You are currently viewing إستراتيجية بايدن للأمن القومي الأميركي (8) | تناقضات فاضحة

إستراتيجية بايدن للأمن القومي الأميركي (8) | تناقضات فاضحة

 

محمود عبد الهادي

الرئيس الأميركي جو بايدن (الفرنسية)

حددت إستراتيجية الرئيس بايدن للأمن القومي الأميركي بشكل واضح أن الولايات المتحدة “تريد نظاما دوليا حرا ومنفتحا ومزدهرا وآمنا، نظاما حرا يسمح للناس بالتمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية والعالمية، ومنفتحا يوفر لجميع الدول التي توقع على هذه المبادئ فرصة المشاركة في وضع القواعد والمساهمة في تشكيلها، ومزدهرا يمكن جميع الدول من رفع مستوى معيشة مواطنيها باستمرار، وآمنا خال من العدوان والإكراه والترهيب”.

لكن كيف يمكن للولايات المتحدة، أن تحقق ذلك في ظل سياساتها المستكبرة وممارساتها الظالمة وأنانيتها المتسلطة التي تهيمن على أداء إداراتها المتعاقبة بصورة كشفت عن حجم التناقضات القائمة بين ما جاء في إستراتيجية بايدن، على سبيل المثال، وبين ما تقوم به إدارته على أرض الواقع.

بدلاً من أن تنطلق الولايات المتحدة لإدارة تحديات المرحلة القادمة بصورة توافقية تشاركية، على مستوى جميع دول العالم وتكتلاته الإقليمية ومنظماته الدولية، نجدها تتجه في مسار منفرد مع حلفائها وشركائها للقيام بذلك، دونما اعتبار لبقية دول العالم وتطلعاتها ومطالبها، مما يجعل احتمالات الصدام بين المسارين في النهاية مرتفعة جدا

تناولنا في المقالات السبع الماضية إستراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي قدمها الرئيس بايدن لمجلس الشيوخ في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأوضحنا الخلفية التاريخية لإستراتيجيات الأمن القومي الأميركي، وأهميتها والجهة المسؤولة عن إعدادها، وحجم الخلاف بينها وبين الإستراتيجيات التي يقدمها الرؤساء الجمهوريون.

وقد فصلنا القول في استعراض الأقسام الرئيسية التي اشتملت عليها الإستراتيجية، في سابقة لم تحدث في وسائل الإعلام من قبل، لتقديم صورة متكاملة للقارئ الكريم، تزيده فهماً لهذا النوع من الخطط، وتزيده استيعابا للأسس الإستراتيجية التي تحكم أداء الإدارات الأميركية المتعاقبة ومؤسساتها التنفيذية، نظرا للاستعجال والاختصار الذي يغلب عادة على وسائل الإعلام عند تناولها لمثل هذه الأعمال.

وفي هذا المقال الأخير من السلسلة، نقف عند أبرز التناقضات التي وقعت فيها الإستراتيجية:

قيادة العالم

في أول خطاب رئاسي له بعد تولّي الرئاسة، أعلن الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة عادت لتقود العالم من جديد، في ردة فعل تصحيحية على إدارة سلفه الرئيس دونالد ترامب. وقد عادت الإستراتيجية لتؤكد على الدور الدائم للولايات المتحدة باعتبارها القوة الرائدة في العالم، والعالم الآن أحوج ما يكون إلى هذا الدور الأميركي القوي والهادف من أي وقت مضى، وأن قوة وجودة المشروع الأمريكي في الداخل مرتبطان ارتباطا وثيقا بقيادتنا في العالم.

مع ذلك، فإن الولايات المتحدة تقود العالم حاليا إلى هاوية الانفجار المحقق، وبدلا من أن تستغل مكانتها القيادية للعالم، لبسط السلام والأمن، وتحقيق الاستقرار والتنمية، فإنها مازالت تستغل هذه المكانة للقيام بمغامرات سياسية وعسكرية، باهظة التكلفة، زادت العالم توترا واضطرابا ومعاناة، ويكفي أن نذكر التكلفة التي تجاوزت 8 تريليونات دولار وحوالي مليون قتيل على مدى 20 عاما لحروبها في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها من الدول ضمن ما أسمته “الحرب على الإرهاب”، بعد الهجمات الغامضة على برجي التجارة الدوليين بمدينة نيويورك في سبتمبر/ أيلول 2001.

العقد الحاسم

لأول مرة تشير إستراتيجيات الأمن القومي الأميركي إلى أن الولايات المتحدة حالياً تعيش في السنوات الأولى من العقد الحاسم بالنسبة لأمريكا وللعالم، لتتمكن أميركا من تعزيز مصالحها الحيوية، والتغلب على المنافسة الصينية، والتهديد الروسي، والتصدي للتحديات المشتركة، وحث الدول على اتخاذ إجراء عالمي فوري لمواجهة تغيرات المناخ، والتفوق في المنافسة مع الصين وغيرها، حيث يمثّل هذا العقد نقطة انعطاف في مسار تحديد موقع الولايات المتحدة التنافسي لفترة طويلة في المستقبل، وأن على الولايات المتحدة أن تواجه تحديات هذا العقد بالشراكة مع البلدان والشعوب في جميع أنحاء العالم، لتحقيق النجاح في نهاية المدة.

