اللغة العربية .. ووصل ما لم ينقطع أصلا

اللغة العربية .. ووصل ما لم ينقطع أصلا

د. هشام الحمامي

بقلم د. هشام الحمامي

يكفى اللغة العربية فخرا أنها حملت رسالة الإسلام خاتم الأديان السماوية ..فأزدادت به خصبا وثراء وسعة  وغنيت منه بألفاظ كثيرة جديدة لتوصيف ما جاء به الإسلام من مفاهيم وأفكار ونظم وقواعد سلوك وأخلاق ..وأصبحت العربية بذلك لغة الدين والثقافة والحضارة والحكم فى وقت واحد..نقول ذلك بكل فخر وإعتزاز وشرف والعالم كله يحتفل باليوم العالمى للغة العربية (18 ديسمبر).


أختيار التاريخ كان من المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو (المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة)وهو التاريخ الذى يوافق اعتماد الأمم المتحدة للغة العربية كلغة رسمية عام 1973م إلى جانب خمس لغات أخرى:الإنجليزية/ الفرنسية/ الصينية/ الروسية/ الإسبانية اعترافا لها بحيويتها وتطورها ومساهمتها الكبيرة في تطوير الحضارة الإنسانية عبر العطاء الغزير لمفكريها ومثقفيها في كافة المجالات العلمية والفكرية والابداعية ..

اللغة العربية ذات أهمية قصوى لدى المسلمين فهي لغة مصدري التشريع الأساسيين في الإسلام: القرآن الكريم والسنة ..و هي أيضاً لغة طقوسية رئيسية لدى أغلب الكنائس المسيحية في العالم العربي..سنتذكر البابا غبريال الثاني البطريرك الـ70 للكنيسة المصرية وقراره العظيم بتعريب الصلوات فى الكنائس المصرية عام 1131م



****

والحق أن نزول ( القرآن الكريم) بالعربية الفصحى يعتبر أهم حدث فى مراحل تطورها.. فقد وحد لهجاتها المختلفة فى لغة فصيحة واحدة وأضاف إليها ألفاظا كثيرة وأعطى لألفاظ أخرى دلالات جديدة كما ارتقى ببلاغة التراكيب العربية وكان سببا فى نشأة علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والأصوات وفقه اللغة والبلاغة.. وانتشار الإسلام ساهم بدور كبير في سمو مكانة اللغة العربية لتصبح لغة السياسة والعلم والأدب ..ما جعل العربية ذات تأثير قوى على كثير من اللغات الأخرى في العالم الإسلامي كالتركية والفارسية والكردية والأوردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وأيضا بعض اللغات الإفريقية مثل الهاوسا والسواحيلية وبعض اللغات الأوروبية كالإسبانية والبرتغالية ..واللغة العربية هى اللغة رسمية في كل الدول العربية إضافة إلى السنغال ومالي وتشاد وإريتريا.



****



اللغة قيمة عليا وكبرى فى حياة أى أمة.. فهى ليست مجرد أداة للتواصل وحمل الأفكار ونقل المفاهيم فقط بين أبناء الأمة الواحدة أو الشعب الواحد فقط وبما يحقق بينهم التقارب والتشابه والانسجام.. بل تمثل (الذات العميقة للشخصية الحضارية)لأى أمة..فكرا وثقافة وهوية وتاريخا.. وهى حرفيا وعاء الفكر والفهم وأفق الشعور والخيال للإنسان وهى فى المعنى الأعم : ذاته وهويته أو كما قال أحدهم (بيت كيانه).  

واللغة هى معجزة الإنسان الكبرى كما خلقه الله العلى القدير الأية الكريمة فى سورة البقرة تقول (وعلم آدم الأسماء كلها) ويصفها العلماء بأنها أحد تجليات (رحمة الله )على الإنسان.. الأية الكريمة فى سورة الرحمن تقول (الرحمن.علم القرآن.خلق الانسان.علمه البيان) هى إذن وبحق الرابطة الحقيقية بين عالم الجسد وعالم العقل.  

وتعتبر اللغة أقدم مظهر (للهوية) فهى التى صاغت أول هوية لجماعة ما فى تاريخ الإنسانية.. فاللغة الواحدة هى التى جعلت من كل (فئة) من الناس (جماعة واحدة) ذات هوية مستقلة.. و(اللغة والهوية) صفتان إنسانيتان بامتياز لأن الإنسان وحده دون باقى الكائنات هو الذى يملك الوعى والشعور بنفسه وبغيره.. والإنسان فى جوهره ما هو إلا ( لغة) و(هُوية) .. اللغة فكره ولسانه وانتماؤه ..وفى الوقت نفسه وجهه وحقيقته وهُويته.



واللغة العربية ذات خصوصية من طراز خاص..فهى تمتلك الكثير من عناصر القوة التى تعطيها هذا البعد الحضارى العميق.. فهى (مقدسة) عند أبنائها وقداستها مستمدة من ارتباطها بكلام الله (القرآن الكريم) بحروفه وألفاظه..هذه القداسة تجعل منها جزءا من الدين الذى هو أهم عوامل الهُوية وأقواها حضورا عند الإنسان وهى(محفوظة) .. تعهد الله بأن تبقى ما بقيت الحياة.. الأية الكريمة فى سورة الحجر تقول (إِنا نَحن نَزلنا الذكْر وإِنا لَهُ لَحَافِظونَ).. ولن ينقطع ما حفظه الله ووصله .

