كتب هشام الحمامي
تمثل “طوفان الأقصى” الامتداد التاريخي بالغ التفاعل بالغ التواصل، لدخول اللورد أدموند اللنبي القدس في حزيران/ يونيو 1917م وهو يردد مقولته الشهيرة “الآن انتهت الحروب الصليبية”، سنعرف يومها وحتى يومنا هذا، أن الرجل كان في تفاهم وتناغم تام، مع ما يقوم به في هذا اليوم الأسيف، لذلك فقد قبض بيديه على الجزء المفصول من التاريخ وأعاد وصله في مكانه الصحيح تماما، كما يراه وكما سعت به خطاه.
وإن شئنا توصيفا موضوعيا دقيقا، سنجد أن ما قامت به حركة المقاومة الإسلامية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لم تزد فيه شيئا عما قصده اللورد الشهير وما عناه، هي فقط تعاطت مع معطيات التاريخ كما كان، وكما ينبغي له أن يكون.
فما كان لنتنياهو ومن معه أن يكونوا في مكانهم الآن إلا امتدادا لهذا اليوم، الذي كتب عنوانه اللورد بعبارته الشهيرة وهو يدخل زهرة المدائن، إذ بعد 5 شهور (تشرين الثاني/ نوفمبر 1917م) من دخوله سيصدر الوعد الشهير للسيد بلفور، وزير خارجية بريطانيا، وباقي القصة ستكون مجرد تفاصيل لأحداث تجرى وتسير من طرف واحد يملي، وأطراف أخرى يُملى عليها.
ما قامت به حركة المقاومة الإسلامية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لم تزد فيه شيئا عما قصده اللورد الشهير وما عناه، هي فقط تعاطت مع معطيات التاريخ كما كان، وكما ينبغي له أن يكون
* * *
نحن اليوم إذن، في المفصل الثاني ليوم دخول اللورد اللنبي، ولا نلوي عنق التاريخ هنا لنصنع مشهدا تحكميا، إنها فقط صورة الحقيقة كما هي، وكما دوّنها التاريخ الذي لا ينكرونه ولا يعتذرون عنه، بل لا زالت بريطانيا إلى الآن تعتبر أن دورها الرئيسي في تأسيس إسرائيل من دواعي فخرها، ورفضت مرارا الاعتذار عن هذا الوعد الموعود.
أيا ما كان الأمر فالحاصل أنها حاضرة بقوة اليوم، ليس فقط بمقتضيات التاريخ الذي مضى ولكن بمقتضيات الحاضر، واستراتيجية الساعة الأكثر خطرا في التاريخ الاستعماري للحضارة الغربية كلها، ساعة انكسار إرادتها واتجاه سير الأمور بعكس ما تخطط له وتعمل على تنفيذه بكل شراسة وقسوة ورعب..
وستكون “طوفان الأقصى” هي أطول الحروب بعد الخروج الاستعماري المخادع من ديارنا، بداية من خمسينيات القرن الماضي، لكنها ستكون أعظم الحروب في الشرق الأوسط كله، ليس فقط لآن في قلبها المسجد الأقصى، ولكن لأنها كذلك بالفعل، عظمة وشرفا، ومن لم يشارك فيها مشاركة فاعلة فهو ليس كذلك، وارتضى لنفسه أن يكون كذلك.
* * *
وسنسمع أثناءها رئيسة وزراء إيطاليا تقول بحسرة في قمة السبع الكبار في 14 حزيران/ يونيو: “يبدو أن إسرائيل وقعت في فخ حماس”.
وسنسمع أيضا المراسل العسكري للقناة 14 الإسرائيلية الموالية لنتنياهو سيقول: “أقوم بتغطية هذه الحرب اللعينة منذ 8 أشهر و8 أيام، سمعت سابقا أكثر من مرة من ضباط كبار في الجيش انتقاد سلوك أصحاب القرار على المستوى السياسي والأمني، لكن الذي سمعته هذه الليلة (15 حزيران/ يونيو) أمر مختلف تماما، الأمر يتعلق بأزمة ثقة كبيرة غضب وإحباط حقيقيين، قد يتطوران في الأيام المقبلة إلى أمور أكثر تعقيدا” (يقصد تمردا).
