كتب سليمان صالح
يوضح نموذج نيرون أن الاستبداد أهم عوامل سقوط الإمبراطورية الرومانية وتدهورها.. عندما تم اختزال الدولة في شخص يتصرف برعونة وحمق طبقا لهواه.. لكن من المسؤول عن دمار المجتمع: الدكتاتور المستبد الذي لا يجد من يرده أو يردعه عن غيه أم الشعب الذي ارتضى الذل والهوان والخضوع والعبودية؟!
تلك قضية مهمة يجب أن يناقشها كل شعب ليحاسب نفسه على نتائج قبوله لحكم الطواغيت، ورضاه بدفع ثمن الذل بدلاً من أن يكافح، ويدفع ثمن الحرية.
تعالوا أحدثكم عن نموذج مهم للحكم الاستبدادي الذي يرتبط دائما بعدم الرشد.. فينطلق المستبد يبطش ويدمر ويخرب ويستخدم قوته الغاشمة دون خوف من شعب تمكن من إخضاعه والسيطرة عليه بعد أن سامه سوء العذاب.
عندما يرى الطاغية الدماء تسيل يزداد قلبه قسوة ووحشية، ويفقد ضميره وإنسانيته.. فماذا لو بدأ الطاغية بسفك دم أمه؟
هل يفقد المستبد عقله؟!
ماذا لو أصاب الدكتاتور المستبد غرور القوة فجعله يفقد عقله؟ هناك الكثير من النماذج في التاريخ يمكن أن تقدم لنا الإجابة.. لكن يظل نيرون حالة شاهدة على خطورة الاستبداد، وخضوع الشعوب له.
وغرور القوة يفقد الطغاة عقلهم ورشدهم، حيث يتصور المستبد أنه الأعلى والأقوى، وأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء. وكثيرا ما يبدأ بقطع الرؤوس وينتهي إلى تخريب الديار وتدميرها.
وعندما يرى الطاغية الدماء تسيل يزداد قلبه قسوة ووحشية، ويفقد ضميره وإنسانيته.. فماذا لو بدأ الطاغية بسفك دم أمه؟!
بذلك تميز نيرون عن كل الطغاة، فقد أنجبته أمه أغريبينا من رجل كان يعمل مستشارا عام 37م.. وقتل الإمبراطور كاليجولا والده، ونفى أمه التي تركت ابنها نيرون عند عمته لترعاه.
بعد مقتل كاليجولا عادت والدته أغريبينا، وقامت بإغراء عمه الإمبراطور الجديد كلاديوس ليتزوجها، ويتبنى ابنها نيرون، وقامت بتدبير المؤامرات لكي يتولى ابنها العرش بعد استبعاد الإمبراطور كلاديوس لابنه الحقيقي، وتولية نيرون وليا للعهد، ثم قامت بقتل كلاديوس بالسم بعد أن زوجت نيرون من أخته غير الشقيقة أوكتافيا.
وهكذا تمكنت من أن تجعل نيرون يعتلي عرش روما وسنه لم يتجاوز السابعة عشرة.. لكنها أرغمته على الاعتراف بأنها شريكته في الحكم، وطبع صورتها إلى جانب صورته على العملة الرومانية..
وهذا أثار سخط نيرون عليها، فالمستبد لا يقبل أحدا يشاركه في الحكم، ويجلس إلى جواره على العرش؛ حتى لو كانت أمه التي ارتكبت جريمة قتل زوجها ليصبح إمبراطورا.
بدأ نيرون يدبر المؤامرات لقتل أمه التي تجاوزت كل الحدود، وصورت نفسها على أنها الإمبراطور الحقيقي وقامت بعقد المعاهدات مع حكام الدول الأجنبية.
واستعان نيرون بقائد الحرس الذي أصدر له أمرا مباشرا وصريحا بقتل والدته.. لكن ذلك أدى إلى تزايد الغضب داخل الإمبراطورية الرومانية التي عرفت تفاصيل الجريمة.. وتناقلت ما قالته أمه عند موتها: إنها لا تصدق أن ابنها يصدر أمرا بقتل والدته!
ولمواجهة ذلك السخط العام حاول نيرون أن يقدم للشعب ما أطلق عليه “إنجازاته” التي لا يستطيع أحد تحقيقها في عشرات السنين.. كما دفع المنافقين في مجلس الشيوخ إلى إصدار قرار بتهنئته على قتل أمه لأنها كانت تقود مؤامرة ضده، وأن حياته كانت في خطر، وأنه بذلك أنقذ روما.
