يرجع جذر (التوبة) إلى (توب) والتاء والواو والباء كلمة واحدة، تدل على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه، أي: رجع عنه، يتوب إلى الله توبة ومتاباً، فهو تائب. والتوب: التوبة، قال تعالى: {وقابل التوب} (غافر:3). وتاب إلى الله توباً وتوبة ومتاباً وتابة وتَتْوِبَة: رجع عن المعصية، وهو تائب وتواب. وتاب الله عليه: وفَّقه للتوبة، أو رجع به من التشديد إلى التخفيف، أو رجع عليه بفضله وقبوله، وهو تواب على عباده. و(التائب) يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة؛ فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده، و(التواب) العبد الكثير التوبة؛ وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركاً لجميعه، وقد يقال لله ذلك؛ لكثرة قبوله توبة العباد حالاً بعد حال.
والتوبة في الشرع: هي الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الأفعال الممدوحة. و(التوبة النصوح) ألا يبقى على عمله أثراً من المعصية سرًّا وجهراً. قال الطبري: “التوبة من العبد على ربه: إنابته إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه، بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيماً مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه”.
* التوبة في الاستعمال القرآني
وردت مادة (توب) في القرآن سبعاً وثمانين (87) مرة؛ وردت بصيغة الماضي أربعاً وثلاثين (34) مرة، وبصيغة المضارع إحدى وعشرين (21) مرة، وبصيغة الأمر ثماني (8) مرات، وبصيغة المصدر ثماني (8) مرات، وبصيغة اسم الفاعل (2) مرتين، وبصيغة المبالغة اثني عشرة (12) مرة.
وجاءت التوبة في القرآن على وجهين؛ الأول: الندم على فعل الشيء والرجوع عنه، منه قوله تعالى: {قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} (الأعراف:143) أي: ندمت ورجعت إليك. الثاني: التجاوز، ومنه قوله عز وجل: {والله يريد أن يتوب عليكم} (النساء:27) أي: يتجاوز عن ذنوبكم.
* الألفاظ ذات الصلة
– الاعتذار: (اعتذر) فلان: صار ذا عذر، و(اعتذر) إليه طلب قبول معذرته، ويقال: اعتذر من ذنبه، واعتذر عن فعله: تنصل واحتج لنفسه، و(اعتذر) من فلان: شكاه. و(الاعتذار) اصطلاحاً: تحري الإنسان ما يمحو به أثر ذنبه، وذلك ثلاثة: أن يقول: لم أفعل، أو فعلت لأجل كذا، فيذكر ما يخرجه عن كونه ذنباً، أو فعلت ولا أعود، ونحو ذلك، والثالث هو التوبة، فكل توبة عذر ولا عكس. والصلة بين التوبة والاعتذار أن التائب مقر بالذنب الذي يتوب منه، معترف بعدم عذره فيه، والمعتذر يذكر أن له في ما أتاه من المكروه عذراً، ولو كان الاعتذار التوبة لجاز أن يقال: اعتذر الى الله، كما يقال: تاب إليه، وأصل العذر إزالة الشيء عن جهته، اعتذر إلى فلان فعذره، أي: أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة، أو في الظاهر.
– الندم: (ندم) على الأمر ندماً وندامة: أَسِفَ وكرهه بعد ما فعله، فهو نادم. و(الندم) اصطلاحاً: التحسر من تغير رأي في أمر فائت. والصلة بين الندم والتوبة، أن التوبة من الندم؛ وذلك أنك قد تندم على الشيء، ولا تعتقد قبحه، ولا تكون التوبة من غير قبح، فكل توبة ندم، وليس كل ندم توبة.
– الاستغفار: (استغفر) طلب المغفرة، واستغفر الله ذنبه: طلب منه غفره. و(الاستغفار) اصطلاحاً: طلب ستر الذنب والعفو عنه، وعدم العقوبة عليه. والصلة بين الاستغفار والتوبة، أن الاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق. وأما عند اقتران إحدى اللفظين بالآخر، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
– الإصرار: (أصر) على الأمر: ثبت عليه ولزمه، وأكثر ما يستعمل في الآثام، يقال: أصر على الذنب. و(الإصرار) اصطلاحاً: التعقد في الذنب، والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه، قال تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} (آل عمران:135). والعلاقة بين (الإصرار) و(التوبة) علاقة تضاد؛ فالعبد إذا عصى وطال زمان التوبة، وقع في الإصرار، قال سبحانه: {ثم يتوبون من قريب} (النساء:17) أي: تبتدئ التوبة من زمانٍ قريب من زمان المعصية؛ لئلا يقع في الإِصرار.
* اقتران التوبة بالإصلاح والاستغفار
قرن سبحانه بين (التوبة) و(الإصلاح) في مواضع عديدة من كتابه، من ذلك قوله عز وجل: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله} (النساء:146) وقوله سبحانه: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} (آل عمران:89) ونحو ذلك من الآيات التي تدل دلالة واضحة على أنه ليس المقصود بالتوبة ترك القبيح فحسب، بل يجب فعل الحسن، وهو الإصلاح. لذلك شرط تعالى في توبة أهل الكتاب، الذين كان ذنبهم كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى ليضلوا الناس بذلك، أن يصلحوا العمل في نفوسهم، ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم إياه، كما شَرَط في توبة المنافقين الذين كان ذنبهم إفساد قلوب ضعفاء المؤمنين وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول وإظهارهم الإسلام رياء وسمعة، أن يصلحوا بدل افسادهم، وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين، وأن يخلصوا دينهم لله بدل إظهارهم رياء وسمعة.
