كتب هشام الحمامي
ألف شهر تعني 83 سنة وكسور من الشهور، وهي تقريبا المدة الزمنية التي عاشتها الدولة الحشمونائية؛ نتنياهو هو من أخبرنا بذلك، أو بالأحرى لفت نظرنا إلى ذلك منذ سبع سنوات حين قال إنه لم تعمر دولة للشعب اليهودي أكثر من ثمانين سنة، باستثناء فريد استمرت به هي دولة الحشمونائيم، بين عامي 140 و37 قبل الميلاد.. لكن القراءات التاريخية تؤكد قراءة العقود الثمانية باعتبارها حقيقة تاريخية، إسرائيل أصلا استدعت التاريخ وكونت به “سردية” أقامت بها “دولة”!
يقول إدواردو جاليانو (ت: 2015م)، كاتب أوروجواي الشهير: المذبحة الكبرى التي نظمها هتلر كانت امتدادا لتاريخ أوروبي طويل، لقد كان اصطياد اليهود “تسلية” أوروبية على الدوام، والفلسطينيون الذين لم يمارسوا هذا “التسلية” قطّ هم من يدفعون الثمن اليوم.
وهذا على الرغم من أن تاريخهم الاجتماعي في الحضارة الإسلامية، كان تاريخا يتذكرون به المساواة والحرية، كما قال أبا إيبان (ت: 2002م) وزير خارجية إسرائيل الأسبق في مذكراته: اليهود لم ينعموا بالحرية والكرامة إلا في ظل دولتين، دولة الحضارة الإسلامية في القرون الوسيطة، ودولة الولايات المتحدة الأمريكية الآن (فصول من مذكرات أبا إيبان، مراجعة أ. صبحي عمر).
* * *
الشهور العشرة الماضية من “طوفان الأقصى” كانت أشبه بالمطرقة التاريخية الكبرى التي نزلت على رأس الأحداث والوقائع، فأحدثت بها “طفرة” كتلك الطفرة الجينية
وبحديث نتنياهو عن الدولة الحشمونائية الذي جاء في أحد الأعياد اليهودية (عيد العرش) سنعرف أنها سلالة حكمت الضفة الغربية والجليل، بشكل شبه مستقل، وكثير من المؤرخين يعتبرون أن الدولة الحشمونائية هي بداية مملكة إسرائيل المستقلة التي تعرضت لغزو الإمبراطورية الرومانية للشرق في عام 63 قبل الميلاد، والتي قسمتها وأقامتها كدولة “عميلة” لها في المنطقة؛ تخدِم على مصالحها إلى أن قام هيرودس الكبير (ت: 4 ق.م) بطردهم..
كل هذا تاريخ لا قيمة له في تاريخ الحضارة الإنسانية، إلا بقدر ما يقدم من معرفة عن صعود وانحدار الأمم، وما يصاحب ذلك من ظلم الإنسان لنفسه، بابتعاده عن غايات وجوده على الأرض ميلادا ومماتا.
* * *
الشهور العشرة الماضية من “طوفان الأقصى” كانت أشبه بالمطرقة التاريخية الكبرى التي نزلت على رأس الأحداث والوقائع، فأحدثت بها “طفرة” كتلك الطفرة الجينية التي تحدث في تتابع الـ”دي إن إيه” فتؤدى إلى تغيير في قواعد الاستنساخ، يقول العلماء إنها وليدة حدث مفاجئ وتغيرات بيئية وما إلى ذلك..
ذلك أن الأمة عاشت طوال العقود السبعة الأخيرة على حقيقة واحدة هي الصراع مع إسرائيل، وكانت الستينيات والسبعينيات ذروة تشابك هذا الصراع، وتداخله وتدخله في كل تفاصيل الواقع العربي من سياسة واقتصاد واجتماع وأدب.. الخ. وتم تشكيل واقع يشبه الحقيقة، وإن كان لا علاقة له بالحقيقة على الإطلاق، فماذا يقول هذا الواقع؟
يقول إن إسرائيل قَدَر حتمي، وأنها وجدت لتبقى، وأن من يحاربها فهو سيحارب أمريكا.. ولعل هذه الجملة الأخيرة هي أصدقها، وقد رأينا وسمعنا شواهد تؤكد ذلك وتثبته، لكن الأهم الذي ثبت منه هو أن ذلك ليس بشيء!
مساءلة النظام العربي الرسمي من الخمسينيات، تاريخيا أو سياسيا، لن يكون أمرا ذا فائدة في حركة خط الصراع الذي يسير الآن في صالح الأمة، يوم المساءلة آت آت، لا محالة، إن لم يكن بالحق الطبيعي، فبالحق التاريخ هو آت.