فالإستراتيجية إذا تتكلم عن جدول زمني محدد، وعن أهداف واضحة ستقود الولايات المتحدة العالم للعمل على تحقيقها في غضون السنوات المتبقية، أي مع نهاية عام 2030، وأن الولايات المتحدة، حسب الإستراتيجية، لن تترك مستقبلها عرضة لأهواء أولئك الذين لا يشاركونها رؤيتها لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن، في إشارة إلى الصين وروسيا وشركائهما، الذين يمثلون كتلة سكانية تزيد عن ربع سكان العالم، وإمكانات عسكرية واقتصادية هائلة ومنافسة، فضلاً عن أن كلتا الدولتين نوويتان وعضوان دائمان في مجلس الأمن.

بدلاً من أن تنطلق الولايات المتحدة من (قيمها ومبادئها) لإدارة تحديات المرحلة القادمة بصورة توافقية تشاركية على مستوى جميع دول العالم وتكتلاته الإقليمية، ومنظماته الدولية، نجدها تتجه في مسار منفرد مع حلفائها وشركائها للقيام بذلك، دونما اعتبار لبقية دول العالم وتطلعاتها ومطالبها، ما يجعل احتمالات الصدام بين المسارين في النهاية مرتفعة جداً.

النظام القائم على القواعد الأميركية

تقرّ الإستراتيجية أن الولايات المتحدة تخوض حاليا منافسة إستراتيجية كبيرة لتشكيل مستقبل النظام الدولي، وأنه لا توجد دولة في وضع أفضل للنجاح في هذه المنافسة من الولايات المتحدة، التي ستقود العالم بقيمها، وستعمل على قدم وساق مع حلفائها وشركائها ومع جميع أولئك الذين يشاركونها مصالحها، للدفاع عن هذا النظام، وأن الصين هي المنافس الوحيد الذي لديه النية والقدرة على إعادة تشكيل النظام الدولي لصالحها، وأن الولايات المتحدة ستتشارك مع أي دولة تشاركها إيمانها الأساسي بأن النظام القائم على القواعد يجب أن يظل أساس السلام والازدهار العالميين.

مرة أخرى نجد الولايات المتحدة تخرج عن مسؤوليتها التاريخية، لتنتهج سياسة الإملاءات. فالنظام الدولي هو ما تراه الولايات المتحدة وحلفاؤها، والقواعد التي يقوم عليها هذا النظام، هي القواعد التي تحددها الولايات المتحدة وحلفاؤها، بدلاً من أن تتحرك عبر الهياكل الدولية لمراجعة النظام الدولي القائم الذي فرضته نتائج الحرب العالمية الثانية، وإدارة حوار واسع النطاق بمشاركة جميع المستويات الرسمية وغير الرسمية، لنقده وتقويمه وتطويره في مدى زمني محدد، ووضع آليات ثابتة لاستدامة تطوير النظام بصورة توافقية تحقق المصالح المشتركة للجميع، وتدفع باتجاه تعزيز السلم والاستقرار والتنمية والتكامل.

إن هذا النهج سيزيد من احتمالات الصدام في السنوات القادمة، مع الصين وروسيا، اللتان تصرّان على حتمية تعديل النظام الدولي الراهن، وعدم الإذعان لرؤية الولايات المتحدة وإملاءاتها.

استهداف الصين

تقف الصين على رأس التحديات الإستراتيجية للولايات المتحدة، وقد جاءت إستراتيجية الرئيس بايدن في ذلك منسجمة مع إستراتيجيات الدفاع القومي السنوية التي تقدمها وزارة الدفاع الأميركية للإدارة الأميركية، والتي اتخذت موقفاً تصعيدياً ضد الصين اعتباراً من عام 2017.

ورغم تأكيد الإستراتيجية على وجوب احترام المبادئ الأساسية لتقرير المصير وسلامة الأراضي والاستقلال السياسي، ورغم إقرارها بمبدأ الصين الواحدة التي تضم تايوان، ومعارضتها لاستقلال تايوان، فإن تعامل الولايات المتحدة مع تايوان بمستوى تعاونها مع أي دولة أخرى، بل وترفض أي تحرك صيني لبسط السيادة على تايوان، لمنع سيطرة الصين على الممرات المائية، وخاصة بعد أن أصبحت الصين المنافس الأكبر الذي يتطلع إلى تغيير النظام الدولي وإنهاء تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم.

