في السنة النبوية عدد من التوجيهات الراقية التي تتعلق بما يصطلح عليه بمراعاة الذوق العام، وهي مجموعة السلوكيات والآداب العامة المتعلقة بالحفاظ على المظهر العام للأشخاص والأماكن ومحاسن العادات، وحسن التعامل مع الموارد والمرافق العامة، وليس بغريب على هذه الشريعة المطهرة التي جاءت بكل ما يتناسب مع كرامة هذه الإنسان وسمو مقامه.
أولا: مراعاة الذوق العام في اللباس:
جاءت التوجيهات النبوية الكثيرة المتعلقة باللباس، ومن تلك التوجيهات ما يتعلق بالنهي عن الملابس غير الساترة للمرأة على سبيل المثال، وجاء التحذير من ذلك، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا».
ومعنى ذلك: أنها تلبس ثيابا رقيقة، فتستر بعض بدنها وتكشف البعض الآخر، كما قال النووي في شرحه على صحيح مسلم.
ولذلك فإن كثيرا من الدول تضع مجموعة من اللوائح والأنظمة التي تتعلق بالذوق العام، وتمنع من مظاهر اللباس التي تخدش الحياء في الأماكن العامة مراعاة للذوق العام.
وجاء النهي أيضا عن لبس المرأة للباس الرجل والعكس أيضا، ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة، قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل». ولا شك أن مظهر التشبه بين الجنسين من الأمور المنافية للفطرة، وهو سلوك معيب لدى أهل الطباع السليمة.
وجاء النهي أيضا عن لباس الشهرة الذي يتميز به اللابس عن سائر الناس بقصد الشهرة، ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة». والمقصود بثوب الشهرة: ما يشتهر به بين الناس بأن يكون في غاية الحسن والارتفاع، أو يكون في غاية الخشونة والانخفاض؛ لأن الكل يكسبه الشهرة، والذي ينبغي للمؤمن أن يكون ثوبه وسطًا، وخيار الأمور أوساطها، قال ابن الأثير في النهاية: المراد به ما لبس من لباس الرجال فيشتهر بينهم لمخالفة ثوبه لألوان ثيابهم، وقال القاضي عياض المراد بثوب الشهرة: ما لا يحل لباسه وإلا لما رتب الوعيد عليه أو بما يقصد بلبسه التفاخر والتكبر على الفقراء أو ما يتخذه الناس مسخرة ويجعل نفسه ضحكة بين العباد. ومن الملابس ما يكون في أصله مباح لكن لبسه من خوارم المروءة، ومما يخل بالذوق العام، ويطلق عليها في بعض اللوائح “الملابس غير اللائقة”، فيمنع لبسها في الأماكن العامة، وينبغي أن تكون في المساجد ممنوعة من باب أولى، فقد أمر المسلم بنص الآية أن يأخذ زينته للقدوم إليها، كما قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31].
ثانيا: مراعاة الذوق العام في الطرقات والمجالس:
جاءت السنة بعدة توجيهات تتعلق بمراعاة الذوق العام في الطرق والمجالس، من إفشاء السلام، وغض البصر، وإزالة ما يؤذي الناس في طريقهم، والتوسعة في المجلس لمن أراد الجلوس، وتقديم الكبير في المكان، وغيرها من الأحاديث الواردة في ذلك.
ففي صحيح ابن حبان وسنن الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له».
وفي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل».
ومن ذلك الترغيب بالتشجير والزرع فهذا من مظاهر مراعاة الذوق العام ففي الصحيحين عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة».
وكذلك الترغيب بإحياء موات الأرض، وهذا يحول الأرض المهجورة والمقفرة إلى عمار وازدهار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق».
وفي مراعاة الذوق العام في المجالس توقير كبار السن والقدر فيها بالتوسيع لهم، ففي مسند أبي يعلى عن أنس قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه فإذا هو شيخ قد أقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا».
ثالثا: مراعاة الذوق العام في التعامل مع الموارد الطبيعية (الماء):
من تلك الموارد التي جاءت التوجيهات الكثيرة بخصوصه هو الماء، ولا سيما في التصرفات التي قد هي من قبيل المكروهات كالاستعمالات التي تنافي الذوق العام مما يعكر على الآخرين الاستفادة منها. من ذلك النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة، قال: «يتناوله تناولا». ومن ذلك النهي عن الشرب من أفواه الآنية التي يحفظ بها الماء، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن اختناث الأسقية» قال عبد الله: قال معمر، أو غيره: «هو الشرب من أفواهها».
ومن ذلك النهي عن التنفس في آنية الشرب، ففي الصحيحين عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء».
يقول المظهري في شرح المصابيح: وإنما نهى أن يتنفس في الإناء وينفخ فيه؛ لأنه ربَّما يقع من بُزاقه شيء في الإناء أو يتغيَّر الماءُ برائحة فمِه، فيحصل للناس تقزُّزٌ من ذلك، فالأدب أن لا يفعل شيئًا يحصل للناس منه تقزُّز.
رابعا: مراعاة الذوق العام في الأكل:
لما كان من طبيعة الأكل اجتماع الآكلين فيه جاءت السنة النبوية بمجموعة من التوجيهات الراقية التي يرجع بعضها إلى مراعاة الذوق العام.
