كتب سليمان صالح
عندما نراجع مسيرة حياتنا نكتشف أن أحداثا لم نخطط لها كان لها تأثيرها في فتح آفاق جديدة، وأنه لا يمكن تفسير تلك الأحداث بشكل علمي. ورغم أهمية التخطيط للمستقبل، فإننا يجب أن نتعلق دائما بالأمل في الله الذي يمن علينا بتلك الأحداث التي لا نتوقعها، لتشكل أهدافنا.
دعاني ذات ليلة زميل على كوب شاي في غرفته بالمدينة الجامعية، وكنا في السنة الرابعة، لكن كنت أنا في قسم الصحافة وهو في قسم العلاقات العامة، وروى لي أن الدكتور راسم الجمال يدرسهم مقرر الإعلام الدولي، وأنه مقرر صعب، وقدم لي مذكرة ضخمة تم تصويرها بطريقة طمست الكثير من الحروف.
طلبت منه أن يعطيني المذكرة لأقرأها، ووعدته بأن أشرح له الأفكار الصعبة، فوافق، وأمضيت ليلي ساهرا، فقدت عثرت على كنز ثمين.
كانت لجنة مكبرايد قد قدمت تقريرها لليونسكو عام 1980 عن أوضاع الإعلام العالمي بعنوان “أصوات متعددة وعالم واحد”، وحصل الدكتور راسم الجمال على نص التقرير، فترجم أجزاء منه.
أنتمي إلى دول الجنوب الفقيرة التي سيطر عليها الاستعمار وأضعف قدراتها على بناء نظمها الإعلامية، لذلك اعتبرت أن نقد الإعلام الدولي والكشف عن سيطرة الولايات المتحدة عليه، واستخدامها له في تزييف وعي الشعوب وتجهيلها، كفاحا ضد الاستعمار.
الدعوة لإقامة نظام إعلامي عالمي جديد
كانت هذه اللجنة قد تشكلت بقرار من الأمين العام لليونسكو محمد مختار أمبو لدراسة أوضاع الإعلام العالمي نتيجة الشكاوى، التي تقدمت بها دول الجنوب بأنها لم تتمكن من تحقيق التنمية نتيجة للاختلال في تدفق الأنباء، وضعفها الإعلامي في مواجهة سيطرة أميركا على النظام الإعلامي العالمي.
ساهم ذلك التقرير في تشكيل مسيرتي العلمية، فقد حددت موقفي من البداية، فأنا أنتمي إلى دول الجنوب الفقيرة التي سيطر عليها الاستعمار وأضعف قدراتها على بناء نظمها الإعلامية التي توفر المعرفة لشعوبها، لذلك اعتبرت أن نقد الإعلام الدولي، والكشف عن سيطرة الولايات المتحدة عليه واستخدامها له في تزييف وعي الشعوب وتجهيلها، كفاحا ضد الاستعمار.
تشويه صورة العرب
ربطت في دراساتي بين الاختلال في تدفق الأنباء واستخدام الولايات المتحدة للإعلام الدولي في تشويه صورة العرب والمسلمين، وكانت تلك الصورة النمطية السلبية من أهم أشكال الظلم الذي تعرضت له الأمة، وأدى إلى حالة الفرقة والعداء بين الدول العربية.
أسهم ذلك في تحديدي لأهدافي كباحث في مجال الإعلام، فأنا أنتمي للعرب أصلا ولغة، وأنتمي للإسلام دينا وعقيدة وثقافة وحضارة، وأعتز بدور الأمة في الكفاح ضد الاستعمار، وأرى أن الأمة العربية قدمت نماذج مهمة للكفاح والمقاومة، وكانت تجربة الثورة الجزائرية من أهم التجارب في رحلة كفاح الإنسانية ضد القوى الاستعمارية التي نهبت ثروات أفريقيا وآسيا، وتركت شعوبها تعاني الفقر والجوع.
انطلاقا من ذلك حددت موقفي، فأنا عربي مسلم جنوبي، أكافح لتحرير البشرية كلها من الظلم الذي كان من أهم أسباب انتشاره السيطرة الإعلامية على النظام الإعلامي العالمي.
كنت أريد أن أبني جيلا من الباحثين يقودون بالعلم كفاح الشعوب للتحرر من التبعية والاستعمار الثقافي، ولبناء نظم إعلامية وطنية جديدة.
لماذا احترموا موقفي من الغرب؟
بسبب هذا الموقف واجهت الكثير من الظلم والاضطهاد في بلدي وجامعتي، وفي صحافة وطني التي أعمل لتحريرها من التبعية للسلطة وللنظام الإعلامي العالمي، لكنني عندما التحقت بجامعة ليستر، تعامل معي الأساتذة والباحثون باحترام وتقدير بسبب هذا الموقف، رغم أن بريطانيا انسحبت من اليونسكو عام 1984 تضامنا مع أميركا في رفضها للدعوة لإقامة نظام إعلامي عالمي جديد.
فسرت ذلك في البداية بأن المشرف على رسالتي جيمس هالوران كان سكرتيرا للجنة ماكبرايد، فكان من الطبيعي أن يتعامل معي باحترام، لكن لم يكن ذلك هو السبب الوحيد، فالجامعة تحترم الحرية الأكاديمية، وتشجع الباحثين على إنتاج الأفكار الجديدة.
