كما أن المسلم يحرص على تقوية الإيمان في قبله وزيادته، ويسأل عن وسائل ذلك؛ فينبغي عليه أن يعرف ما يضعف الإيمان في قلبه وينقصه أيضًا، فكما أن لزيادة الإيمان أسبابًا ووسائل، فكذلك لضعف الإيمان ونقصانه أسبابٌ وعوامل أيضًا. نذكر في هذا المقال أهم تلك الأسباب والعوامل كما يأتي:
أولًا: ارتكاب الذنوب والمعاصي وعدم المسارعة للتوبة منها. ذلك أن المعاصي نكت سوداء على القلب، إن لم يتب صاحبها منها غطت على قلبه وأغلقته، فيضعف الإيمان في القلب وينقص. قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قال ابن جرير: “فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص”. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقلت، فإن عاد زيد فيها، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو فيه، فهو الران الذي ذكر الله جل وعلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]» رواه ابن حبان.
ثانيًا: أداء العبادات على أنها تكليف جسدي لا روح فيها ولا خشوع. وإغفال أنها عبادات تربط المسلم بربه فتسكن خلال أدائها جوارحه، وتخشع نفسه، فيزيد بذلك إيمانه، أما القيام بها على شكل حركات روتينية فارغة من أي تدبر بما يقوله في صلاته من ذكر وقرآن، أو بما لأجله صام وترك طعامه وشهوته ونحو ذلك من العبادات؛ كل هذا التعامل مع العبادات يجعلها لا أثر لها في نفس المسلم وقلبه، وبالتالي يصير أداؤها بهذه الطريقة سببًا من أسباب ضعف الإيمان بعد أن كانت من أسباب زيادة الإيمان، وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من الغفلة في أداء العبادة فقال في الصلاة مثلًا: «إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها ثمنها، سبعها سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» رواه أبو داود. والله تعالى قد ذكر من صفات المؤمنين فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]. فقد وصفوا بالإيمان لأجل خشوعهم في صلاتهم.
ثالثًا: الغفلة عن ذكر الله تعالى. فذكر الله تعالى حياة للقلوب، يقوي الإيمان ويزيده، والغفلة عن ذكره سبحانه تقسي القلوب وتضعف الإيمان فيها حتى يصير صاحبها كالميت، قال تعالى عن المنافقين الذين آمنوا ثم كفروا: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت» رواه البخاري. وأما أهل الإيمان فقال الله تعالى لهم: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، ثم وصفهم بعد أن امتثلوا أمره فقال فيهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] فكان ذلك مما قوى الإيمان في قلوبهم.
رابعًا: هجر الصالحين وترك مجالستهم. من أسباب ضعف الإيمان ألا يجالس المسلم الصالحين ولا يصاحبهم، فمجالس الصالحين يستمع فيها المسلم للمواعظ والرقائق، وللأحاديث النافعة التي تتلى فيها آيات الله تعالى وتفسر، وتقرأ فيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشرح، وذلك مما يقوي الإيمان في قلبه ويزيده. قال تعالى عن المؤمنين إذ يستمعون لآيات الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]. فسماع القرآن يزيد الإيمان في قلب المؤمن ويقويه، وكذا حضور مجالس الصالحين التي قال فيها نبينا صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر» رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» رواه الترمذي. والطبع كما قيل لصٌ، فمن صاحب الصالحين تأثر بهم، وأخذ منهم الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة التي تقوي إيمانه وتزيده.
خامسًا: الانشغال بالدنيا ونسيان الآخرة. ذكر الله تعالى الدنيا وبين أن الانشغال بها من الأسباب التي تلهي المؤمن عن دينه وآخرته، فيضعف بذلك إيمانه، وينبغي للمؤمن أن يتفطن لذلك، ويأخذ من الدنيا ما ينفعه في دينه ودنياه، ويحذر التكاثر الذي يقسي قلبه وينسيه آخرته. قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: 1، 2]. قال ابن كثير: “شغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها؟!”. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء» رواه ابن ماجه. وقال تعالى مبيّنًا لعباده حقيقة الدنيا التي يتنافس عليها الناس وتلهيهم عن آخرتهم: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
كانت هذه الأسباب من أهم ما يذكر من أسباب ضعف الإيمان، وثمة أسباب غيرها أيضًا تذكر في موضوعات أخرى إن شاء الله تعالى.
كيف ينجو الإنسان من عذاب القبر ؟
سؤال يؤرق الكثيرين جوابه، وذلك لما يشكله القبر من مرحلة مفزعة، ينتقل بها المرء من حياته الرحبة، وعالمه الفسيح إلى حفرة ضيقة مظلمة تتداخل فيها أضلاعه، ويفقد بها أهله وأحبته وأصدقاءه .
