كتب د.هشام الحمامي
أحتفظ السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله بلقب “موقظ الشرق” ولا يزال، وهو اللقب الذي أطلقه عليه سعد باشا زغلول (ت: 1927م)، زعيم الأمة المصرية بلا منازع في كل العصر الحديث، فلم تر الأمة بعد سعد زعيما له كل هذا التأثير الفكري والسياسي، وهو في السلطة وهو خارج السلطة، كانت زعامة طوعيه في حقيقة الأمر، بلا إعلام ولا أغاني، والأهم بلا أجهزة أمن تلاحق الناس من أجل أفكارهم وآرائهم..
والرجل من نزاهة وجدانه ووعيه وضميره، قام خطيبا في أحد المؤتمرات وقال متأثرا بحفاوة الاستقبال: إننا في هذه اللحظة يجب أن نتذكر الرجل الذي أيقظ الشرق من سباته، السيد جمال الدين الأفغاني. وأكمل قائلا: هو بحق “موقظ الشرق”..
د. محمد عمارة (ت: 2020م) رحمه الله تلقف الوصف وكتب كتابا عن الأفغاني بنفس الاسم، “الأفغاني موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام” الذي أصدرته دار الشروق.
* * *
الله قدر أن يخرج من مدرسة الأفغاني، وعبر طريقها الطويل من تكون له الصيحة الهادرة التي ستُسمع المشرق، وكل المشارق في كوكب الأرض.. إنه “طوفان الأقصى”
كان الأفغاني (ت: 1897م) صاحب سيرة عاصفة، في طوافه وتطوافه بين المجتمعات والبلدان في المشرق العربي والإسلامي، ثائرا ومفكرا وحركيا كبيرا، يعرف العمل الميداني ودروبه المتداخلة، وأيضا كما قال عنه صاحبه الأقرب الشيخ محمد عبده (ت: 1905م) رحمه الله: كان يتمتع بأقصى ما قُدّر للبشر غير الأنبياء من قوة الذهن، وسعة العقل، ونفاذ البصيرة هذا فضلا عن شخصيته ذاتها..
وسيكون مهمّا أن نتذكر الآن حياته وطريقه في هذه الحياة، وهو الذي خرج من رحم مرحله تاريخية ضخمة تميزت بازدهار إمبراطوريات واضمحلال إمبراطوريات، وكان همّه الأكبر هو مكان أمته بين هذه الإمبراطوريات، وعاش عمره كله وهو يدور في هذه الدائرة مفكرا ومصلحا وخطيبا وكاتبا وفيلسوفا..
وكما وصفه الأستاذ العقاد (ت: 1964م): كان شخصية تهيّأت لرسالتها، قال وعلم وتكلم وسط تلاميذه ومحبيه وحرك فكر الكثيرين.. ثم رحل.
* * *
ومهما يكن من أثره الكبير في ربوع عالم الإسلام حتى يومنا هذا.. إلا أن صوته لم يصل إلى الغرب الاستعماري، بنفس القوة والصدى الذي كان في المشرق.
لكننا لا ننسى أبدا بطبيعة الحال رده العميق على المفكر الفرنسي ارنست رينان (ت: 1892م) في مجلة “المساجلات” الفرنسية في أيار/ مايو 1883م، حين هاجم رينان الإسلام في إحدى محاضراته التي نشرتها المجلة..
* * *
لكن الله قدر أن يخرج من مدرسة الأفغاني، وعبر طريقها الطويل من تكون له الصيحة الهادرة التي ستُسمع المشرق، وكل المشارق في كوكب الأرض.. إنه “طوفان الأقصى”..
والروعة هنا أننا نتحدث عن الشخص في قلب حركة ومعركة، وحركة ومعركة وفي القلب منها الشخص، فلا تدري حين تتحدث عنهما، من يكون الموضوع، ومن يكون أرض الموضوع.
لكننا في كل الأحوال أمام معركة ضخمه، قُدر لها أن تكون كذلك، بحجم ما تحمله من تاريخ كبير وممتد، ليس كأي تاريخ في الحقيقة. وهو ما جعل الدنيا كلها أمام مشهد جديد تماما في تفاعلاته ونتائجه وآثاره، التي امتدت واتسعت وشملت العالم بشرقه وغربه.