في الوقت نفسه التف حولي طلاب الدراسات العليا من دول الجنوب الذين تمكنت من إثارة خيالهم وتشكيل أهداف جديدة لهم، من أهمها تحرير النظم الإعلامية من التبعية للغرب، وفتح المجال لتبادل الأنباء والمعلومات بينها، والمشاركة في تجارب الكفاح ضد الاستعمار الثقافي.
إدارة الحوار وتحقيق الأهداف
تشكلت كتلة من الطلاب من دول أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، وبدأنا حوارا جادا بشأن تأثير التبعية الإعلامية على هذه الدول الجنوبية، وأسباب ضعفها الإعلامي.
وعلى الرغم من أن المجموعة اختارتني بالإجماع لإدارة الحوار، فإنني كنت أتنازل عن حقي وأختار باحثين آخرين من دول مختلفة لرئاسة الجلسات، مما أدى إلى شعور الطلاب بأننا نعمل جميعا لتحقيق الهدف بالتعاون والمشاركة وتبادل الأدوار على قواعد الاحترام والتخصص.
لفت ذلك أنظار الأساتذة، فانضموا للحوار وساهموا في إثراء الجلسات، وأصبح جيمس هالوران سعيدا بهذا التطور الذي شكل للجامعة صورة إيجابية، من أهم سماتها أنها تفتح المجال لطلابها من كل الدول لإدارة حوار حول النظام الإعلامي العالمي، وتحترم الحرية الأكاديمية لطلابها.
أما بالنسبة لي، فقد كانت تجربة مهمة، عرفت منها الكثير من التجارب على المستوى العالمي، وقمت بتمثيل حضارتي العربية الإسلامية في حوار عالمي، كان من أهم نتائجه زيادة ثقتي في قدراتي العلمية.
تفاعل طلابي مع أفكاري وبدأت أشكل لهم حلما وأملا، لكن أين الحرية الأكاديمية التي تفتح المجال للجامعات لإنتاج المعرفة؟
بناء نظم إعلامية وطنية.. كيف؟
توصلت في هذا الحوار إلى نتيجة مهمة هي أن كل دولة يجب أن تعمل لزيادة قوتها الإعلامية ببناء نظام إعلامي وطني يوفر لجماهيرها المعرفة، حتى لا تضطر هذه الجماهير للاعتماد على وسائل الإعلام الغربية.
لذلك قررت العودة إلى مصر، وكنت أمني نفسي بأن أقود الكفاح لتحرير الإعلام من التبعية للسلطة وللغرب، وأن أبني نظاما إعلاميا وطنيا يشكل أساسا لمجتمع المعرفة الذي يحقق قوة الدولة في كل المجالات.
ولقد تفاعل طلابي مع أفكاري، وبدأت أشكل لهم حلما وأملا، لكن أين الحرية الأكاديمية التي تفتح المجال للجامعات لإنتاج المعرفة؟ لذلك بدأت أتعرض للتهديد من كل الاتجاهات.
ليس أمامي سوى الهجرة
بعد تفكير طويل وجدت أنه لم يعد أمامي سوى الهجرة، لكنني قررت أن أركز على البحث العلمي، فقدمت كتابي “الإعلام الدولي”، ثم قدمت الكثير من الكتب والدراسات التي حاولت فيها تطوير حقوق الشعوب في المعرفة والاتصال، والكفاح لتحقيق ديمقراطية الاتصال.
كما طوّرت نظرية التحيز، وأوضحت دور النظام الإعلامي الدولي في تشويه الصور الذهنية للدول والشعوب، خاصة العرب والمسلمين.
عندما عدت إلى جامعة القاهرة عام 2009 قررت أن أشكل مدرستي العلمية في مجال الإعلام الدولي، وأعددت أجندة بحثية تشمل الكثير من الموضوعات، ووجهت طلابي لتسجيل رسائلهم للدكتوراه في هذه الموضوعات، وأشرفت على عدد كبير من هذه الرسائل.
كنت أريد أن أبني جيلا من الباحثين يقودون بالعلم كفاح الشعوب للتحرر من التبعية والاستعمار الثقافي، ولبناء نظم إعلامية وطنية جديدة.. كما عملت لإدارة مناقشة جديدة حول أوضاع الإعلام العالمي تشكل أساسا للكفاح لإقامة نظام إعلامي جديد.. لكن الأحداث أجبرتني على الهجرة من جديد. ومع ذلك، فإن العقل لم يكف بعد عن التفكير في صياغة الأساس العلمي لمرحلة كفاح جديدة لبناء نظام إعلامي جديد يوفر الفرص للحضارات والثقافات لتقدم نفسها للعالم، وتساهم في بناء عالم جديد.
وهكذا يموت البدوي واقفا يحلم بتحقيق أهداف عظيمة، ويتطلع إلى السماء، ويعبد الله وحده، ويفكر في تحقيق العدل والحرية، والكفاح ضد الاستعمار الثقافي بتحرير الإعلام من التبعية.
أراد الله لي هجرة جديدة لأتطلع لتحقيق أهداف إنسانية، فرغم الحنين للوطن، فإن الخيال ينطلق لتحرير الإنسانية كلها من الظلم والتجهيل والتضليل وتزييف الوعي لتبني عالما جديدا!