* * *
الواقع الآن اكتسب خصائصه من وقائعه التي تجري على الأرض، والكلام هنا لن يكون كلاما عما هو تاريخي كما قال نتنياهو عن الدولة الحشمونية. الكلام هنا الآن عما هو استراتيجي، فصحيفة يديعوت أحرونوت قالت من أسبوعين أن 10 آلاف قتيل وجريح إسرائيلي سقطوا من الجيش خلال هذه الحرب.. وهو ما أكده تصريح من داخل الجيش الإسرائيلي نفسه الخميس (15 آب/ أغسطس).
والأمر فعلا لم يكن ينقصه إلا الإعلان الرسمي، فالمراقبون من شهور وهم يقارنون بين ما تعلنه المقاومة صوتا وصورة، وبين ما يعلنه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، مؤكدين لنا أن أرقامهم المعلنة تضرب في عشرة وعشرين، وهو ما ثبتت صحته.
* * *
على أن قطاع غزة لا يُقارن بجبهات المواجهة الأخرى وعلى رأسها حزب الله، والذي رغم دوره المساند كما هو معروف، إلا أني أتوقع أنه سيندم كثيرا، لضعف قراءته للفرصة السانحة التي جاءت من “طوفان الأقصى”، لحظة الندم هذه لا نتمناها أبدا، وأقل ما يقال فيها أنها لم تكن من القلب الاستراتيجي لمصالح الأمة إذا عُدت إسرائيل هي رأس الرمح لغرب يعادينا ويحاربنا من القرن الثامن عشر، ولا زال.
ثم إن الواقع الدولي (الصين وروسيا وكوريا..) ما كان ليقف منتظرا النتائج أمام هكذا واقع دولي جديد يتشكل بقوة الحديد والنار، ناهيك عن الحضور الشعبي الذي لا يزال بالفعل رقما غائبا، ولم تتوافر له ظروف تحوله لرقم مهم، وقد كان ذلك متوقعا إذا ما اتسعت دائرة المواجهة الهادفة للوصول “الحلم العربي” الذي طالما كان أغاني وموسيقا، وأصبح على مسافة محطة أو محطتين في الحقيقة.
* * *
خروج أعداد القتلى والمصابين من الرقابة العسكرية ليس مقصودا منه توفير أخبار مثيرة للإعلام، خاصة أذا أضفنا إليه تصريح الجيش السبت (17 آب/ أغسطس)، بأنه أنهي العمليات في غزة.
الأخطر بالفعل هو تمزق التماسك الاجتماعي داخل هذه الدولة الهجين، الجميع يحذر من حرب أهلية داخل “الدولة اليهودية”. جانتس قالها صراحة: “حرب الأشقاء” قد تندلع في أي لحظة، والغرب يحذر من أن إسرائيل تسير نحو الانهيار، أصوات وأقلام كثيرة تحدثت وكتبت عن حرب داخلية وشيكة
المؤكد بالفعل أن المقصود به الإشارة المنذرة بـ”اتساع الفجوة بين القول والفعل”، فتصريحات السياسيين وتوصيفاتهم للحرب لا علاقة لها بالواقع العملي والميداني، والجيش في حاجة حقيقية إلى أن يجمع الجميع ويضعهم معه في إطار المشهد الحقيقي للواقع.
* * *
لكن الأخطر بالفعل هو تمزق التماسك الاجتماعي داخل هذه الدولة الهجين، الجميع يحذر من حرب أهلية داخل “الدولة اليهودية”. جانتس قالها صراحة: “حرب الأشقاء” قد تندلع في أي لحظة، والغرب يحذر من أن إسرائيل تسير نحو الانهيار، أصوات وأقلام كثيرة تحدثت وكتبت عن حرب داخلية وشيكة، فالجميع مسلح الآن على يد بن غفير وسيموترتش، وأحاديث تحذر من موجة اغتيالات في الطبقة السياسية، ناهيك عن الصورة التي سيكون عليها “الجيش الذي لا يقهر” داخل المجتمع الذي يعاني كل هذه الشروخ ولم يكن له إجماع إلا على هذا الجيش.
* * *
عشرة شهور وأكثر قليلا مضت على “طوفان الأقصى”، وحدث فيها من التغيير اللافح لواقع الشرق الأوسط، وفي القلب منه قضية الأمة (فلسطين والأقصى)، ما كان يحتاج إلى ألف شهر، بدءا من انكشاف أكذوبة القرن (إسرائيل)، وانتهاء بإعلان البشارة بالقادم الجديد إلى هذا الشرق “المقاوم وما بينهما من روائع الوقائع، ستحكيها لنا الأيام والليالي القادمة، أبسطها: انتشار الوعي الصحيح بالإسلام الصحيح.. والذي كان أحد أهم بركات الشهور العشرة أقصد “ألف شهر”.