استخدم ذلك الاعتراف الملفق لإصدار حكم على أوكتافيا بالإعدام، وإطلاق سراح الفيلسوف الذي ظل يتمتع بنعيم سيده واحتقار شعبه
ثم قتل زوجته!
لم تتوقف شهوة نيرون لسفك الدماء، وتزايد شعوره بالشك في أقرب الناس إليه وهي أوكتافيا زوجته وأخته ابنة كلاديوس الشرعية، والتي كان زواجه منها هو طريقه لاعتلاء العرش.. لذلك قام باتهامها بالزنا وأصدر حكمه بإعدامها.
كان الشعب يحب أوكتافيا، ويرى أنها صاحبة الحق الشرعي في العرش، وأنها بريئة من تهمة الزنا، لذلك قام نيرون بالقبض على مجموعة من حراس القصر، وقام بتعذيبهم ليعترفوا أنهم مارسوا الزنا معها، لكنهم رفضوا فقام بقتلهم.
كان هناك فيلسوف اسمه أنيستوس عيّنه الإمبراطور السابق لتعليم نيرون بطلب من أمه، وقد عمل ذلك الفيلسوف المثقف في بلاط كل الأباطرة الذين اعتمدوا عليه في تبرير جرائمهم، وإخضاع الشعب لهم.
أحضر نيرون معلمه الفيلسوف، وقدم له رشوة ليعترف بأنه مارس الزنا مع أوكتافيا.. كان الشعب يعرف أن الفيلسوف كاذب، وأن نيرون يستخدمه لتضليل الشعب كما استخدمه كل الطغاة قبله.
ومع ذلك استخدم ذلك الاعتراف لإصدار حكم على أوكتافيا بالإعدام، وإطلاق سراح الفيلسوف الذي ظل يتمتع بنعيم سيده واحتقار شعبه.
وبانتهاء حياة أوكتافيا بدأ نيرون مرحلة جديدة من حياته، فانطلق يستخدم قوته الغاشمة ضد شعبه.
أشعل جشع نيرون ورغبته في الاستيلاء على ثروات الآخرين حربا بين الإمبراطورية الرومانية وبريطانيا التي كانت مجرد مستعمرة تابعة للإمبراطورية يحكمها الملك براستاتموس
وقتل زوجته الجديدة!
كما أطلق نيرون العنان لشهواته التي لم تكن لها حدود، فاختار فتاة من الشعب اسمها بوبايا، وتزوجها لأنها كانت حاملاً منه؛ قبل قيامه بقتل أوكتافيا.
كان نيرون يتمنى أن تلد له بوبايا ولدا يكون وريثا للعرش، لكنها ولدت بنتا.. وماتت هذه البنت بعد 3 أشهر؛ فأعلن نيرون أنها “إلهة”، وأن على الشعب أن يعبدها، ثم حملت بوبايا مرة أخرى، فغضب نيرون وركلها بقدمه في بطنها فماتت.
ولقد انطلق نيرون يسفك الدماء في كل مكان في الإمبراطورية التي كانت القسوة والوحشية من أهم سماتها.
وقد أشعل جشع نيرون ورغبته في الاستيلاء على ثروات الآخرين حربا بين الإمبراطورية الرومانية وبريطانيا التي كانت مجرد مستعمرة تابعة للإمبراطورية يحكمها الملك براستاتموس.
بعد وفاة الملك البريطاني براستاتموس؛ تولت الحكم أرملته بوديسيا، فنقض نيرون المعاهدة، وأرسل جنوده للاستيلاء على بريطانيا بعد أن جلدوا بوديسيا واغتصبوا بناتها أمامها.
لكن هذه المرأة القوية استطاعت أن تجمع حولها الشعب وقادت تمردا ضد الإمبراطورية الرومانية، وتمكنت من هزيمة الجيش الروماني، وقتل الآلاف منه.
ومع ذلك استمر نيرون في الحرب، وأعاد بناء جيشه الذي تمكن من هزيمة بوديسيا، لكن بعد أن تدفقت الدماء من الجانبين.
ارتبطت العروض الموسيقية التي قدمها نيرون بالألعاب الأوليمبية.. والتي لم يكن من الممكن إقامتها ون مشاركته
الفنان عاشق الموسيقى
يؤكد المؤرخون الغربيون دائما على أن نيرون كان فنانا عاشقا للتراث الإغريقي.. وكدليل على تميزه كفنان يشيرون إلى أنه قد شارك في الكثير من المهرجانات التي قدم فيها عروضا موسيقية.. وحصل على 1808 جوائز عن تلك العروض.