سنعرف أيضا أن اللغة العربية من أقدم اللغات التى ما زالت تتمتع بخصائصها ألفاظا وتركيبا وصرفا ونحوا وأدبا وخيالا.. و من أكثر لغات الأرض ثروة فى المفردات والتراكيب .. هى ليست لغة تفكير ونطق فقط بل لغة علم وفن وعقل وروح وصوت وصورة.. ولديها أوسع مدرج صوتى عرفته لغات الدنيا (من الشفتين إلى أقصى الحلق) ما جعلها من أرقى لغات الدنيا بإحتوائها وسائل كثيرة تزيد من قدرتها على تحقيق وظائفها فى التعبير والتواصل وعلى تحمل المعانى المختلفة والتعبير عنها .. ولنا ان نعلم أن قاموس العربية من أغنى قواميس اللغات فى المفردات ومرادفاتها.. إذ تضم أكثر من مليون مفردة.

****



إذا كانت اللغة هى وسيلة الانسان للتعبير عن مشاعره وعواطفه وأفكاره ووسيلته للتفاهم مع بنى جنسه والتواصل معهم فإن لغتنا العربية بالإضافة إلى ذلك كله تعد رمز لكياننا القومى والقلعة الحصينة للذود عن هويتنا وذاتيتنا الثقافية ووحدتنا القومية فهى ذاكرة الأمة.. ومستودع تراثها.. وسيذكر لنا التاريخ أن الأمم التى وحدت كلمتها وأقامت قوميتها وأظهرت كيانها وشخصيتها لجأت أول ما لجأت إلى اللغة كرافعة كبرى لهذا الهدف العظيم (الوحدة الألمانية نموذجا).. وأبناء العروبة تجمعهم (جوامع كبريات / أولهن سيدة اللغاتِ…).  

تبدو اللغة العربية الآن (مكشوفة).. وعزلاء.. وغير قادرة على المواجهة فى أوطانها وبين أهلها.. وهو ما يجعلنا نشعر بالخطرالحقيقى ونحن نراها واقعة بين الإهمال والهجر من جانب وبين المؤامرات عليها وسوء الفهم لخصائصها وإمكاناتها من جانب آخر فى ظل هيمنة ثقافية غربية عاتية تقوم عليها جهات تدأب ليل نهار على نشر ثقافتها من خلال لغتها بجميع الوسائل والصور.

****



سنتذكر أن أول أعمال الاحتلال الانجليزى لمصر كان الترتيب لتحطيم اللغة..سنعرف ذلك من تقرير اللورد دوفرين(1826-  1902م) عام 1882 م والذى كان سفير انجلترا فى الاستانة قبل مجيئه الى مصر خصيصا لترسيخ قواعد الاحتلال بها ..والذى قال كلمته المشهورة : إن أمل التقدم ضعيف  في مصر ما دامت الناس البسطاء تتعلم اللغة العربية الفصيحة ..وهو ما كان يحدث فى طول مصر وعرضها عبر الكتاتيب التى تحفظ القرآن..والذكرى ستستدعى الذكرى لنعرف أنه لما تولى سعد زغلول(1858-1927م) وزارة المعارف في مصر سنة 1906م كان التعليم في المراحل الأولى باللغة الإنجليزية وكان يسيطر على الوزارة المستشارالخطير دوجلاس دانلوب القس الاسكتلندى الشهيروالذى دخل معه سعد فى مواجهة عاتية لتعريب التعليم  و(انتصر سعد)وأمر بتدريس المقررات كلها باللغة العربية وأن توضع مؤلفات جديدة باللغة العربية ..وحفظ على مصر دينها وعروبتها.. وصدق من قال : إن سعدا بهذا القرار أحسن إلى جيلنا كله بجعلنا عربا .

****



معظم دول العالم التى تعتز بقوميتها وهويتها أصدرت قانونا يحمى لغتها الأم (روسيا وفرنسا وإيران والصين وغيرها..). وليس أقل من ذلك يتحتم علينا فعله ولنتذكرالتحذيرات المبكرة لشاعر النيل حافظ إبراهيم(1872-1932م) رحمه الله حين قال: أَيهجرنى قومي عفا الله عنهم إلى لغة لم تتصلِ برواةِ. سرت لوثة الافرنجِ فيها كما سرى لعاب الأفاعى فى مسيلِ فراتِ .

وحافظ هو صاحب القصيدة الأشهر(اللغة العربية تنعى حظها). 

لغتنا العظيمة في خطر كبير الأن..وإذا تعرضت الأمة للهجوم على لغتها.. فهي إذن تتعرض للهجوم على كيانها ذاته..وهذه حقيقة من الحقائق الحضارية الهامة..لأن اللغة ليست الألفاظ والجمل كما ذكرنا .. ولكنها أعمق مكون فى تكوين الأمة وحجرالزاوية فى بنائها الفكرى الثقافى والعلمى والحضارى وهى مركز الدائرة فى وجودها كله.  

وأختم بما قاله أحد الرواد الكبار للعربية وثقافتها ولسانها الدكتور طه حسين(1889- 1973م) والذى قال: إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب.. بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضا.

اترك تعليقاً