حين أراد د. سعد الدين إبراهيم، أستاذ الاجتماع المعروف (84 سنة)، عقد مؤتمر لأقليات المشرق في 1994م بعنوان “الإعلان العالمي لحقوق الملل والنحل والأعراق في الوطن العربي والشرق الأوسط” وضم فيه أقباط مصر إلى باقي أقليات الشرق الأوسط التي لها “حقوق مفقودة”، تطوع الرجل بعقد مؤتمر للبحث عنها.. ثارت عليه نخبة المسلمين والأقباط وقتها وعلى رأسهم د. وليم قلادة، المستشار بمجلس الدولة (ت1999م) والأستاذ هيكل (ت2018م) وكثير من المثقفين والمفكرين وقتها. وكتب الأستاذ هيكل مقالا شهيرا في الأهرام بعنوان “أقباط مصر ليسوا أقلية”، وكان دخول الأستاذ هيكل على خط تلك الأزمة التي كانت مفتعلة أو يراد لها الافتعال والتوظيف والاستغلال أو على الأقل وضعها على مسافة قريبة من هذا كله؛ كان دخولا قوميا واستراتيجيا رصينا في الحقيقة.
سنعرف بعدها أن د. سعد الدين إبراهيم كان يتحرك في المجال العام في مصر والوطن العربي -كعالم اجتماع- ضمن ما يمكن وصفه بـ”التربيع والتدوير”، إذا استعرنا عنوان الكتاب الشهير للجاحظ (ت968م)، أيضا لنفس الغرض الذي أراده أديب العربية الكبير في تعامله مع خصمه وغريمه (أحمد بن عبد الوهاب)، مع بعض الفوارق بالطبع. لكن الحاصل أن مثل هذه الأحداث حين تحدث لا يكون مرادها الحقيقي فيما هو معلن.. وبالتالي فهي لا تسعى إلى حل، لسبب بسيط للغاية.. وهو أنه ليست هناك مشكلة!
هذا هو واقع الحال إذا أردنا له توصيفا دقيقا، وحسنا فعل الرأي العام في مصر حين تعامل بصمت بليغ مع حادث مقتل كاهن كنيسة السيدة العذراء بالإسكندرية القمص “أرسانيوس وديد” (59 سنة) على يد إرهابي سابق يدعى “نهرو توفيق”، رغم أن الأستاذ مصطفى بكري، عضو مجلس النواب المصري والصحفي المعروف، كان قد سارع بالقول إن “هذه العناصر لا تزال موجودة بيننا، وهذا أمر متوقع رغم كل الجهود التي بذلها رجال الجيش والشرطة طيلة السنوات الماضية في مواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه”. وأضاف: “هذا الحادث الذي وقع اليوم يجعلنا جميعا واعين بمخاطر هذه الأعمال الإرهابية”.. ورغم تلقف الموضوع وتدويره في نفس المربعات، لم يلتفت أحد على الإطلاق لا للتربيع ولا للتدوير.
آخر شيء تحتاجه الإدارة المصرية الآن هو وقوع مثل هذه الحوادث بكل ما تحمله من تخمينات وتأويلات، ليس فقط في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المضطربة والمرشحة لاضطراب أكثر
لن يمر على هذا الحادث المثير للدهشة وقت طويل حتى نسمع عن اغتيال الطبيب البيطري د. راني رأفت الذي تم اغتياله على يد “ملثمين” وبطريقة شرسة يوم الخميس الماضي (24 نيسان/ أبريل).. في مدينة مرسى مطروح القريبة من الإسكندرية، إذ أطلقوا عليه 22 رصاصة ثم أحرقوا سيارته ولاذوا بالفرار.. بعدها فورا نشر أحد المواقع (العربية.. لا المصرية!!) أن أقارب القتيل أشاروا لوجود دوافع طائفية في الحادث، وأن مرتكبي الحادث من العناصر المتطرفة.. رغم أن الجهات الرسمية لم تصدر بيانا بعد.
