المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف •
ينظر كثيرون حول العالم إلى روسيا، بما في ذلك الدول العربية، وكأنها اتحاد سوفيتي مصغّر، تحتفظ بنفس الدوافع ومبادئ السياسة الخارجية. ولا زال هؤلاء يعتقدون بإمكانية تطبيق نفس السلوك، وتقنيات المساومة، التي كانت فعالة في عهد بريجينيف. فيتوهمون أنه يكفي إعلان المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى تبدأ روسيا تلقائيا في تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية، وسائر أشكال الدعم. بل وتذهب قيادات بعض الدول، التي تقع في نطاق المصالح القومية الروسية، إلى أن مغازلة خصوم روسيا يمكن أن تكون وسيلة فعالة لابتزاز موسكو سعيا للحصول على بعض التفضيلات والإعانات.
علاوة على ذلك، فإن ضعف روسيا عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، والمواجهة الحالية بين روسيا والغرب، يجعل روسيا من وجهة نظر بعض الدول الصديقة، فتاة عرجاء تتطلع إلى أي شكل من أشكال الاهتمام، وترضى بأقل القليل، سعيا وراء أي فرصة للزواج، حتى ولو تقدم لخطبتها عجوز بلا أسنان.
هكذا كان منطق أرمينيا.
فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي مباشرة، تمكنت أرمينيا من بسط سيطرتها ليس فقط على مناطق قرة باغ، التي يسكنها الأرمن، وإنما أيضا على أراض أذربيجانية خالصة بنفس المساحة حول قرة باغ. ودفعت نشوة النصر تلك إلى نشوء أسطورة تفوق الجيش الأرمني على الأذربيجانيين داخل المجتمع الأرمني، لهذا رفضت أرمينيا جميع مقترحات التسوية، لسنوات عدة، بما في ذلك المقترحات التي تقدمت بها موسكو. وعزز هذا الموقف، حقيقة وجود قاعدة عسكرية روسية على أراضي أرمينيا، ووجود الأخيرة في معاهدة الأمن الجماعي، ما يحتم على روسيا واجب حمايتها من العدوان.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من عدم اعتراف أرمينيا نفسها باستقلال قرة باغ، توقع الأرمن أن تبذل روسيا جهودا لإضفاء الشرعية على الجمهورية غير المعترف بها، وحينما لم يحدث ذلك، تحولت أنظار يريفان إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث توجد جاليات أرمينية قوية بما فيه الكفاية. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت قناعة واسعة داخل المجتمع الأرمني، المتعاطف بشكل كبير مع روسيا، بأن التقارب مع الاتحاد الأوروبي سيساعد الجمهورية على تحقيق الازدهار والديمقراطية دون مجهود يذكر من جانبها.
ومنذ عامين، أدت هذه الآمال العريضة، في ظل أوضاع اقتصادية متردية في البلاد، إلى اضطرابات تسببت في وصول رئيس الوزراء الحالي، نيكول باشينيان إلى السلطة، والذي شرع في بذل قصارى جهده لإرضاء الغرب، بما في ذلك من خطوات استعراضية للابتعاد عن موسكو، مع الحفاظ على قدر معين من التقارب مع روسيا، استنادا إلى ما تم اعتباره حقا منطقيا مكتسبا مفروغا منه، وهو الموقف الروسي الدافئ تجاه أرمينيا، وكأن لسان الحال يقول: أين عسى روسيا أن تتحرك دون أرمينيا، الحليف الوحيد لها فيما وراء القوقاز.
النتيجة الآن نعرفها جيدا. تعرضت القوات الأرمينية لهزيمة كارثية من الجيش الأذربيجاني، ومباشرة عقب سقوط مدينة شوشا الاستراتيجية، أصبح سقوط عاصمة إقليم قرة باغ، مدينة ستيباناكيرت، وتطويق جميع القوات الأرمينية، وتدميرها بالكامل، ومن ثم الاستيلاء التام على قرة باغ، مسألة ستستغرق عدة أيام، وربما في أفضل الأحوال، عدة أسابيع. وقد أعلن الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، فعليا عن نيته القيام بذلك، وكانت لديه بشكل عام كل الفرص لتحقيق مبتغاه.