من ذلك: الأمر بالأكل مما يلي الآكل، فإن مد اليد إلى الطعام الذي يلي الآخرين مما يستقبح فعله عند أهل الطباع السليمة، ففي صحيح مسلم عن عمر بن أبي سلمة، أنه قال: أكلت يوما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت آخذ من لحم حول الصحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مما يليك».
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: وهى سنة متفق عليها؛ لأن كل أكل جاء ما يليه من الطعام فإدخال غيره يده عليه وتركه ما أمامه قبيح، ومشاركته له فيما فيه حوزة بغير إذنه، مع ما في ذلك من تقزز النفوس بما خاضت فيه الأيدي.
ومن ذلك: التوجيه بلعق الأصابع، والتخلص من بقايا الطعام العالقة على الأصابع، والاقتصار في الأكل على ثلاث أصابع، ففي الصحيحين عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم طعاما، فلا يمسح يده حتى يلعقها». وفيهما عن كعب بن مالك، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ويلعق يده قبل أن يمسحها».
خامسا: مراعاة الذوق العام في العطاس:
دلت السنة على مراعاة الأدب والذوق العام في العطاس من جهتين: الأولى: تغطية الفم عند العطاس، الثانية: خفض الصوت بالعطاس، ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه وغض بها صوته» يقول الطيبي في شرح مشكاة المصابيح: هذا نوع من الأدب بين يدي الجلساء وذلك؛ لأن العاطس لا يأمن عند العطاس ما يكرهه الراؤون من فضلات الدماغ.
وإذا تأملنا السنة النبوية وجدنا ما لا يحصى بمثل هذه المقالات من الآداب والتوجيهات التي تراعي جوانب الآداب العامة التي تتصل بالذوق العام، والحث على محاسن العادات، وحسن المظهر، وسائر ما يتصل بالسمو والرقي في العادات والأحوال.
الحياء والستر صفتان يُوصَف بهما الله عز وجل على ما يَلِيق به سبحانه، ولا يَلْزَم مِن إثباتِهما ووصفِه بهما تشبيهه بالمخلوقات ولا تمثيله بها، فاستحياؤه وستره سبحانه ليس كاستحياء وستر المخلوقين. والقول في صفةِ الحياء والستر لله عز وجل كالقولِ في سائرِ الصفات ممَّا أَثْبَتَه اللهُ عز وجل لنَفْسه في كتابِه الكريم أو أَثْبَتَه له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، لأنه لا أحَدَ أَعْلَم بالله مِن نَفْسِه، ولا مخلوق أَعْلَم بخالِقِه مِن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم..
والمُعْتَقَدُ الصحيح في صفات الله عز وجل هو الإثبات مع نفيِ مُماثَلة المخلوقات، جرياً على قاعدة أهل السنة في الإثباتِ والتنزيه، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال القرطبي: “والذي يُعْتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحُسْنى أسمائه وعَليِّ صفاته، لا يشبه شيئا مِنْ مخلوقاته ولا يُشبه به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}”. وقال السعدي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة.. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المُشَبِّهَة في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المُعَطِّلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}”. وقال ابن عبد البر: “أهل السنة مُجْمِعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها”. وقال ابن تيمية في “منهاج السنة النبوية”: “ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، مِنْ غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومِنْ غَيْر تَكْيِيِّفٍ ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات”. وقال الشيخ ابنُ عُثَيمين في “القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى”: “السَّلَف الصَّالح مِن صَدْرِ هذه الأُمَّة، وهم الصَّحابة الذين هم خير القُرونِ، والتَّابعون لهم بإحسانٍ، وأئمَّةُ الهُدى مِن بَعْدِهم: كانوا مجمِعينَ على إثباتِ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه، أو أثبَتَه له رَسولُه صلى الله عليه وسلم مِنَ الأسماءِ والصِّفات، وإجراءِ النُّصوص على ظاهِرِها اللَّائِق بالله تعالى، من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، وهم خيرُ القُرونِ بنَصِّ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وإجماعُهم حُجَّة مُلزِمة لأنَّه مُقتَضى الكِتاب والسُّنَّة”.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ واحدٍ صفة الحياء والستر لله عز وجل. عن يَعْلَى بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللهَ تعالى حييٌّ سِتِّير، يُحبُّ الحياءَ والسَّتر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني وغيرهما. وللستير روايتان إحداهما كسر السين وتشديد التاء مكسورة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (حييٌّ سِتِّير)، وذهب الأكثرون إلى أنه بوزن رَحِيم، أي: بسين مفتوحة، وتاء مكسورة، وكذلك ضبطه ابن الأثير كما قال في “النهاية في غريب الحديث”: “(إِنَّ اللَّهَ حييٌّ سَتِير، يُحِبُّ الحَياء والسَتْر) سَتِير: فَعِيل بمعْنى فاعِل: أَيْ مِنْ شَأنه وإرادتَهِ حُبُّ السَّتر والصَّون”. وأجاز بعض العلماء فيه الوجهين، وقال الدهلوي: “بالتشديد، وصح أيضًا بفتح السين”.