* * *
آخر شيء تحتاجه الإدارة المصرية الآن هو وقوع مثل هذه الحوادث بكل ما تحمله من تخمينات وتأويلات، ليس فقط في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المضطربة والمرشحة لاضطراب أكثر، كما قالت مديرة صندوق النقد الدولي السيدة كريستالينا جورجيفا، ولكن وهو الأهم لأن موضوع (القتل الطائفي) يمثل إحراجا بالغا لمشهد الاستقرار الأمني العمومي الذي كان هدفا استراتيجيا للنظام طول السنوات العشر الماضية، وسعى له بكل ما يملكه من الوسائل ذات الوزن الثقيل أمنيا وإعلاميا، ليمرر من تحت سقفه العالي كل ما هو ضروري جدا لاستقرار الحكم.. والذي كان من أهمها دوام الولاء السياسي للأقباط الذي كانوا ولا زالوا حليفا هاما في مرحلة ما بعد يناير 2011م. لذلك فلا أتصور أن المسارعة بالاتهام التقليدي للأجهزة بتدبير هكذا حادث سيكون قولا صحيحا.
لكن في نهاية الأمر أنت أمام حادثين بمستوى نوعي ملفت، ولا بد أن هناك مستفيد من حدوثهما.
التتابع القصير بين الحادثين وأنهما في ذات المنطقة الجغرافية، التي تحدث عنها البعض بأنها مرشحة لتكون “دويلة مسيحية” عاصمتها الإسكندرية، كما جاء في كتاب “الطائفية والتقسيم” للكاتب والأديب الأستاذ صلاح شعير
والهام هنا.. التتابع القصير بين الحادثين وأنهما في ذات المنطقة الجغرافية، التي تحدث عنها البعض بأنها مرشحة لتكون “دويلة مسيحية” عاصمتها الإسكندرية، كما جاء في كتاب “الطائفية والتقسيم” للكاتب والأديب الأستاذ صلاح شعير (56 عاما). وأهمية ما ذكره الكاتب تستدعى الانتباه والاهتمام.. لكن الأكثر أهمية أن الكتاب صدر عن جهة رسمية تتبع الدولة (الهيئة المصرية العامة للكتاب) سنة 2014م.
تحدث الكاتب عن الماضي التاريخي لهذا الملف المسكون بكثير من المتناقضات في الحقيقة، والتي تكاد تصل إلى النفي المطلق إذا أردت نفيا، والتأكيد المطلق إذا أردت تأكيدا، وللموضوع تفاصيل.
كانت البداية الباهتة السخيفة مع نابليون بونابرت (ت 1821م) وحملته الشهيرة على مصر سنة 1798م، واستجاب له فيها عدد من الأقباط (المعلم جرجس الذي تم تعيينه مفتشا إداريا عاما لمصر، والمعلم يعقوب الذي كوّن لواء قبطيا عسكريا).
في فترة الاحتلال البريطاني بعد اغتيال بطرس باشا غالي، رئيس محكمة دنشواى الشهيرة التي أصدرت أحكاماً ظالمة على المصريين البسطاء، وسعى الإنجليز بعدها لعقد ما عرف بـ”المؤتمر القبطي” عام1911 م، هنا أيضا كان موقف الكنيسة من هذا المؤتمر موقفا وطنيا خالصا (البابا كيرلس الخامس، البابا 112).
كانت الانعطافة التاريخية التي سيقف عندها كثير من الباحثين بكثير من الاهتمام.. لماذا؟ لأنها حملت في أحشائها “جنينا” ستتم ولادته في توقيت بائس للغاية وسيء للغاية وغريب للغاية.. وأتحدث هنا عن جماعة “الأمة القبطية”
ثم كانت الانعطافة التاريخية التي سيقف عندها كثير من الباحثين بكثير من الاهتمام.. لماذا؟ لأنها حملت في أحشائها “جنينا” ستتم ولادته في توقيت بائس للغاية وسيء للغاية وغريب للغاية.. وأتحدث هنا عن جماعة “الأمة القبطية”، وهي أشهر من أن تُعرّف في تاريخ “الجماعة الوطنية” المصرية؛ لأنها نمت وتكاثرت وأحدثت وأنتجت.. وتبنت خطاب عنف لن تكون له أي أهمية فعلية على الأرض سوى في استدعاءاته التاريخية للدلالة على ما هو أهم وأخطر منه بكثير..