فجأة، وبمشاركة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أوقفت القوات الأذربيجانية، وفي غضون ساعات معدودة كانت قوات حفظ السلام الروسية تنتشر في قرة باغ، على الرغم من أن انتشارا بهذه السرعة، فيما يبدو، كان مجهّزا له منذ عدة أسابيع. أي أن روسيا كانت مستعدة مسبقا لأي تطور للأحداث، كي تتدخل بشكل حاسم في الوقت الذي رأته ضروريا. يمكننا هنا أن نلمح أوجها واضحة، ووثيقة الصلة، للتشابه مع التدخل الروسي في سوريا، والتغيير الجذري لمسار الأحداث.
نتيجة لذلك، عززت روسيا وجودها العسكري في المنطقة، وسيطرت على الممر الواصل ما بين أرمينيا وقرة باغ، وهو أمر حيوي للأرمن، كما سيطرت روسيا أيضا على الممر الواصل بين أذربيجان وجيب ناختشيفان الأذربيجاني، والواقع على أراضي أرمينيا، وهو ما يحتاج إليه الأذربيجانيون حقا. ويتمركز جنود حفظ السلام الروس في قرة باغ، بحيث يضمنون أمن الإقليم بشكل مطلق.
في 2008، هاجمت جورجيا أوسيتيا الجنوبية، وقتلت بعض جنود حفظ السلام الروس، فكانت النتيجة هزيمة ساحقة لجورجيا، والاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. لهذا لا أظن أن أذربيجان ترغب في تكرار مثل هذه التجربة. بمعنى أن أرمينيا قد أصبحت الآن مقيدة بروسيا من خلال سلسلة حديدية غليظة، ووجود الجيب الأرمني في قرة باغ يعتمد فقط على النوايا الحسنة لروسيا، وليس على أي قوة أخرى.
بالتزامن، لم تحصل تركيا على أي شيء تقريبا في أذربيجان، بخلاف ما حصلت عليه بالفعل هناك، بمعنى أنها لم تصبح شريكا مساويا لروسيا في الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان. ربما سيكون هناك مزيدا من التعاون العسكري بين أنقرة وباكو، لكن أذربيجان ليست دمية في يد تركيا بأي حال من الأحوال، حيث تنتهج قيادة البلاد سياسة متوازنة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتحترم مصالح موسكو. في ظل هذا النموذج، سيتعين على أذربيجان تعزيز التعاون مع روسيا، حتى لا تصبح شديدة الاعتماد على تركيا.
ننتقل الآن إلى الدروس المستفادة. نعم، روسيا ليست في نفس قوة الاتحاد السوفيتي، لكنها مع ذلك لا زالت الدولة الوحيدة في العالم القادرة على تدمير الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن أي خصم عسكري آخر. وعلى الرغم من سنوات العقوبات والحصار الاقتصادي من جانب الغرب، إلا أن روسيا أثبتت أن لديها اقتصادا مستقرا. كذلك توصلت قيادة البلاد إلى استنتاجات من سقوط الاتحاد السوفيتي، وأصبحت السياسة الخارجية الروسية أكثر مرونة وعقلانية، مع الأصدقاء ومع الأعداء على حد سواء. فالأولوية الرئيسية لروسيا دائما أصبحت التنمية الداخلية، وهي مهتمة بالتعاون مع جميع دول العالم. لا تسعى روسيا إلى التوسع، وبالتالي ليس لها أعداء في العالم، سوى من يرغب في أن يكون عدوا لها.
ومع ذلك، ولكي تصبح حليفا لروسيا الآن، لم يعد كافيا أن تأخذ منها فحسب، وإنما أصبح ضروريا كذلك أن تفعل شيئا من أجلها، وأود أن أضع تحت الجملة الأخيرة خطوطا ثلاثة. أعتقد أن المبدأ الأساسي للسياسة الخارجية الروسية هو مبدأ المعاملة بالمثل، ينطبق ذلك على الأصدقاء والأعداء على حد سواء. ومن المؤكد أن لكل فعل رد فعل مساو في القوة ومضاد في الاتجاه، وسيرتد إلى صاحبه عاجلا أم آجلا بنظرية “البوميرانغ”، وعلى الأرجح في اللحظة التي لا يريده أو يتوقعه فيها. يمكن للأصدقاء والشركاء الاعتماد على التعاون القائم على المنفعة المتبادلة بينهم وبين روسيا. ومن حق الحلفاء الموالين لروسيا، والداعمين لها في الأوقات الصعبة أن يحصلوا على نفس الدعم الموثوق. أما أولئك الذين لم يحسموا أمرهم بعد، فسوف تنظر موسكو لما تقتضيه الظروف بشأنهم، ولكل حادث حديث…
المقالة تعبر فقط عن رأي الكاتب