أفظع تناقضات إستراتيجية بايدن، وأكثرها إثارة للسخرية، حديثها عن الديمقراطية والاستبداد، حيث تقسّم دول العالم إلى ديمقراطية ومستبدّة، أما المستبدّة، فهي الدول التي لا تقبل بقيادة الولايات المتحدة، وترفض الانصياع لنظامها الدولي، وهي الصين وروسيا وحلفاؤهما، وأما الديمقراطية فهي الدول التي تقبل بزعامة الولايات المتحدة ونظامها الدولي، بغض النظر عن مدى التزام هذه الدول بالقيم الديمقراطية

الالتفاف على روسيا

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ اقتربت روسيا كثيراً من الولايات المتحدة والغرب، وصارت عضواً في مجموعة الثماني الكبار ومجموعة الـ20 الاقتصادية، ولكنها ظلت الدولة التي تمتلك أكبر احتياطي نووي في العالم، وعضواً دائماً في مجلس الأمن، والشريان الحيوي الذي يمدّ أوروبا بالطاقة، وتصطدم مع سياسات الولايات المتحدة الدولية من حين لآخر، وخاصة في مناطق نفوذها أو مصالحها الحيوية، حتى أصبحت تشكل تهديدًا مباشراً للنظام الدولي الحرّ والمفتوح حسب الإستراتيجية، وهو السبب الرئيس وراء تصاعد الموقف العدائي ضد روسيا، حيث تلتقي روسيا مع الصين في هذا الموقف. وكانت أوكرانيا ساحة النزال، التي انتهزتها الولايات المتحدة لإجبار روسيا على التسليم بزعامتها وقيادتها للعالم.

وبدلا من أن تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين على احتواء أزمة روسيا مع أوكرانيا في مهدها، بالطرق الدبلوماسية، أفسحت المجال للحرب كي تشتعل وتستعر وتستمر، وتحدث ما أحدثته من دمار وخراب ومآس إنسانية، حتى أننا لم نعد نرى أو نسمع يومياً سوى التنديد بالموقف الروسي والإصرار على زيادة الدعم العسكري واللوجستي والإنساني للجيش الأوكراني والشعب الأوكراني، باستثناء بعض العبارات الدبلوماسية الهزيلة المصحوبة بالتنديد والتهديد.

ولاتزال الولايات المتحدة تصرّ على دعم أوكرانيا وتشجع اندماجها في الاتحاد الأوروبي، إمعاناً في تعقيد الأزمة التي زادت تأثيراتها العسكرية والاقتصادية والإنسانية من معدّل الاضطراب والتوتر على مستوى العالم.

بين الديمقراطية والاستبداد

أفظع تناقضات إستراتيجية بايدن، وأكثرها إثارة للسخرية، حديثها عن الديمقراطية والاستبداد، حيث تقسّم دول العالم إلى قسمين، ديمقراطية ومستبدّة، وترى الإستراتيجية أن الولايات المتحدة ستعمل على تعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، لأن الحكم الديمقراطي يتفوق باستمرار على الاستبداد في حماية كرامة الإنسان، ويؤدي إلى مجتمعات أكثر ازدهارًا ومرونة، ويخلق شركاء اقتصاديين وأمنيين أقوى وأكثر موثوقية للولايات المتحدة، ويشجع على قيام نظام عالمي سلمي.

أما الدول المستبدة المقصودة، فهي الدول التي لا تقبل بقيادة الولايات المتحدة، وترفض الانصياع للنظام الدولي القائم على القواعد، وهي الصين وروسيا وحلفاؤهما، أما الدول الديمقراطية، فهي الدول التي تقبل بزعامة الولايات المتحدة ونظامها الدولي القائم على القواعد، بغض النظر عن مدى التزام هذه الدول بالقيم الديمقراطية، ويندرج تحت هذا النوع جميع دول العالم بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم، والممارسات التي يقوم بها. ومن هنا نجد الإدارة الأميركية تتعامل مع قائمة طويلة من الأنظمة القمعية الاستبدادية الفاسدة، ولا تكترث لما يصدر عنها من ظلم وقمع وانتهاك ومصادرة لأبسط القيم الديمقراطية.

لا تقف تناقضات إستراتيجية بايدن عند هذا الحد، بل تتعدى إلى معظم أقسام الإستراتيجية، إن لم يكن جميعها، مما يتعلق بالأوبئة والأمن الغذائي والمناخ والإرهاب والسباق النووي والتكنولوجيا والأمن السيبراني والتجارة والاقتصاد، وغيرها من المجالات التي لا جدال في تناقضاتها الفاضحة لممارسات الإدارات الأميركية على أرض الواقع، والتي لا تقل استبدادا عمن تتهمهم بالاستبداد، ممن كانوا بالأمس شركاءها في الاقتصاد والمعلومات والتكنولوجيا، فهي لا تحسب حساباً إلا لكل من يحافظ على مصالحها ويعزز مكانتها في قيادة العالم، بغض النظر عما تخلّفه هذه المصالح من كوارث ومآس ومظالم وانتهاكات.

(انتهى)

محمود عبد الهادي

كاتب صحفي وباحث

 

اترك تعليقاً