ولولا ما جاء به الإسلام من سبل وأعمال إذا عملها الإنسان نجا – بفضل الله – من عذاب القبر لشكل الخوف من القبر قلقاً يلاحق الإنسان ويقض مضجعه في كل فترات حياته فلا يدري أينجو أم يهلك ؟
فقد جاء الإسلام بأمور أخبر أنها من المنجيات والمانعات من عذاب القبر، وحث على القيام بها، والحرص عليها، لتكون له عوناً له في قبره عندما يودع فيه وحيداً، فمن تلك الأعمال:
الرباط في سبيل الله: ومعنى الرباط الإقامة على الحدود الإسلامية لمواجهة العدوان الخارجي الكافر والاستعداد لصده، حيث جاء في فضل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأَمِنَ الفتَّان ) وفي سنن أبي داود ( وأمن من فتنة القبر ) .
الشهادة في سبيل الله: والشهيد هو من قُتل مجاهداً في سبيل الله، وسمي شهيداً؛ لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة، ولأنه حي، فهو شاهد أي حاضر، روى النسائي أن رجلاً قال يا رسول الله: ما بال المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال: ( كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) ومعنى الحديث: أن السؤال في القبر إنما جعل لامتحان المؤمن الصادق في إيمانه، وثبوته تحت بارقة السيوف وعدم فراره من الموت أوضح دليل على صدق إيمانه. وقول الصحابي: “ ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ “ حيث استثنى الشهيد فقط لا يدل على حصر الناجين من عذاب القبر بالشهداء، وإنما ذلك بحسب اجتهاده، أو أنه أكبرهم وأعظمهم، وإلا فالأحاديث المصرحة بنجاة غير الشهيد كثيرة، ومنطوقها يقدم على فهم الصحابي هنا .
حفظ سورة تبارك وتلاوتها: فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ضرب رجلٌ من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خباءه – خيمته – على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبرُ إنسانٍ يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله ضربت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسانٍ يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ( هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ) قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
الموت بداء من أدواء البطن: فعن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( من قتله بطنه لم يعذب في قبره ) رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث غريب . والمراد بالحديث حصول النجاة من عذاب القبر لمن مات بداء من أدواء البطن كسرطان البطن والقولون والقرحة وغير ذلك.
الموت ليلة الجمعة ويومها : فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ( ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر ) رواه أحمد والترمذي والحديث يدل على أن الموت ليلة الجمعة أو يومها من أسباب الوقاية من عذاب القبر، وهو فضل محض لا تدخل للإنسان في تحصيله إلا أن يحرص على الشهادة في هذا اليوم فينال فضلين فضل الشهادة وفضل الموت في يوم الجمعة .
هذه بعض الأعمال التي من عملها مؤمناً محتسباً كفاه الله بهن عذاب القبر، وأبدله الله في قبره نعيماً يمتد إلى يوم القيامة، وتخصيص هذه الأعمال بالذكر لا ينفي أن يكون لغيرها أثرها في دفع عذاب القبر، والتهوين على المسلم من فظائع ذلك المكان الموحش، فقد تمنع عنه صلاته عذاب القبر، وقد يدفع عنه صدقته وبره وإحسانه، وقد يحميه صيامه وحجه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ( إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوا مدبرين، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول: فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل ) رواه الطبراني في الأوسط . وفي الجملة فعلى الإنسان أن يعظم رجاؤه بربه، ويحرص على العمل الصالح، ويجتنب ما يغضب الله فهو الضمان من عذاب القبر، قال تعالى:{ ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون } قال مجاهد: “في القبر “ .
قال بعض الصالحين: “ إنه لتمرُّ على القلب ساعات إن كان أهل الجنة في مثلها إنهم لفي عيش طيب “، إنها ساعات صفاء القلب وإشراقه وسعادته بقربه من ربه، عند قيامه بطاعته، ومثوله بين يديه، وبعده عن المعاصي والسيئات، تلك الساعات التي من مرَّ بها وتأملها، علم حقيقة الإيمان، وأنه يزيد بالطاعات حتى لا تتسع الدنيا بأكملها لصاحبه، ويضعف بالمعاصي والسيئات حتى تضيق على العاصي دنياه، وتنقلب حياته تعاسة وشقاءً .
فالإيمان كالشجرة كلّما رويتها بالماء الطيب، وتعاهدتها بأنواع السماد الصالح، نمت وترعرعت وآتت ثمارها طيبة يانعة، وكلما منعتها ماء حياتها، وغذيتها بكل ضار خبيث يبست وهلكت، قال علي – رضي الله عنه -: “ إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيضَّ القلب كله، وإن النفاق ليبدو نقطة سوداء فإذا انتهك الحرمات نمت وزادت حتى يسودَّ القلب كله، ثم تلا قوله تعالى: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }(المطففين:14).
وفي كتاب الله ما يؤكد هذا المعنى بوضوح، كقوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً }(الأنفال:2)، وقوله سبحانه: { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون }(التوبة: 124(، وقوله سبجانه: { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا }(المدثر:31)، وقوله عز وجل:{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً }(آل عمران: 173)، وجاء في السنة عدد من الأحاديث التي تبين زيادة الإيمان بالعمل الصالح، ونقصانه بالمعاصي كقوله – عليه الصلاة والسلام – 🙁 من رأى منكم منكرا فليغيره، بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم ، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) رواه أحمد والترمذي ، وفي بيان أثر المعاصي على الإيمان يقول – صلى الله عليه وسلم – : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ) متفق عليه .