إذ قامت بخطف “بطريرك الكنيسة” غبطة البابا يوساب الثاني (البابا 115)، وأرغمته على التنازل عن الكرسي البابوي، سيعود غبطته إلى بابويته بقوة الدولة التي كانت في بداياتها الأمنية المبكرة (بعد أربعة شهور من حركة يوليو 1952م)، إلى أن يأتي البابا كيرلس السادس (البابا 116) سنة 1959م والذي ضبط علاقة الكنيسة بالدولة طوال الخمسينيات والستينيات، حتى وصول البابا شنودة الثالث لكرسي البابوية سنة 1971م.
وهنا سيتم الاستدعاء التاريخي الدائم والمستمر والمتنوع لعملية الاختطاف الشهيرة للبابا يوساب الثاني.. إذ ستحكي لنا الحكايات أن أعضاء جماعة “الأمة القبطية” أجروا تحويلا تاريخيا لمسارهم الغاضب إلى قلب الكنيسة ذاته ومربط فؤادها (الأكليروس) المجمع المقدس، أعلى سلطة كنسية، ثم ما لبثوا أن سيطروا على الظل السياسي والاجتماعي لعموم الأقباط في البلاد والمعروف بـ”المجلس الملي”، وهي السيطرة التي ستحدث تزاوجا مخيفا؛ ليس فقط لأنه لم يحدث في تاريخ الكنيسة القبطية من قبل، ولكن لمخالفته للناموس المسيحي في جمع الديني والعلماني في قبضة واحدة..
بتنحي غبطة البابا شنودة في سنة 2012م ومجيء غبطة البابا تواضروس (74 سنة) في نفس السنة، سيكون على المصريين أجمعين أن ينتظروا بعض الشيء حتى يعود الشأن القبطي كله (المجمع المقدس والمجلس الملي) إلى ترتيبه التاريخي الأول في الفصل بينهما، أيضا -وهو الأهم- وحتى يعود الأقباط إلى الحضن الأوسع للوطن
وهذا هو باختصار شديد ما عنيته بالتوقيت البائس للميلاد الغريب.. إذ سيدخل الرمز الأهم في جماعة “الأمة القبطية” والذي سيصبح رسميا غبطة البابا الــ117 للكنيسة القبطية “شنودة الثالث”؛ في صراع مع كل من يجرؤ على تحدي شخصه وسلطانه وهيمنته.. بدءا من رئيس الدولة شخصيا (الرئيس الأسبق أنور السادات/ ت 1981م) وانتهاء بأصغر “شماس” في أصغر كنيسة في أصغر قرية مصرية..!! ليحكم السيطرة التامة على شؤون الأقباط (الروحية والسياسية)، الأمر الذي كان في أبسط وأنصع صوره وضوحا لطموح شخصي جارف لدى غبطة البابا شنودة؛ الذي كان يرى نفسه دائما أكبر من الكرسي البابوي، بل وأكبر من الدولة ذاتها.
بتنحي غبطة البابا شنودة في سنة 2012م ومجيء غبطة البابا تواضروس (74 سنة) في نفس السنة، سيكون على المصريين أجمعين أن ينتظروا بعض الشيء حتى يعود الشأن القبطي كله (المجمع المقدس والمجلس الملي) إلى ترتيبه التاريخي الأول في الفصل بينهما، أيضا -وهو الأهم- وحتى يعود الأقباط إلى الحضن الأوسع للوطن في ظل الجماعة الوطنية الواحدة.
والأكثر أهمية في الحقيقة هو أن في ذلك كله تحقيق الأمان لنا جميعا، كما كان يقول دائما الراحل الكبير الأستاذ طارق البشري رحمه الله (ت2021م).. لأن الأمان في العمق.