وقد ارتبطت العروض الموسيقية التي قدمها نيرون بالألعاب الأوليمبية.. والتي لم يكن من الممكن إقامتها دون مشاركته.. لذلك كان يتم تأجيل هذه المهرجانات؛ عندما كانت تحول ظروف الحرب دون مشاركة نيرون فيها، وكان الكثير من المغنين والممثلين يشاركون في عروضه الموسيقية. وكانت هذه المهرجانات تتم في اليونان التي كان يعشقها، والتي كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية.. وردا على الجوائز التي كان يمنحها اليونانيون لنيرون على عروضه الموسيقية، وعزفه المتميز قدم نيرون لليونانيين جائزة مهمة تتمثل في إعفائهم من الضرائب.
ومن الواضح أن المؤرخين قد ركزوا على صورة نيرون الفنان عاشق الجمال، وراعي الفنون والمهرجانات الأوليمبية. ولذلك جاء إعفاؤه لليونانيين من الضرائب في الوقت الذي فرض فيه ضرائب باهظة على الناس في روما وفي كل أنحاء الإمبراطورية.
كانت الجريمة ثابتة شهد عليها الناجون من الحريق، وهي جريمة تشكل عارا للحضارة الرومانية.. فماذا فعل نيرون بعد ذلك؟!
حرق روما
تؤكد الكثير من المصادر أن نيرون هو المسؤول عن حريق روما، حيث أصدر أوامره بإشعال الحريق في سيرك ماكسيموم.
لكن الحريق امتد بسرعة، ليأتي على روما كلها، وكان نيرون خلال الحريق يجلس على جبل يشرف على روما، ويستمتع بالعزف على آلاته الموسيقية؛ وهو يشاهد روما تحترق.
بعد أن توقف الحريق نزل ليشرف على جهود الإغاثة وشكل ذلك حيرة شديدة للمؤرخين الذين حاول بعضهم نفي التهمة عن نيرون.
لكن كانت الجريمة ثابتة شهد عليها الناجون من الحريق، وهي جريمة تشكل عارا للحضارة الرومانية، فماذا فعل نيرون بعد ذلك؟!
كان هناك مجموعة من المسيحيين قبل أن تنتشر المسيحية، وتصبح الديانة الرسمية للإمبراطورية.. وكان نيرون يشن حرب الكراهية ضد هذه المجموعة، ويطلق المنافقين في روما لتشويه صورتهم وتوجيه الاتهامات لهم.
وقد جاء حريق روما فرصة لنيرون ليقوم بتعذيب هذه المجموعة، وقتل الكثير منهم بعد اتهامهم بأنهم هم الذين أحرقوا روما.. وابتكر نيرون أساليب جديدة في تعذيب المسيحيين، من أهمها إطلاق الكلاب عليهم لتمزيق جثثهم، وصلبهم، وإشعال النار في جثثهم لتضيء ليل روما المحترقة.
وهكذا تخلص نيرون من المسيحيين في روما.. ثم استغل الحريق بأسلوب جديد؛ حيث قام ببناء قصر جديد على المساحة المحترقة من روما، واستخدم في بنائه الذهب الخالص حيث أطلق عليه القصر الذهبي، وبنى في مدخله نصبا تذكاريا فخما عليه تمثال لنيرون يمكن أن تراه روما كلها.
هذا يعني أن نيرون أحرق روما ليبني على أنقاضها قصره الذهبي وعاصمته الجديدة.. لكن عصر نيرون انتهى بأسرع مما كان يتوقع، فقد كانت نفقات نيرون المالية على عاصمته وقصره الجديد أكبر من أن تتحملها الإمبراطورية الرومانية كلها.
ولم تستطع كذلك الضرائب التي فرضها على الناس تغطيتها، إذ لم يستطع الناس أن يتحملوا أعباء الحياة، وفضلوا الموت على الجوع والفقر، كما شكلت خيانة الحرس الإمبراطوري نهاية حكمه، وهو ما فعله في سلفه الإمبراطور كلوديوس.
كما امتلك مجلس الشيوخ الجرأة ليعلن أن نيرون هو عدو الشعب.. وعندما أدرك نيرون أنه فقد كل قوته، وتخلى عنه الجميع لجأ إلى الانتحار قائلاً: “يا له من فنان عظيم ذلك الذي يموت في داخلي”.
وبعد انتحاره عمت الفوضى في الإمبراطورية الرومانية.. وكان استسلام الشعب وخضوعه للطغيان هو سبب الفوضى والفقر والهزائم والدمار، ولكن هل تتعلم الشعوب من التاريخ؟!