يشار إلى أن هناك أعمالاً طلب الله فيها التوبة فحسب، وأعمالاً طلب فيها التوبة والإصلاح، وأعمالاً طلب فيها التوبة والإصلاح والبيان.
ثم إنه سبحانه قرن بين (التوبة) و(الاستغفار) على ألسنة رسله، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا} (هود:3) وخاطب هود عليه السلام قومه، بقوله: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} (هود:52) وخاطب شعيب عليه السلام قومه، فقال: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} (هود:90).
وقيل في العلاقة بين (التوبة) و(الاستغفار): أن “(التوبة) هي الرجوع إلى الله مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً؛ ندماً على ما مضى، وتركاً في الحال، وعزماً على أن لا يعود، و(الاستغفار) طلب المغفرة من الله، فإن اقترن به توبة فهو الاستغفار الكامل الذي رتبت عليه المغفرة، وإن لم تقترن به التوبة، فهو دعاء من العبد لربه أن يغفر له، فقد يجاب دعاؤه، وقد لا يجاب، وهو بنفسه عبادة من العبادات، فهو دعاء عبادة، ودعاء مسألة”.
* التواب من أسماء الله تعالى
من أسمائه الحسنى سبحانه (التواب) وفي هذا دلالة على عظم شأن التوبة.
أولاً: معنى اسم الله التواب: قال الطبري: “إن الله جل ثناؤه هو التواب على من تاب إليه -من عباده المذنبين- من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه”. وجاء (تواب) على أبنية المبالغة؛ لقبوله توبة عباده، وتكرير الفعل منهم دفعة بعد دفعة، وواحداً بعد واحد على طول الزمان، وقبوله عز وجل ممن يشاء أن يقبل منه، فالعبد يتوب إلى الله عز وجل، ويقلع عن ذنوبه، والله يتوب عليه، أي: يقبل توبته، فالعبد تائب، والله تواب. فهو التائب على التائبين أولاً، بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب عليهم بعد توبتهم قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم.
ثانياً: الأسماء المقترنة باسم التواب: اقترن اسم الله سبحانه (التواب) باسمين من أسمائه سبحانه؛ هما: (الرحيم) و(الحكيم) بيانه:
1- الرحيم: اقترن اسم الله سبحانه (التواب) باسم (الرحيم) في تسع آيات، منها: قوله سبحانه: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} (البقرة:37). ومناسبة هذا الاقتران أن توبة الله على عباده، وتوفيقهم إليها، ثم قبولها منهم، هو من آثار رحمته تعالى وبِره وإحسانه. قال الطبري: “فهو سبحانه الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفق من أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه، (الرحيم) بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه”. وقال السعدي: “{التواب} أي: كثير التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، {الرحيم} وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين، في جميع اللحظات، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية”.
2- الحكيم: اقترن اسم (التواب) باسم (الحكيم) في آية واحدة، وتلك قوله عز وجل: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم} (النور:10) فهو سبحانه {تواب} يقبل العاصين من عباده، ويردهم إلى دائرة الإيمان، إذا هم تابوا وأصلحوا، وهو سبحانه {حكيم} في ما حدَّ من حدود للمعتدين على حدوده. قال ابن عاشور: “وفي ذكر وصف (الحكيم) هنا مع وصف (تواب) إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة، وهي استصلاح الناس”.
* مجالات التوبة
تنوعت مجالات التوبة، وتنوعت معها بالتالي شروطها، بيان ذلك: أولاً: التوبة عن الكفر والشرك: أرسل سبحانه أنبياءه ورسله لدعوة أقوامهم إلى التوبة من الكفر والشرك، بأمرهم بالاستغفار من الشرك، ثم بالتوبة من بعده، فهذا هود يخاطب قومه بقوله: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا} (هود:52) أي: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم. و(الاستغفار) هو الإيمان بالله في هذا الموضع؛ لأن هوداً عليه السلام إنما دعا قومه إلى توحيد الله؛ ليغفر لهم ذنوبهم، ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به. والذنب الذي طلب هود قومه التوبة منه هو الشرك، قال أبو بكر الأصم: “{استغفروا} أي: سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم، ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى، وبالعزم على أن لا تعودوا إلى مثله”.
وقال صالح عليه السلام: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} (هود:61) أي: اعملوا عملاً يكون سبباً لستر الله عليكم ذنوبكم؛ وذلك الإيمان به، وإخلاص العبادة له دون ما سواه، واتباع رسوله، واتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم، إلى ما يرضاه ويحبه؛ فإن ربي قريب ممن أخلص له العبادة، ورغب إليه في التوبة، مجيب له إذا دعاه.
وتفيد الآية أنه يجب على كل داعٍ إلى الله أن يحبب عباد الله إلى خالقهم، ويبشرهم بحبه سبحانه لتوبتهم، واستجابته من تاب إليه.
وقال شعيب عليه السلام: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} (هود:90) أي: {واستغفروا ربكم} من سالف الذنوب {ثم توبوا إليه} فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، وقوله: {إن ربي رحيم ودود} لمن تاب. ويستفاد من الآية أن الله شديد المحبة لمن يتقرب إليه بالتوبة.