واقتحام بنية العقل الغربي ونسف سرديته القديمة عن الشرق، ليس أبدا بالأمر الهيّن، كما قال لنا د. إدوارد سعيد (2003م) في عمله الكبير “الاستشراق”، عن الغرب الذي صنع شرقا مما يتخيله، أو ما يريد تسميته شرقا، وقدم سرديته من خلال هذا الوعي، بغض النظر عن الشرق في حقيقته، والذي هو صاحب الشأن الأول في الاهتمام!
* * *
وقد أراد الغرب لنفسه بعد حالة التوسع الاستعماري الواسعة له، وبعد الحرب العالمية الثانية (1945م)، أن يختزل نفسه وكل أدواره كما يرى نفسه؛ سيدا على الأرض ومركزها الحاكم، ونائب له يقوم برعاية شؤونه في هذا الشرق.. واختاره بدقة متناهية، واختار له أسطورته التي يأتي منها وبها، وعلى هذا وجدنا أنفسنا في هذا الصراع الذي تتوسطه القدس ويتوسطه المسجد الأقصى، فارتقى رغما عن الجميع، ليكون صراعا تاريخيا بالمعنى الحرفي للكلمة، ليس فقط لأن التاريخ جزء من موضوعه، ولكن لأنه سيستدعى كل الأطراف عبر اتصالها به، وهو الاتصال غير المقصود منها بل وغير المراد، سواء تلك التي تكون معنيه به مباشرة في فلسطين، أو معنية به بطريق غير مباشر في عالم العروبة والإسلام، وتحديدا في عواصم الشرق التي فوجئت بما حدث، وحاولت طويلا ولا تزال، أن تجعل الموضوع في “قوقعته” التي حٌبس فيها من بعد هزيمة كل يوم (1967م) ليكون صراعا إسرائيليا/ فلسطينيا، كما سوّق له طويلا وزير خارجية أمريكا الأسبق “هنري كيسنجر”، وسار الخط ذاته ممتدا على اعوجاجه حتى أصبح الصراع.. صراع “إسرائيل وغزة”..!!
* * *
في الغرب خرج الموضوع عن أي سيطرة كانت ممكنة في الماضي القريب ولم تعد الآن ممكنة، وبات المشهد أمام الشعوب في أوروبا وأمريكا وللمرة الأولى يحمل كل “الصراحة الناصعة”، الصراحة المغموسة في الدم والقتل والإبادة التي لا تحتمل جدلا أو نقاشا
في الغرب خرج الموضوع عن أي سيطرة كانت ممكنة في الماضي القريب ولم تعد الآن ممكنة، وبات المشهد أمام الشعوب في أوروبا وأمريكا وللمرة الأولى يحمل كل “الصراحة الناصعة”، الصراحة المغموسة في الدم والقتل والإبادة التي لا تحتمل جدلا أو نقاشا..
ولكن هذا ليس كل شيء.. فمشهد “صاحب العصا” الثائر المجاهد المتجاوز للحياة وما فيها ومن فيها، نطق بألف معنى ومعنى، وهو المشهد الذي أصبح “ملهما” لأهل الأنوار والعزائم، فوق الأرض وتحت الأرض، شجاعة وصمودا وصبرا عظيما.. بل وملهما لكل إنسان، يرى أمام عينه كيف تكون الرجال.
* * *
جاء الطوفان وكسر خط كيسنجر غير المستقيم، وأعاد الصراع إلى حقيقته التي تكوّن منها من اليوم الأول، لا من غيرها.. وبات الشرق القديم في مأزق جديد، إذ يتلقى أحداثا تصنع أحداثا (لبنان)، وتتكون منها أحداث (سوريا)، والقادم أكثر وأوضح وأظهر. ذلك أن الشرق نفسه من بعد الميراث العثماني والحرب العالمية الأولى (1918م)، وهو قلق ومتوتر وغير مستقر، فحقيقته كانت حقيقة أمّة متعددة القوميات والمذاهب لكنها “أمّة واحدة”..
وجاء من أراد له أن يكون على غير حقيقته، لكن تأبى الحقيقة إلا أن تعلن عن نفسها.. متى؟ بمجرد أن يظهر لها من يتحمل مسؤوليتها ويرعاها حق رعايتها.. وقد كان.
رحم الله الأفغاني “موقظ الشرق”.. والذي ترك أثرا فكريا وعمليا امتد بعده ما شاء الله له أن يمتد.. حتى جاء من ذهب به إلى أبعد الآماد.. وكل الآماد، في كل المشارق.