علمتنا المقاومة في غزة كيف تصبح التجارب التاريخية مصدر قوّة، تطلق القدرات الإنسانية للإبداع والتخطيط، وتجنب أسباب الفشل والهزائم، وتحقيق الانتصارات.
والشعب الفلسطيني يمتلك تراثًا في مقاومة الاحتلال منذ عام 1919، أنتجه الكثير من القادة الذين أضافوا لكفاح هذا الشعب أفكارًا شكلت في مجموعها رؤية للمستقبل، ولا تزال تضيء للأجيال طريق تحرير فلسطين.
وليس أدلّ على الدور الذي يمكن أن يلعبه الاهتمام بالتراث في تعبيد الطريق نحو مستقبل حرّ، إلا حفاوة حركة حماس بقيادات ذلك النضال الذين سبقوها على هذا الطريق، منذ أكثر من مائة عام، ولنتوقف تحديدًا عند علاقتها بالقائدين: عز الدين القسام، وأحمد ياسين.
ملهم البدايات
أما الشيخ عز الدين القسام، فكان من أهم القيادات التي أثرت في تشكيل رؤية المقاومة الفلسطينية، وعندما أطلقت حركة “حماس” اسمه على كتائبها المقاتلة، لم يكن ذلك مجرّدَ بادرة وفاء له، وتخليدًا لتجربته في الصمود والمقاومة، ولكنها كانت رسالة من أهم دلالاتها أن هذه الكتائب تشكل امتدادًا لمسيرة راسخة، وأنها صاحبة تاريخ، وأن رحلة النضال لم تنكسر تحت وطأة الإجرام الوحشي، فالمشعل لا يزال مرفوعًا، وتجارب التاريخ تضيف إلى رصيد الخبرة، ووضوح الرؤية.
هناك رسالة إضافية كذلك، وهي أن النضال لا يرتبط بحياة قائد، فكلما مات قائد، وُلد آخر، كما تقول؛ إن سقوط الجسد ليس موتًا، فها هو الشيخ القسام حيًا بعد قرن من الزمان، وشباب حماس ومتحدثوها يحرصون على افتتاح كلامهم واختتامه بعبارته الأثيرة: “وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد”.
ثم إنها رسالة أيضًا تقول؛ إن قادة المقاومة كجنودها، حياتهم ليست أغلى من غيرهم، وهم يذوقون الشهادة في سبيل القضية كما يذوقها الجميع.
معظم الأفكار التي قدّمها الشيخ القسام في بدايات القرن الماضي، وقبل عقود من قيام دولة الكيان الصهيوني، لا تزال أساس رؤية المقاومة وكل قادتها.. لا تموت الأفكار بالرصاص، بل تحيا. والمقاومة قضية عادلة وقضية رابحة لا تحتاج إلا إلى إيمان وعمل وصبر.
دفع الشيخ القسام روحه في سبيل قضيته، وتدفع حماس وقادتها اليوم، ولكن تبقى المسيرة مستمرة.
بين الشيخ والصاروخ
أما الشيخ القعيد أحمد ياسين – وقد مات قبل عقدين من الزمان بصاروخ إسرائيلي على كرسيه المتحرك – فلا يزال ينهمر على رؤوس الإسرائيليين في صورة قذائف تحمل اسمه، وينفجر في آلياتها المدرعة في شكل ألغام لا يقف أمامها أحد.. فهل قتلته إسرائيل حقًا عندما اغتالته؟
الشيخ أحمد ياسين هو من أسس حركة حماس، وقد كان وقتها – كما نعلم – شيخًا قعيدًا، ولكنه مع ذلك بثّ روحًا في شباب فلسطين لا تزال تهدر حتى اليوم كشلال غاضب. واحتفاء حماس باسمه ليس أيضًا مجرد بادرة تقدير ووفاء لمؤسسها ولنضاله، بل هي رسالة داخلية لشبابها: أن المقاومة لا ينبغي أن تتوقف حتى تلفظ آخر أنفاسك، فلا عذر في القعود وإن كنت قعيدًا، وهي رسالة أيضًا: أن القضية الفلسطينية متواصلة يتسلمها جيل ويسلمها لآخر، ولن تنتهي بنهاية أحد.
المعنى الأخير هو رسالة لإسرائيل أيضًا. رسالة تقول لها؛ إن القتل الوحشي لن ينقذها، وإن أصحاب الحق لا يزدادون إلا إصرارًا، وإن كل فلسطين بكل أبنائِها حتى المقعدين منهم لا يزالون قادرين على النضال والمقاومة وإثارة رعب ذلك الكيان.
وهناك رسالة لإسرائيل تقول؛ إن المقاومة تعلمت كيف تصنع كيانًا مؤسسيًا، يحترم القادة وعطاءهم، لكنه لا ينهار إن سقط جسد القائد.
ثم هناك رسالة لهم تقول؛ إن النصر في المعارك لا تحكمه قوة السلاح وحدها، فقوة الإيمان، وقوة الإصرار، وقوة العقل الذي يبحث دائمًا عن طريق لتحقيق الأهداف يمكنها أن تقلب الموازين. لقد كان الشيخ أحمد ياسين قعيدًا، ولكنه ترك أثرًا، وكذلك كانت حماس محاصرة، ضعيفة التسليح والخبرات، لكنها بما تملكه من إيمان بعدالة القضية، وعقل يبتكر، استطاعت أن تحقق ما لم تحققه الجيوش العربية مجتمعة، وكانت ولا تزال قلعة حصينة في وجه أعتى القوى العالمية.
من أهم إنجازات الشيخ أحمد ياسين، إعداده لقادة المقاومة. لقد عمل على تربيتهم لسنوات، وغرس أفكار الحرية في عقولهم، فأثمر الغرس في قلوبهم حتى وهم أسرى، ونحن نرى اليوم كيف أن يحيى السنوار، وهو أحدُ ثمار الشيخ وأبنائه، خرج من أسره ليقود مسيرة الحرية ويحمل مشعلها. وهو الذي كان تحدى سجّانه قبل سنوات مؤكدًا أن النصر للمقاومة، وأن فلسطين ستتحرر.
هل يمكن أن يفسر ذلك رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عقد صفقة تبادل أسرى مع حماس؟
هل يخشى أن يخرج من السجون ألف سنوار جديد؟
لم يتعلم نتنياهو درس التاريخ، وهو يظن واهمًا أن هدفه المعلن بالقضاء على قادة حماس، سيقضي على المقاومة. هل نجح هذا أمسِ لينجح اليوم؟!