كونج” وفى الثانية كانت “حماس”.. وفلسطين
وتنظيم “داعش” في الذاكرة الإنسانية: إسلاميا وعربيا ودوليا، شيء سيئ للغاية، وأتى من الأفعال ما لا سند له من حق وما لا تبرير له من واقع.. وهو تنظيم خرج من رحم أحداث بالغة التعقيد، تتمركز حول الغزو الأمريكي للعراق في 2003م.
وأيا ما كان الظرف الذي أنتجها وأخرجها، سواء تصنيعا مخابراتيا غربيا، أو تفاعلا داخليا تلقائيا.. فلا محل لعقد أي تشابه بينه وبين حركة المقاومة الإسلامية (حماس).. والمسألة لا تحتاج لجهد كبير في إثبات ذلك.. ومجرد ذكر ذلك وتكراره، مشين وكاذب، ومحاولة بدائية لتغيير الحقائق البديهية التي يعرفها العالم كله، من قبل “طوفان الأقصى”، وسيعرفها أكثر وأكثر بعدها.
* * *
في عام 2009م زار غزة الزعيم الأيرلندي الشهير جيرى آدامز (75 سنة الآن) وكانت خارجة لتوها من قصف مكثف (عملية الرصاص المصبوب)، وعلق آدامز قائلا: لا أعتقد أن شيئا يوازي أن تكون في خضم الحدث نفسه، فبغض النظر عما تنقله محطات التلفزيون، وبغض النظر عن التعليقات السياسية للمراقبين، فإن المسألة تختلف تماما حينما ترى الناس يعيشون وسط الركام، المصانع والمستشفيات والمدراس بالإضافة إلى مقار أخرى، إنه الدمار بالمعنى الملموس والمرئي، حقا مخيف جدا جدا، وربما تشعر بغضب شديد.
وأضاف: غزة تشبه السجن المفتوح، فحينما تنظر إلى نقطة تفتيش حدودية يتراءى للمرء أنها تشبه ممر هبوط جوي من الحجم المتوسط، وحينما يدخل المرء فيها يرى كأنها قفص طويل، وكأنما قد سُجن في هذا المكان، إن غزة تشبه حقا “سجنا كبيرا مفتوحا”.
وأضاف قائلا: لا بد من فك الحصار المفروض على أهالي قطاع غزة (كان هذا قبل 14 سنة!!).. وفتح المعابر والسماح لكافة البضائع بالدخول، وتسهيل سفر المرضى. إعادة بناء قطاع غزة ضرورة، ولكن الأهم هو عدم تكرار ما حدث من تدمير وقتل، وعدم رؤية هذه المشاهد القاسية “التي أراها أمامي الآن”!!..
* * *
قبل أن نعود إلى جملة “التي أراها أمامي الآن”.. سيكون علينا أن نعرف أن جيري آدامز هو زعيم “الشين فين”، الحزب الأيرلندي الشمالي ذي التاريخ العريق في السعي للانفصال عن بريطانيا (حركة تحرر) وخاض جناحه العسكري مواجهات عسكرية استمرت 30 سنة ضد الحكم البريطاني، ولعب دورا مهما في اتفاقية السلام عام 1998م (اتفاق الجمعة العظيمة)..
سنسمع آدامز وهو يقول في أحد تصريحاته معلقا على تلك الفترة: لقد قالوا لنا في أيرلندا؛ لا يمكن أن تشاركوا في الحوار إلا بعد نبذ العنف، فقلنا لهم لماذا نحن فقط؟ يجب على كل الأطراف أن تنبذ العنف. وكان ما أرادوا.. وتم وقف العنف من الجهتين.
الطريف هنا أن المبعوث الخاص الذي قاد مفاوضات “الجمعة العظيمة” كان أمريكيا (جورج ميتشل/ 90 سنة الآن).. والذي سترسله أمريكا إلى الشرق الأوسط في كانون الثاني/ يناير 2009م، وسيسمع من المسؤولين الإسرائيليين وقتها جملة: ضرورة نسيان فكرة حل الدولتين.. ثم استقال في 2011م، حين تبين له أن المسألة خداع تاريخي كبير لا أكثر.
* * *
من رأى الدقة والبراعة التي تم بها التخطيط والتنفيذ لعملية “طوفان الأقصى”، لا يمكن إلا أن يرى أن من قام بهذا العمل لا يمكن إلا أن يكون على وعي تام بما ستسير عليه الأحداث بعدها، وإلى ما ستنتهي
كان لا بد من إلقاء حجر ضخم وضخم جدا، في تلك البحيرة الراكدة العفنة المسماة “عملية السلام” والتي كان تحت ملائتها يجرى كل ما هو سيئ في حق كل ما هو مقدس وشريف.. فكان يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، ورأينا ورأى العالم ما لن يُنسي، وسنعرف أن “حماس” لم تكن تتحرك في فراغ تاريخي ولا فراغ سياسي واستراتيجي، لقد قرأت الأحداث البعيدة والقريبة جيدا، وفهمتها جيدا، واعتبرت أنها تتحمل المسؤولية الكاملة عن “التحرير” كما فعلت “الفيت كونج” وكما فعل “الشين فين”.. بل وتتحمل هذه المسؤولية، في واقع أسوأ كثيرا من الواقع الذي كانت تتحرك فيه الحركتين السابقتين.. واقع يلتبس فيه الديني بالسياسي بالتاريخي على نحو رهيب ومعقد، في واقع محاط بطوق حديدي من الخيانات والمؤامرات والاختراقات المرعبة.
* * *
ومن رأى الدقة والبراعة التي تم بها التخطيط والتنفيذ لعملية “طوفان الأقصى”، لا يمكن إلا أن يرى أن من قام بهذا العمل لا يمكن إلا أن يكون على وعي تام بما ستسير عليه الأحداث بعدها، وإلى ما ستنتهي وإلى ما ستتطور وتؤول.
الاحتمالات المتوقعة لم تكن أصلا متعددة، ولم تكن بعيدة عن التوقع، بدءا بالقصف المكثف بالغ الشراسة والوحشية، وحتى دخول القطاع بأكمله.. مرورا بما يمكن أن يتطور من تفاعلات داخل الإقليم كله وخذلان الأخوة والاشقاء.. لكننا في النهاية لا نملك إلا الاطمئنان إلى أن الأمور تسير في طريقها الصحيح.. طريق “الحق المستعاد”