لكن الأكثر أهمية هو ما سيقوله الجنرال العجوز في الجيش الإسرائيلي إسحاق بريك (77 سنة) في معاريف يوم 21 حزيران/ يونيو (ترجمة الأستاذ ياسر زعاترة): “القيادة السياسية والعسكرية، التي جلبت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023م على دولة إسرائيل أكبر فشل وأكبر كارثة منذ تأسيسها، على وشك تكرار ذلك مرة أخرى. لكن هذه المرة سيكون الفشل أخطر بكثير في الحرب الإقليمية الشاملة التي ستجتاحنا وستدمِّر دولة إسرائيل؛ هؤلاء القادة الذين لم ينجحوا في إسقاط حماس في منطقة صغيرة في قطاع غزة لأن الجيش البري صغير جدا، وليست لديه القدرة على البقاء لفترة طويلة في المناطق التي احتلها بسبب نقص القوات القتالية، ما أتاح لحماس العودة إلى تلك المناطق بعد خروج الجيش منها لإعادة بناء نفسها.
هؤلاء القادة بقرارهم مهاجمة حزب الله بقوة برا، جوا وبحرا سيجلبون إسرائيل إلى حرب إقليمية شاملة في ست جبهات في وقت واحد (لبنان، سوريا، الحدود الأردنية، انفجار في الضفة الغربية، غزة، تمرّد المتطرّفين داخل دولة إسرائيل، ولم نذكر بعد مصر التي من المرجح أن تشارك ضدنا في الحرب إذا اندلعت حرب إقليمية شاملة)”.
* * *
الميدان في غزة (واقعا) أقوى من خطر في الشمال (متوقعا).. بل ومقيدا ومحكوما بعشرات المعادلات الإقليمية والدولية الأخرى وليس في حالة سائلة وخطرة كما في غزة
“الحالة الإسرائيلية” الآن أوضح من أن تُوضح.. لا نقاش في ذلك.. وأتصور أن مجيء آموس هوكستين (51 سنة)، مبعوث الرئيس الأمريكي، يوم 17 حزيران/ يونيو والذى تزامن مجيئه مع تكرار الكمائن (15 و16 حزيران/ يونيو)؛ هو لأن إسرائيل في خطر حقيقي واستراتيجي شامل، صحيح أن الزيارة أخذت عنوان “لبنان/ حزب الله/ جبهة الشمال”، لكن الميدان في غزة (واقعا) أقوى من خطر في الشمال (متوقعا).. بل ومقيدا ومحكوما بعشرات المعادلات الإقليمية والدولية الأخرى وليس في حالة سائلة وخطرة كما في غزة.
* * *
ونستطيع أيضا فهم جزء من الصورة التي ظهرت لنا بقوة بعد استقالة أحد أكبر وأكفأ خبراء الخارجية الأمريكية في الشئون العربية الإسرائيلية، أندرو ميلر (46 سنة)، يوم الجمعة (21 حزيران/ يونيو)، والتي تتقاطع بوضوح مع نهج السياسة الأمريكية من اليوم الأول وحتى نهاية الحرب، حرفيا حتى نهاية الحرب، وهو الأمر الذي لم يحتمل منه إلا (الاستقالة)، إذ لو كانت هناك أي بادرة تغير في هذا النهج لكان الرجل تمهل قبل قراره الخطير هذا، والذي سيجعل مشهد وزير الخارجية بلينكن أكثر عريا وعوارا، مما هو عليه بالفعل؛ وهو يسمع بل ويرى أهل غزة يقولون كل يوم، مع الشاعر الراحل توفيق زياد (ت: 1994م)، وبعد 260 يوما:
هنا على صدوركم باقون كالجدار
كقطعة الزجاج كالصبار
وفي عيونكم زوبعة من نار
نجوع.. نعرى.. نتحدى..
إننا ها هنا باقون فلتشربوا البحر
نأكل التراب إن جعنا ولا نرحل
وبالدم الزكي لا نبخل
هنا لنا ماض.. وحاضر.. ومستقبل